الثلاثاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم إبتسام أبو شرار

نشيد الوداع

للرّاحل محمود درويش
 
في ليالٍ ظلماء، استلّ منها الغريب البدرْ...
هاموا يمخرون عباب الدّياجي،
يستجمعون خطاهم، وينتظرون الفجرْ،
يسألون النُّور، ويرجون النَّور في صحراء الغدر.
في غياهب أيّار، في سنة عجفاء،
هبّت أرياح المغول الذّارية العاتيةْ،
سلبت أسرار البحرْ.
فتّتت أسراب الحمامْ.
طيّرت أعشاش البلابلْ.
أحرقت أحضان الأمومةْ.
أذكت أعناق السّنابلْ.
خنقت أنفاس الطّفولةْ.
سجنت أحلام الكهولةْ.
أسقطت أنصاب العروبة.
في غياهب أيّار في سنة عجفاءَ،
جثت أقدام المغول على صدر أنفاسنا،
وامتطوا أعناق الخيولْ.
دقّوا لعروشهمُ
ألحان الطّبولْ.
سلبوا ميلاد الأجداد الأوّل،
أطفأوا ميلاد حضارتنا الآخِر،
حاصروا خطوات الزّمانْ؛
ليعودوا منّا أجنّةْ،
من نسلنا، من سلالة كنعانَ،
لكنّ كنعان يحمي حدود الزّمانْ،
ويسيّجها بالفضّة والأرجوان،
وخطاهُ ها هي، تضرم غابات السّنديان.
سبحان الّذي أسرى بالنّبيّ محمّدْ،
فشبّت خطانا، تُشرَبُ ترب القدسِ، وتمتصّ صخر البلاد،
سبحان الذّي أسرى بالنّبيّ محمّدْ،
عبثًا تصنعون مخاضًا في رحم هَذا المكان،
من أين قُذفتم إلى هَذه الأرض، يا زبد الأمم الهالكةْ،
يا بيت قصيد هجائيّة الطّغيان؟!
في غياهب أيّار في سنة عجفاءْْ،
جاءوا؛ إذ أضحى عصفورًا كلّه أجنحةْ،
يعشق اللّحن والأغنيةْ،
ويسافر فوق النّسيمِ،
يعدّ النّجومَ،
ويلقي بها في صحاري الظّلام،
يلمّ الفراشاتِ، يصبغ ألوانها بنضار الشّمسِ، ويقفز فوق البيادر،خلف الحقول، يباري الأنجم، يرمي ظلّه وسط السّحابْ،
ويخبّئ كرمته في فؤادهِ، يحرسها من عواء الرّيحِ، ومكر الثّعالبْ،
ويعانق حبّات البرتقال النّديّة،
ويذرف دمعته السّحريّة؛
لتمسي ياقوتًا في ليلة صيفٍ
ساحليّة.
 
جاءوا؛ إذ أضحيت شبلاً ينسج عرش طفولته بأزاهير الأقحوانِ،ويغزل من شفق البحر إكليل عرس للوطنِ.
 
وعشقت البحر تضاحك أمواجه، تتأرجح، تمشي فوق الغيومِ،
ويحكي لك الموج عن رحلة السّندبادْ،
عن بحارٍ كثيرةْ،
رمته الرّيح على قرّ شطآنها...
وحفظت الحكايةْ،
وأشجتك أحزان السّندبادْ.
وكرهت البحرَ،
كرهت المراكب تنزف آلاف الّلاجئينْ،
وكرهت المرافئ تجزع من لجّة النّادبينْ،
وذرعت المسافاتِ تعدو،... وتعدو،... وتعدو،... ... ... إلى صحراء المجهولِ.
أعددت المفردات؛ لتنعى عذاباتك القادمةْ،
وبنيت المجازات تنعى انكساراتنا الكامنةْ،
ونقشت على جدران الزّنازينِ: "سجّل أنا عربي"،
وحفظنا اسمك العربي،
وغدوت اسمًا، وغدوت بلا لقبِ،
وتحدّيت السّجن والسّجّانَ،
فللّه درّك صِنديدًا يا أمير الفرسانِ!
كيف أشعلت في الرّوح الحرّى فورة العصيانْ،
ونفيرالغضبِ؟!
لله درّك صبًّا يا شاعر العرب!
وحفظنا اسمك العربي،
محمود حفظنا اسمك العربي،
درويشٌ حفظنا اسمك العربي،
وغدوت اسمًا، وغدوت بلا لقبِ،
وغدا السّندباد قناعك يا أحمد العربي،
وحملت رفات البروة تبنيه فوق خريطتها،
طفت تجرع سمّ الرّحيل، وتبكي أشلاء الشّهداء بدمع هتونٍ،
وتهديهم من كلّ العواصمِ ماء الوريد من القلب للدّربِ.
في تونس أزهر دمعك وردًا، وأنبت حَبًّا، وحُبًّا في مقبرة الشّهداء،
وتجرّحت شوقًا، وأنت جريحٌ يا أكبر الشّعراء.
في كلّ العواصم طفتَ، وما عانقت عيناك ثرى القدسِ،
والبروة في كلّ عاصمةٍ كانت تتجلّى، ومن كلّ عاصمة تشتهي لون حنطتها،
والكرمل يعلو، ويعلو، ويعلو،... ... ... ... كلّ الذّرى،
حيفا غصن بان لا ينحني،
كفر قاسم غابات نخل لا تنثني،
عكّا تطرد الغاصب عن أجفانها،
وتشد ّالبحر لأهدابها،
وتصلّّي ضارعة خلف ظلال الرّاحلين،
طبريّا تمدّ البحرْ
بسفين الخلود،
وزوارق يافا العتيقة تحرس صوت الفدائيّين،
وترنّم أنشودة العودة.
 
في بيروت صار طريق الوطن
أدنى،
صار طعم الفداء أمرّ، وأحلى ،
في بيروت أطللت يا سندباد على التّجربةْ
الجارحةْ،
والمؤامرة الفاضحة.
في طروادةَ اختطفوا في عُرض البحر المراكبْ.
في طروادةْ،
أورق الصّبّار، وأضحى ظلّك مستعليًا،
وتبادلت الأشعار الألحان،
ولغرناطةِ القلب منك مديح الظّلّ العالي،
ومنهم رعافهم الغالي.
 
وحفظنا اسمك العربي،
وحفظنا اسمه العربي،
درويشٌ والقاسمْ
يغزلان مواويل الثّورةْ،
يرصُفان أزقّتها بالنّشيدْ،
يجمعان القلوب بدمع الرّسائلِ،
بين "انصرفوا"، "وتقدّموا"،
لحن الانتفاضة، والموعد الآمل،
يتصدّى لوهم الأباطيل الآفلْ.
 
درويشٌ حفظنا اسمك العربي،
أبصرت الغد بعيون اليمامةْ،
وتراءى لك المشهد الغرناطيُّ، قلّبت سفر الأندلسِ؛
لتخطّ وثيقة مستقبلنا،
موصلاً ماضيها بحاضرنا،
مؤمنًا أن لن يصدق وعدًا يومًا عرقوبُ.
فسبحان من أنجز وعده!
 
وتبصّرت سرّ الزّمن،
بأنامل واعيةٍ، واثقةٍ، حالمة.
من حضن السّاحل أشربت سمّ الرّحيلْ،
حين ودّعت الأصدافَ، وملتَ على أكتاف الّلآلئ، واحتضنتك الرّمالْ،
وتركت الحصان وحيدًا، يبكي الصّهيلْ،
وهززتَ جذوع النّخيل،
وتساقط جمر القنابلْ،
وهوى القتلى فوق كلّ قتيلٍ قتيلْ.
 
وتجهّمنا الأمنياتِ، وأضحت جهامًا في دنيا المستحيلْ،
وحلمتَ، وكان الحُلم أشدّ من الألمِ،
وحلمتَ وكانت رؤياك لا تشبهْ
معنى النّدمِ،
وحلمتَ وكان الحلم نقيضًا للعدمِ؛
إذ كانت عكّا بيت قصيدْ،
والقدس وحيفا عنوانًا للنّشيدْ،
ورفضت الحصان الطّرواديّ، رفضتهُ محشوًّا بقنابل عنقوديّةْ.
 
ورجعت شجيًّا، كما عاد المتنبّي من أرض العربِ؛
إذ ظلّ الحصان الأيّوبيّ مثالاً يضرب في كلّ الخطبِ،
فنًّا وتراثًا للطّربِ،
ومرامكَ لم تصبِ.
وتفرّقت الأصوات، تحشرجت الكلمات، وضاعت غنائيّة العودة الاختتاميّةْ،
لم نهزج، بل أعددنا للموت التّرفيّ بكائيّةْ.
 
درويشٌ حفظنا اسمك العربي،
واحترقتَ شموسًا، تضيئ مسيرتنا الملأى بالمتاهاتِ،
واحترقنا شموعًا، تضيئ مسيرتك الملأى بنشيد المجازاتِ،
حين انطوت في آب السّنابلْ،
وتساقط زهر اللّوز
من أناملك الحالمةْ،
وتناثر يطوي لهيب الدّموعْ.
 
في آب همى دمع قهوة أمّكْ
خجلاً من لظى وجنتيها،
في آب انحنت أشتال الزّنابقْ،
في آب جثت لك أنصاب المجد إكبارًا،
في آب تكسّرت الأرماحُ،
وانتصبت هام البنادق.
في آب ارتدت أشجار السّرو ثياب الحداد،
واختفت خضرة التّين والزّيتون.
في آب اختفيت، وما عدت قبل الغياب
من جحيم الغياب.
درويشُ أمتّ، وأنت الأخضر ُ فينا، وأنت الخصب، ونظمكَ نبعٌ يروي حواشينا؟!
درويشُ أغبت، وأنت الحاضر فينا؟!
أيئست، وأنت الصّلب، وأنت الإرادة فينا ؟!
 
لم تجد ولدًا ضارعًا يدعوك: أبي،
فحسبنا الخلود التّناسل في ذا الوجود،
ووجدت العالم يلتفّ حولك يدعوك: يا شاعري:
الخلود هو الإبداعُ، وليس التّناسلَ، ليس الغنى في الوجودْ.
 
فلنا من شعرك صورة هَذا الوطنْ،
ولنا منه رائحة الخبز، والزّعتر،
ولنا منه طعم السّنابل، تخضرّ في حضن البيدر،
ولنا منه ما هو أبهى وأنضر،
فلنا منه تاريخنا، تاريخ قضيّتنا الأعسر،
وإليكَ نشيد الوداعِ،
إليكَ ترانيم القلب الصّادي،
وإليك الحنين الأبديّ.
وإلينا صدى روحك السّرمديّ.
وإليك نشيج الصّدور المتقرّحة.
فسلام عليكْ،
مذ ولدتْ،
حتّى صرتَ شاعرنا، وفقيد حضارتنا الأكبرْ.
فسلام عليكَ، سلام عليكَ، سلام ٌعليك... ... ...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى