الأربعاء ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم رشا السرميطي

نكذب وتكذبون ولا ندري أيُّما الصَّادق!

أشتاق للعالم الحقيقيِّ، ولمصافحة الطُّمأنينة في محطَّة عمري الملَّون، المكوَّن، المفتَّت، والمبعثر على طاولة الزَّمان. و أحتاج لأن يعانقني الصِّدق، ويضمُّني الحق، بعد طول انتظاري، في تمام السَّاعة اليقين، التِّي باتت على كوكب الأرض نادرةً، بل مفقودةً، لكنَّها ما زالت المرفأ الذي تسكن به روحي، وتطمئن بعد طول التأمُّل، وفيها يستريح الجسد وعقله المتعب. ومن أعلى منارة لذلك الموعد، لم أزل أحلم، بأن يعلن التَّاريخ انتصاري، على ركوب بحر الحياة، وبلوغ الأمان براً، لمن فازت على الأيام، وتفوَّقت في هزيمة اللَّيالي.

لقد أمضيت سنوات وسنوات، أفتِّش عن هؤلاء الصَّالحين، الذين يتطابق كلامهم مع أفعالهم، ولا ينطقون إلاَّ بما يعلمون، وإذا ما قصدتُّهم يوماً فيما لا يعرفون، أسبروا إلى الصَّمت عمَّا يجهلون. وكم بحثتُ، وأنتم كذلك، عن أولئك – الصَّلابة -الذين يرسمون بأحاديثهم للحياة صوراً أجمل، ممَّا هي عليها الآن، لكن، دونما جدوى! ذهب التَّنقيب سدى، ولم أعثر عليهم إلاَّ على هذه الأسطر الضَّيقة، التي جمعت القلم وأحباره بين دفتي ورقة والأخرى، تكاشفتا في وقتٍ أصبح به الكذب إبداعاً سلوكيّاً، لدى الغالبيَّة العظمى، ممن يندرجون في قوائم الإنسانيَّة، بل صار أحد الأخلاق المألوفة، المبرَّرة، المباحة والمتاحة في بنود القيم والمبادئ المجتمعيَّة. بينما كان قديماً من الخصال المعيبة، التي تدعو النَّفس البشريَّة للإشمئزاز، و « القرف » ممن أصابتهم بكتيريا النُّكران والجحود، وظهرت على ملامح تصرُّفاتهم علامات الخداع، حتَّى باتوا يخبرون عن الأشياء بخلاف ما هي عليه في واقعها!

وقمَّة المأساة، أن لا يصدق الإنسان مع الله، ونفسه، ثمَّ الآخرين. إنَّها ذروة الخطيئة عندما نشعر بالحرج، الخجل، الصِّغر.. والإستحقار أحياناً، ثمَّ نتجاهل ذاك الإحساس النَّابض في دواخلنا، عندما تضطرنا الحياة لأن نكون ممن يطلق عليهم كاذب أو كاذبة، وتجبرنا المواقف على عدم البوح بحقيقتها، مجاملة أو خوفاً، رضىً أم عصياناً، هي سيان. نقمع الضَّمير، ونخرس الصَّدى لنداءاته المفزوعة من تمادينا.

ويبقى السؤال الطنَّان، هل هي ترغمنا حقاً، أم نحن نستر بها عورات شخصيَّتنا وعيوبها، وبها نسوِّغ إعراضنا عن الإعتراف بأنَّنا كاذبون! والعقدة في غياب الصَّادقين، يصعب حلَّها دونما لجوء لأوَّل حبل التَّغير الشَّامل، إذ لا يوجد مبيداً لمكافحة هذه الآفة الأخلاقيَّة والفتك بها، والقضاء على آثارها الجاثمة سوى اتخاذنا للصِّدق سبيلاً.

أيُّها الظَّالمون، إنَّ الكذب قضيَّة تفشَّت، هتكت وانسعرت، حتَّى تمَّكنت من أفواه الكثيرين منَّا، بلغت آفاق التمَّلُّق والتزحلق بالكلمات اللاَّلونية. كان كبيراً أو صغيراً، يبقى الكذب كذباً، طفلٌ، رجلٌ، وامرأة، محالٌ.. فلا جنس يمكن إعفاءه من أعباء الكذب، ومقاديره الوخيمة، ومهما اختلف الحدث المكذَّب به، وتنوَّعت الأحداث، يظلُّ الكاذب ملوماً ومدحوراً، من رحمة قلم صادق، لا يقوى على خداع القرَّاء، إن كانوا صادقين أم كاذبين. فلا يمكن له أن يبني غير النُّصوص الصَّادقة، الواضحة، التي لا تشيَّد الفكر السَّليم، بقوام هشٍ على آثار مفاهيم مهدومة، اختفت معالمها بين الشُّعوب، فانحدرت بالذَّات وأفعالها هاوية إلى وديان الرذيلة السَّحيقة، التِّي أبلت محاسنها، وضيَّعت جمال مكارمها. ولأنَّ في الكذب ما يهدم أواصر الإحترام، ويحطِّم صفاء العلاقات الإجتماعيَّة، ويعمِّم الباطل، ويبخس في إيصال مشاعرنا، إذن، لنكفَّ عنه وننتهي، ولنقف، ذات صبح عنوانه: التَّغيير؛ ونتجرَّأ على مواجهة صورتنا أمام مرآة الحقيقة، فلا نكذب ولا تكذبوا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى