الاثنين ١ آب (أغسطس) ٢٠٢٢

ناجي نعمان في تكريم فؤاد الشَّايب

قُروشٌ لا تُشْبِعُ لأقراشٍ لا تَشْبَع!

أيُّها الأحبَّة،

غُروبَ تَسخيفٍ وسَخافَة، وشُروقَ تَثقيفٍ وثَقافَة، وبَعدُ،

تَعودُ بي ذِكرى المَكانِ إلى زَمانٍ جَميلٍ لَم يَتَعدَّ، ويا لَلأَسَف، عامَهُ الأوَّل.

تَعودُ بي إلى العامِ الجامعيِّ 74-75 مِن القَرنِ والألْفِ المُنْصَرِمَين، وذا البناءُ يَومَها كُلِّيَّةُ حُقوقٍ وعُلومٍ سياسيِّةٍ وإداريَّة؛ كُلِّيَّةٌ عَرَفَتِ اللِقاءَ الفِعليَّ لِلكَسْرَوانِيِّ الَّذي كُنْتُ مع الآخَرِ المُغايـِرِ كَما خُيِّلَ لي، وخُيِّلَ لِلآخَرِ، ولا آخَرَ مُغايـِرًا في المُطلَقِ، صَدِّقوني؛ كُلِّيَّةٌ شَهِدَتْ مَقاعِدُ صالاتِها، وزَواياها، وأروِقَتُها، وحدائِقُها، زَخَّاتٍ مِن تَفاعُلاتِ الحُبِّ البَريءِ، فالأدنَى بَراءَةً، كلامًا وانفِعالاتٍ وأفعالا!

أجَل، تَعودُ بي ذِكرى المَكانِ إلى زمانٍ جَميلٍ لَم يَدُمْ، إذْ قَطَعَتْهُ زَخَّاتٌ أُخرَياتٌ، مِن الرَّصاصِ هذه المَرَّة، ما لَبِثَ مُطلِقوها أنْ تَسَلَّموا زِمامَ الأمورِ والمُبادرةِ في بَلَدٍ كُتِبَ عليه ألاَّ يَعرِفَ الوَحدةَ يومًا، حتَّى لا أقولَ هذا ما كَتَبَهُ له بَنوه!

ولكنَّ الذِّكرى، السَّاعةَ، وعلى الرَّغم مِن ذا وذاكَ، تُلزِمُني، على غِرارِ مَجنونِ لَيلى، وقَد مَرَّ كُلٌّ مِنَّا بِدِيارِه، أنْ أُقَبِّلَ "ذا الجِدارَ وذا الجِدارا".

وأحِبَّتي،

في زَمَنِ الكورونا، الجائِحَةِ القاتِلَةِ، والفَسادِ، الجائِحَةِ الأَقْتَلِ الَّتي بَلَغَتْ حَدَّ الإبادةِ الجَماعيَّة، وفي ظِلِّ هُزالِ مُوازَنَةٍ لِثقافةٍ وَجَبَ رَفْعُها إلى سِيادةِ السِّيادةِ، قَدْرًا واقتِدارًا، ذلكَ أنَّها هي الَّتي تَقْضي على الجَهلِ والتَّعَصُّبِ، ومِن شأنِها، في رَأيي، مَتى كانَتْ حُرَّةً، مُنفَتِحَةً، مَجَّانيَّةً، أنْ تَصنَعَ السَّلامَ؛ قُلتُ، في زَمَنِ الجائِحَتَينِ القاتِلَتَينِ أعلاهُ، يُطِلُّ المُرتَضى لِيَعودَ الحَراكُ إلى المَشهدِ الثَّقافيِّ، ولَو مِنَ اللاشَيء.

نَعَم، يَعودُ الحَراكُ الثَّقافيُّ، بِفَلْسِ الأرمَلَةِ يَعودُ، وبأنشِطَةٍ مُتَنَوِّعةٍ، وكَذا بِخَطَواتٍ جَريئةٍ مِن مِثلِ تَعيينِ ابنِ الرَّابعةَ عَشْرةَ، جُويْ پيير حَدَّاد، منذُ أسابيعَ خَلَتْ، "مُستَشارًا مُعاوِنًا لشؤونِ تَحسينِ علاقةِ جيلِ الشَّبابِ باللُغةِ العربيَّةِ وتَوطيدِها والاهتِمامِ بالأنشِطَةِ الثَّقافيَّةِ الَّتي تُنَظِّمُها المدارسُ ومُتابَعَتِها".

وأتَذَكَّرُ في ذا الإطارِ الجائزةَ الَّتي أطلَقْتُها في العام 2007، جائزةَ الأديب مِتري نعمان للدِّفاع عن اللُغة العربيَّة وتَطويرها، وأغنَمُها فُرصَةً لِوَضعِ مَخزونِ داري ومؤسَّستي للثَّقافة بالمَجَّان مِن الكُتُبِ في تَصرُّفِ

وِزارَةِ الثَّقافةِ لتَشجيعِ أيِّ نشاطٍ ثقافيٍّ مُقْبِل، وكَذا أَضَعُ في التَّصَرُّفِ برنامجَ السِّياحةِ الثَّقافيَّةِ للطَّلَبَةِ الثَّانَوِيِّين الَّذي أطلقتُه في العام 2012.

ولعلَّ مِن مَزايا القاضي الوزير محمَّد وِسام المُرتَضى، إلى الحَراكِ الجَريءِ، أنَّه يُحْسِنُ انْتِقاءَ المُكرَّمينَ، فيَتَخَطَّى الاسمَ لدى التَّكريمِ، ومَدى الشُّهْرَةِ - وكَم تَكونُ الأخيرَةُ زائِفَةً - ويُقَدِّرُ الأفعالَ في الإنسانِ، والنِّتاجاتِ. وبِذا نَجِدُنا اللَحظَةَ، جَميعًا، في حَضرَةِ فؤاد الشَّايب، الأديبِ والقاصِّ والرِّوائيِّ والإعلاميِّ والصِّحافيِّ والكاتِبِ السِّياسيِّ والمُناضِلِ، وفي عُرْفي أنَّ الرَّاحِلَ الكبيرَ، هو الآخَرُ، يَجِدُ نَفسَهُ اللَحظَةَ في حَضرَتِنا، ثُلَّةً مِن مُحِبِّينَ ومُقَدِّرين، ولَو بعدَ مِئَةٍ وأحدَ عَشَرَ عامًا على مَولِدِهِ الَّذي كانَ، ويا لَلصُّدفَةِ، في العام 1911.

وأقولُ لكم، إثباتًا لِحُضور الشَّايبِ بَينَنا:

أُنظُروا معي إلى الفَتى، تَجِدوهُ في بَلدةِ مَولِدِه "مَعلولا"، مع أبناءِ جيلِه، مَسيحيِّينَ ومُسلِمين، يَحتَفِلُ بالأعيادِ، عيدِ الصَّليبِ، يليهِ عيدُ القدِّيسةِ تَقلا، وعيدُ القدِّيسَين سركيس وباخوس. يَحتَفِلُ معهم، يُصَلِّي، يَلْهو، يَفْرَح. ولا عَجَبَ بَعدَها أنْ نَسْتَخلِصَ أنَّه جُبِلَ مِن صَخرِ "مَعلولا" تلك، وفَجِّ مار تَقلا فيها، ونُحِتَ رَجُلاً صُلْبًا، كلامُهُ السَّيفُ المُصْلَتُ؛ وأنَّه، مِن مَمَرَّاتِها وساقِيَتِها وثَلجِ شِتائِها النَّاعمِ اسْتَقَى دِپلوماسيَّتَهُ المُمَيَّزةَ، دِپلوماسيَّةً لا مُراءاةَ فيها.

وتابعوا معي، أحبَّتي، مَسيرةَ فؤادٍ، طالِبِ المَعرِفَةِ وحامِل اليَراعَةِ، تَلحَظوا نَيلَه عامَ 1928 جائزةَ التَّفَوُّق بالضَّاد كما بلُغةِ شِكْسـﭙيرَ في مدرستِه الدِّمَشقيَّة، وتَخَرُّجَه في كُلِّيَّةِ الحقوقِ بالجامعةِ السوريَّةِ عامَ 1932. سافَرَ بعدَها إلى باريسَ لنَهْل ما استَطاعَ مِن لُغة مولييرَ والثَّقافةِ الفرنسيَّة، وعادَ مِنها عامَ 1934 مُتَأَثِّرًا بالمَبادئِ الاشتِراكيَّةِ الرَّائِجَة، ما جَعَلَهُ يُدَبِّجُ في صُحُفِ ذاكَ الزَّمَنِ ومَجلاَّته، المَقالاتِ الأدبيَّةَ والسِّياسيَّةَ والفِكريَّة، ولا سيَّما في "فَتى العَرَب" و"الاستِقلال العربيّ"، ويَنشُرُ نِتاجَهُ في فَنِّ القَصَصِ الهادِفِ، ويُتَرجِمُ نُصوصًا مِن الفرنسيَّة إلى العربيَّة.

ولاحِظوا معي نِضالَ الشَّايبِ وهو، بَعدُ، في عِزِّ شَبابِه، تَفْهَموا لِمَ، في العام 1939، لَجَأَ إلى الهَرَبِ مِن سوريا حيث لاحَقَتْهُ سُلطاتُ الانتِدابِ الفرنسيِّ، إلى بَغدادَ العراقِيَّةِ حيث دَرَّسَ وتَوَلَّى رِئاسةَ تحريرِ جريدةِ "البلاد". وإذْ عادَ إلى سوريا في العام 1942، انتَظَمَ في وَظائِفِ الدَّولةِ، وشَغَلَ مَهامَّ عديدةً، وكانَتْ له يَدٌ في تأسيسِ الإذاعةِ السُّوريَّةِ، فالتِّلفازِ السُّوريّ. وتَمَيَّزَتْ علائِقُ الشَّايبِ بالرَّئيس شُكري القُوَّتلي، فكانَ مُقَرَّبًا منه، مُرافِقًا إيَّاه، يَكتُبُ له خِطاباتِه. ولَعَلَّ أبرَزَ المَهامِّ الَّتي شَغَلَها تَوَلِّيهِ بالقاهرة، في عَهدِ الوَحدةِ بين مِصرَ وسوريا، مَنصِبَ المديرِ العامِّ في مَلاك رِئاسة الجمهوريَّة، فكانَ إلى جانبِ الرَّئيس جمال عبد النَّاصِر، وذلك حتَّى تاريخِ الانفِصالِ بينَ البلَدَينِ في العام 1961. وقد عادَ بعدَها إلى سوريا وشَغَلَ مَهامَّ مُختَلِفَةً في وِزارَتَي الثَّقافة والخارجيَّة.

وسَلوا عن نَشاطِ الصِّحافيِّ ورَجُلِ الثَّقافةِ، أُفِدْكُم أنَّه، بالإضافة إلى ما تَقَدَّمَ، ارتَبَطَ اسمُ فؤاد الشَّايب بمجلَّةِ "المَعرِفَة" الَّتي أُصدِرَتْ في العام 1962، وبإسهامِهِ في تأسيس جمعيَّاتٍ أدبيَّةٍ في سوريا كـ "نَدوة المأمون" في العام 1933، و"جمعيَّة أدباء الإقليم السوري" في العام 1959، كما ارتَبَطَ اسمُه بمُشاركتِهِ في الكثيرِ من المؤتمرات الأدبيَّة في سوريا ولبنان ومِصر والعراق.

أمَّا عنِ الوطنيِّ المُدافِعِ عن القضايا الحَقَّةِ فلا تَسَلوا، أحِبَّتي. فبَعدَ سنواتٍ مِن الخدمة المَدَنيَّةِ في سوريا، وفي مِصرَ خلالَ الوَحدَة، أُعيرَ فؤاد الشَّايب في كانون الأوَّل 1966 إلى جامعة الدُّول العربيَّة لمُدَّةِ ثلاثِ سَنوات، وعُيِّنَ مُديرًا لمَكتَبِها في الأرجنتين. ولَئِن هو التَحَقَ بوَظيفتِه الجديدةِ في شُباط مِن العام التَّالي، فقد واجَهَ مُضايقاتٍ جَمَّةً، بَل حَمَلاتٍ قاسِيَةً مُوجَّهَةً ضِدَّه شخصيًّا مِن قِبَلِ المُنظَّماتِ الصِّهيونيَّةِ لِما عُرِفَ عنه مِن نشاطٍ بين أبناءِ الجالياتِ العربيَّة هناك، وتَفانٍ في الدِّفاعِ عن القضايا العربيَّةِ بعامَّةٍ، والقضيَّةِ الفلسطينيَّةِ بِخاصَّةٍ، وكانَ العَمَلُ الفِدائيُّ قدِ انطَلَق.

وبَلَغَ الأمرُ حَدَّ التَّظاهُرِ وإلقاءِ قَنابِلَ حارِقَةً ثلاثَ مَرَّاتٍ على مكتبِ الجامعةِ العربيَّةِ الَّذي تَوَلَّى الشَّايبُ مَسؤوليَّتَه. وقُبَيْلَ إلقاءِ القُنبلَةِ الثَّالثةِ في الثَّامنِ والعِشرينَ مِن شُباط 1970، تلكَ الَّتي أدَّت إلى تدمير جُزءٍ مِن المكتبِ، كانَ الفُؤادُ يَهُمُّ بِتَركِ سيَّارته لِدُخولِ مَقَرِّ عَمَلِه، فأُصيبَ بالسَّكتَةِ القلبيَّةِ، وبَقِيَ مَريضًا بينَ إنعاشٍ في مُستَشفًى ونَقاهَةٍ في بيتٍ إلى أنْ أَطلَقَ اللهُ عَبْدَهُ بتاريخِ الحادي عَشَر مِن تمُّوز مِن العامِ عَينِه، فنُقِلَ جُثمانُ الشَّايبِ، الشَّاهِدِ والشَّهيد، إلى سوريا، ودُفِنَ في مَقابِرِ الرُّوم الأُرثوذُكس بدِمَشق.

هكذا، أعزَّائي، غابَ فؤاد الشَّايب، الأديبُ والصِّحافيُّ والمُناضِلُ، ذاك الَّذي استَلَّ اليَراعةَ صَغيرًا، ولَم يترُكْها إلاَّ مُرْغَمًا؛ بأمرِ المَوتِ غابَ، بَل بِفِعلِ القَتلِ؛ غابَ حَبيبَ حَرفٍ وعُروبَةٍ ورأيٍ مُستَقيم؛ غابَ وهو، بَعدُ، في عِزِّ العطاءِ؛ غابَ ولَمَّا يُعَيِّدِ السِّتِّينَ!

غابَ الشَّايبُ فخَسِرَتْهُ عَوالِمُ كثيرةٌ، مِنها عالَمُ النَّشْرِ، إذْ كانَ يَنْوي، بعدَ انتِهاء مُهِمَّتِهِ الأرجنتينيَّةِ، أنْ يَتقاعَدَ مِن العملِ الإداريِّ والسِّياسيّ، ويَنتَقِلَ إلى بيروتَ لِلعَيْشِ فيها وإنشاءِ دارٍ للنَّشْر؛ وتلكَ، لَعَمري، الخَسارةُ الأكبَرُ، فالرَّجُل النَّاضِجُ القادِرُ أدبيًّا قرَّر أخيرًا التَّفَرُّغَ لِلكِتابَةِ، لكنَّ الأيَّامَ لَم تُمْهِلْه!

أمَّا إرثُ الفُؤادِ ففي سيرتِهِ نَجِدُه، في مَجموعةِ أعمالِهِ الكامِلَةِ نَجِدُهُ، في مَقالاتِهِ الاجتماعيَّةِ والوطنيَّةِ والثَّقافيَّةِ، وفي كُتُبٍ لهُ مِن مِثلِ "كيف نُجابِهُ إسرائيلَ" (نَشَرَه منذُ العام 1951)، و"جمهوريَّتُنا" (1960)، و"يومُ مَيْسلون" (1960)؛ وكَذا نَجِدُ الإرثَ في كَنزٍ مِن القُصَصِ تَرَكَهُ لنا، ولا سيَّما في مجموعتِه الأولى "تاريخُ جُرح" الَّتي صدرَتْ عن "دار المَكشوف" في بيروتَ في العام 1944، وكانَ الشَّايبُ كَتَبَها بينَ عامَي 1930 و1940، وعَبَّرَ فيها كما يقولُ هو "عن تطوُّرات نَفسِه في مراحلَ معيَّنَةٍ، وتتضمَّنُ كلَّ ما أحبَّ وما أبغضَ في لحظةٍ ما"، واصِفًا إيَّاها بأنَّها "وليدةُ ظروفٍ زمنيَّةٍ وأحوالٍ نفسيَّة".

ولِلفُؤادِ، إلى هذا، إرثٌ ذُرِّيٌّ تَمَثَّلَ بابنِهِ الپروفِسُّور زُهير الشَّايب، عميدِ كُلِّيَّةِ الجيولوجيا بجامعة أوكلاهوما الأمريكيَّة الَّذي غابَ باكِرًا، ولَم تَستَطِعْ أمُّهُ، قَرينَةُ أديبنا ومُناضلِنا، على فِراقِه، فقَصَدَتْ جَنَّتَه.

ويتمثَّلُ ذا الإرثُ اليومَ بالدُّكتور عصام الشَّايب، الخبيرِ بالعلائِقِ العامَّةِ في واشِنطن، أطالَ اللهُ في عُمرِه، كما يتمثَّلُ، ويستمرُّ أدبيًّا، مع ابنته إقبال الشَّايب غانِم الَّتي تَوَسَّمَ والِدُها فيها، وفي قَلَمِها، خَيْرًا، فوعَدَها بمكتبته الأدبيَّة صَبِيَّةً، ووَعَدَتْه الصَّبِيَّةُ بِامِتِشاقِ اليَراعة، فوَفى الأبُ بِوَعده، وكذا وَفَتِ الابنَة.

أيُّها الأحبَّة،

لَمْ يَكْتَفِ فؤاد الشَّايب بِـ "تَسْبيعِ الكاراتِ"، فـ "تَسَّعَها"، ونجحَ بكُلِّ ما ذَهَبَ فيه، بَل بَرَّزَ. نَجَحَ لأنَّه عَشِقَ عَمَلَه، وكانَ صادِقًا فيه، آمِلاً، بَل مؤمِنًا.

وإنَّ الرَّجُلَ الَّذي نَبَضَ قلبُه بلُغَةِ المَسيح الثَّائِرِ بِمَعلولا، لَئِن تأثَّرَ بالثَّورةِ الفرنسيَّةِ، فقد ثارَ على الانتِدابِ الفرنسيِّ في المَشرق. أمَّا شَغَفُه فللضَّادِ بَقِيَ ولِقضايا العُرْبِ المُحِقَّةِ، ولِذا انبَرى يُدافِعُ، باليَراعةِ تَدعَمُ العَمَلَ، عن حُقوق أبناءِ جِلدَتِهِ في الاستِقلالِ والوَحدَةِ. وكانَتِ الرِّوايَةُ عندَه تُنافِسُ القَصَصَ، والأدبُ الاجتِماعيُّ يَسْبِقُ الكتاباتِ السِّياسةَ، مع سَعيٍ لديه لِدَمْغِ أحرُفِه بالأنسَنَة.

رحلَ الشَّايبُ منذُ أكثرَ مِن خَمسين، تَرَكَ زمنًا جميلاً في كلِّ شيءٍ، حتَّى في تَلَقُّفِ الهَزائِمِ، فالرَّأسُ كانَ، بَعْدُ، مَرفوعًا. أمَّا اليومَ فالزَّمنُ للزَّحفِ على البُطونِ وطأطأةِ الرُّؤوسِ، و"سَماعُ الكلمةِ" النَّصيحةُ للمُحافظة على مَلءِ البُطونِ وعَدَمِ قَطْعِ الرُّؤوس، ولاستِمرارِ نَهبِ أموالٍ هي مِن حَقِّ الشُّعوب، أموالٍ تُصْرَفُ في التَّافِهِ الدَّاخِليِّ بالمُفَرَّق، وتَبْقى غِبَّ الطَّلَبِ الخارجِيِّ بالجُملَة.

ولا أظُنَّ الشَّايبَ كانَ راضِيًا بِما شَهِدَ في حَياته مِن خَيباتِ أمَلٍ، مِن حُروبٍ ومَعارِكَ، ومِن وَحْداتٍ مُتَسَرِّعَةٍ ضائِعَةٍ، ومِن جَهْلٍ يَنْقَلِبُ تعصُّبًا قاتِلاً في غِيابِ تَعميمِ الثَّقافةِ حتَّى لا أقولَ في غِيابِ فَرضِها.

لكنَّ الرَّجُلَ، بِرَحيلِهِ، وَفَّرَ على نَفسِهِ خَيْباتِ أمَلٍ مِن "العِيارِ الثَّقيلِ"، تَبدأُ بِاندِثارِ أيِّ فِكرٍ وَحدَويٍّ، وتَمُرُّ بِارتِفاعِ مَنسوبِ الجَهلِ حَدَّ التَّكفيرِ وإعدامِ شُعوبٍ بأكمَلِها بالحديد والنَّار، وبِكَيْدِيَّةٍ تَقْلِبُ أيَّ نَصرٍ لأمَّةِ العُرْبِ شِبْهَ هزيمة، وتُبْعِدُ نُهوضَ تلك الأمَّةِ بِشَتَّى الوسائِل، وتَجعَلُ مِن الرَّأسماليَّة المُتَوَحِّشَةِ دينًا جديدًا يَقضي على المُثُلِ والفَضائل المُتَبَقِّيَةِ بينَ البَشَر.

أجَل، ارتاحَ الشَّايبُ مِن رؤيَةِ استِمرارِ السَّيطرةِ الاستِعباديَّةِ للعالَم العربيِّ، مِن أقصاهُ إلى أقصاه، سيطرةٍ بَيْعَربيَّةٍ وبَيْدَوليَّةٍ، تُدارُ مِن الخارِج، كُلِّ خارِج، على حسابِ الدَّاخِل، كلِّ داخِل!

إرتاحَ الشَّايبُ، إذًا، ولكنْ، ماذا كان لِيَقولَ لو عاشَ زمنَ فَسادنا وتَقهقُرنا؟ ماذا كانَ لِيَقولَ أمامَ انهِيارِ طُموحاتِ أبناءِ جيلِه والأجيالِ اللاحِقَة، وأمامَ التَّراجُعِ في شتَّى المَيادين، وأمامَ فَسادٍ لا حُدودَ له، تُكْرى فيه الأوطانُ والمُقَدَّساتُ، وتُباعُ، وأمامَ جَهْلٍ بَلَغَ حَدَّ التَّكفيرِ واقتِلاعِ النَّاسِ مِن قُراهُم - والحمدُ للهِ أنَّه لَم يَشْهَدْ مأساةَ مَعلولا قَبْلَ استِردادِها – وأخيرًا، ماذا كانَ الشَّايبُ لِيَقولَ أمامَ ضُمورِ الثَّقافةِ على حسابِ عَدِّ القُروشِ مِن قِبَلِ أقراشِ الفسادِ وحيتانِه، قُروشٍ لا تُشْبِعُ لأقراشٍ لا تَشْبَع!

ويا أيُّها الأحِبَّة،

فؤاد الشَّايب، المُحتَفى به السَّاعةَ، مِن كبارِنا غَيرِ المُتَوَّجين، وكَم مِن كبيرٍ لَمْ يُتَوَّجْ بَعْدُ، فيما تُوِّجَ تافِهونَ نَرجِسِيُّونَ فارِغونَ إلاَّ مِن فَراغِ أنفُسِهم، ويُتَوَّجون!

فؤاد الشَّايب لا يَطلُبُ الاحتِفاءَ به، ولا أنْ يُتَوَّجَ، لكنْ، مِن حَقِّه علينا أنْ نُظَهِّرَ حياتَه وأعمالَه أكثَرَ ليَعُمَّ فضلُه، ولِيَبقى مِن ضِمن النُّخبَةِ الَّتي يَجِبُ أنْ تُمَثِّل قدوةً للأجيال الطَّالِعَة.

والسَّلام،

حُرِّرَ بين الخامس والسَّادس عشر من تمُّوز 2022؛ وجرى الاحتفال الخميس 28 تمُّوز عند الخامسة من بعد الظُّهر في المكتبة الوطنيَّة ببيروت على دعوةٍ من وِزارة الثَّقافة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى