الجمعة ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
الدكتور أحمد مستجيرْ..
بقلم إبراهيم سعد الدين

نِصْف قَرْنٍٍ من العِلْمِ والتَّنْويرْ والإبْدَاعِ الجميلْ

وداعاً أيُّها العَالِمُ الجَليلْ.. والفَارسُ النَّبيلْ

تشاء الأقدار أن يكون لقائي الأول بعالمنا الجليل الراحل د.أحمد مُسْتجيرْ في الاحتفالية التي أقامتها مجلة "ديوان العربْ" بنقابة الصحفيين في مصر لتوزيع جوائز القصة القصيرة في الثامن من يناير عام 2005 ، وأن يكون آخر تكريمٍ يحظى به ـ على كثرة ما ناله من أوسمةٍ وجوائز رفيعة القَدْر طيلة حياته ـ هو تكريم مجلة "ديوان العرب" الذي تمَّ قُبيل بضعة أسابيع من رحيله، وأن يكون وداعي له بهذه الكلمة ـ التي تتواضعُ كثيراً أمام جلالِ قَدْره ومكانته وعظم إنجازاته ـ من خلال مجلة "ديوان العرب" أيضاً.

صَعْبٌ بل عسيرٌ على النَّفسِ أن أتحدّثَ عن عالمنا الجليل الرّاحل بصيغة الغائب ـ وهو الحاضرُ في ضمائرنا وقلوبنا وعقولنا وكُلّ خلايانا الحَيّة. لذا أرجو أن يأذن لي القارئ الكريم بأن أتحدّثَ عنه كما أُحسّه رمزاً نابضاً بدّفقِ الحياةِ ووهجِها المُضيء.
هو عالم جليل وأستاذ أكاديمي بارز تخرجت على يديه أجيالٌ من الأساتذة والعلماء والباحثين، وهو مفكرٌ مرموق يُشاركُ بقلمه ولسانه وحضوره الفاعل بمختلف القضايا المصيرية المثارة على ساحات الفكر ومنتديات الرأي ووسائل الإعلام، وهو شاعرٌ وأديبٌ وفنانٌ مُبْدعٌ ومُرهَف الحِسّ، وهو فضلاً عن هذا كله مترجمٌ رفيع المستوى عظيم القَدْر والمكانة في ميدان الترجمة. إنه الأستاذ الدكتور أحمد مستجير.. وهل تنطبق كل هذه الصفات والمواهب والقدرات على أحدٍ غيره ..؟!

ليس بالإمكان أن نحيط ـ في هذه الكلمة الموجزة ـ بكل إنجازات هذا العالم والمفكر والأديب الفذّ، وأية محاولة من هذا القبيل سوف تنطوي على إجحافٍ بحَقّ علَمٍ بارز من أعلام نهضتنا الحديثة، لكن لابُدّ لنا من لمحة عابرة ونُبْذةٍ مُختصَرة، ومن أرادَ الاستزادة فليرجعْ إلى سيرته الذاتية الحافلة بالإنجازات المُبْهرة. فهو ـ كأستاذ جامعيّ ـ تبَوّأ أرفع المناصب ووصل إلى أعلى المراتب الأكاديمية، حيث شغل منصب عميد كلية الزراعة بجامعة القاهرة وعمل أستاذاً متفرغاً بعد بلوغه سن التقاعد. وهوـ كعالمٍ ومؤلّفٍ ومترجمٍ وأديب ـ فاز بأرقى الجوائز وتقلّد أرفع الأوسمة، حيث نال جائزة الدولة التشجيعية ثم وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى ( مَرّتَيْن ) ثم جائزة الإبداع العلمي ثم جائزة الدولة التقديرية ثم جائزة مبارك للعلوم التكنولوجية المتقدمة، وحصل على جائزة أفضل عمل ثقافي وأفضل كتاب وأفضل ترجمة علمية وأفضل كتاب علمي خمسَ مرّاتْ. وهو عُضو بأكثر من عشر هيئاتٍ وجمعياتٍ إقليمية ودولية مرموقة من بينها: مجمع اللغة العربية والمجمع العلمي والمجلس الأعلى للثقافة واتحاد الكتاب والمجلس القومي للتعليم والبحث العلمي، وزميل الأكاديمية العالمية للفنون والعلوم بسان فرانسيسكو .

عَبْرَ مسيرة عطائه التي تمتدُّ لما يقربُ من نصف قرن ـ أثرى الدكتور مستجير المكتبة العربية بالعديد من أعماله المؤلفة والمترجمة والتي بلغَ عددها أكثر من ثمانيةٍ وخمسين كتاباً تتنوع موضوعاتها مابين مجال تخصصه العلمي (التحسين الوراثي)، وموضوعات متشعبة في العلوم والفلسفة (المشاكل الفلسفية للعلوم النووية، صراع العلم والمجتمع، التطور الحضاري للإنسان، الجينات والشعوب واللغات، عواقب الثورة البيوتكنولوجية، في بحور العلم، دفاع عن العلم، عِلم إسمه السعادة، قراءة في كتابنا الوراثي، القرصنة الوراثية، الثورة البيولوجية، عِلْمٌ إسمه الضحك، سِجْن العَقْل ....إلخ ). ومن مؤلفاته ومترجماته في الأدب ديوانان للشعر وكتابان مُترجمان وعدة كتب في اللغة وبحور الشعر والأحاديث والمقالات.

لمْ أشْرُفْ بلقاء الدكتور مستجير إلاّ مرَّاتٍ معدودة، لكن في كلّ مرة كُنتُ أخرجُ من لقائه وقد تغيّرَ شيءٌ أو أشياء في عقلي ووجداني نحو الأفضل والأصوب والأجمل. في كلّ مرّةٍٍ شَرُفتُ بلقائه كُنتُ أجده ـ كما رأيته دائماً بعيون تلامذته الذين أصبحوا الآن أساتذة بالجامعات والمؤسسات العلمية ومراكز البحث ـ جَمَّ الأدب شديد الحياء عظيم التواضع غزير العلم والمعرفة، ومع ذلك ـ وربما بسبب ذلك ـ فهو يُصْغي إلى مُحَدّثه أكثر مما يتكلّم، ويطْرَحُ من الأسئلة أكثر مما يَنْسِبُ إلى نفسه فضْلَ المعرفة، ويُبَسِّطَ القضايا التي تبدو للوهلة الأولى مُعَقَّدة متشابكة ومُسْتغلقةً على الفهم. وهذه الصفة الأخيرة ـ تبسيط الأمور المعقدة وتيسيرها على الفهم ـ تبدو سِمَةً مُشتركة في كُلِّ من صادفتهم من العلماءِ والمفكرين والأدباء الكبار عن جدارةٍ واستحقاق.

يصْعُبُ على أيّ كاتبٍ أن يٌلِمّ ـ في هذه العُجالة ـ بكلّ تفاصيل ودقائق شخصية مثل شخصية الدكتور مستجير على هذا الَقَدْرِ من الغنى والخصْب والعُمْق والتنوّع، لذا سأكتفي الآن فقط بزاوية واحدة من هذه الزوايا. لكن عن أي جانبٍ من جوانب التَميّز المتعددة في شخصية الدكتور مسْتجير أتحدَّث..؟!. سوفَ أحدثكم عنه كمترجم، ليسَ فقطْ لأن جمهور القراء قد تعَرّف عليه عالماً ومُفكّراً بطبيعة الحال، ولكن أيضاً لأن هذا الجانب بالذات هو أكثر الجوانب التي تعرفتُ عليها عن قُرْب من خلال قراءتي لعددٍ غير قليل من كتبه المترجمة .

قبل لقائي بالدكتور مستجير كنتُ قد قرأتُ له عدة كتبٍ بعضها من تأليفه والآخر مترجم، وقد اطّلَعْتُ عليها كمراجع علمية بِحُكْمِ التخصُّص، وتصادف أنني قرأتُ أصولها باللغة الإنجليزية ـ فكانت كتبه المترجمة ـ بحقّ ـ أنموذجاً رفيعاً للترجمة التي تجْمَعُ بين الأمانة العلمية والإخلاص للنّصّ الأصلي، وبين جمال الأسلوب وروْعة التعبير ودقة الصياغة ووضوح البيان بالنّصّ المترجم. تلك المعادلة الصعبة التي لا يجْمَعُ بين طرَفيْها غير ثقاةِ المترجمين. لقد كانت قراءتي لهذه الكتب ـ فضلاً عن قيمتها العلمية ـ بمثابة دروسٍ عملية في علْم وفَنّ الترجمة .

من كتبه المترجمة كتابان هما : "الربيع الصامت" لمؤلفته راشيل كارسون، و"ظاهرة الصوبة" لمؤلفه جون جريبين، صادف أيضاً أنني قرأتُ لهما ترجماتٍ أخرى قام بها بعضُ الأساتذة المتخصصين في الموضوعات التي يتناولها الكتابان، لكن ينقصهم الكثير من مواهب وقدرات الدكتور مستجير وثقافته الموسوعية ومعرفته العميقة بأسرار اللغة وقواعدها وأصولها وجمالياتها، سواء اللغة المصدر أو اللغة الهدف. لذلك فشتّان بين ترجمة هؤلاء ـ التي يستغلقُ عليك فهمها وهضم معانيها ـ وبين ترجمة الدكتور مستجير التي تعتبرُ تُحْفةً أدبية بذاتها، تشعر معها بالألفة والإمتاعِ والمؤانسة.

لقد كان أول الدروس المستفادة من الاطِّلاع على هذه الترجمة هو أنه لا يكفيك لكي تكون مترجماً نابهاً ومتَمَيّزاً في عملك أن تُلِمَّ بلغةٍ أجنبية أو لُغتيْن، وأن تكون عليماً بقواعد وأصول لغتك الأم، وأن تكون ضليعاً في موضوع تخصصك، إذ يلزمك بعد استيفائك لكلّ هذه الشروط أن تتوفَّرَ لديك خلفية ثقافية متعددة المشارب متنوعة الأصول والفروعِ والمصادر عميقة الغَوْرِ والجذور.

أما الدرس الثاني فهو أنك إذا كنتَ قادراً على العظمة فإنه من العارِ أن تقنعَ بِغَيْرِ القِمّة. وإذا كان أندريه جيد يَعُدُّ الكسلَ مثل الخيانة، فإن الدكتور مستجير ـ من خلال ترجماته ـ يُريكَ بالدليل القاطع أن الإنسان قادرٌ على الوصول إلى أعلى مراتب الإبداعِ في تخصصه إذا عقد العَزْمَ وصدقَ الوَعْدَ بالتحصيل العلميّ والاطلاع المسْتمرّ والسّعْي الدءوبِ دون كلل نحو الأفضل والأجود والأرقى.

أما الدّْرْس الثالث، فهو أنه ليس هناك كلمة أخيرة في الترجمة فثمّة دائماً زوايا وأبعادٌ ودلالاتٌ ومعانٍ في النصّ الأصلي ينبغي على المترجم أن يُطيل النظر إليها والتّأمّل فيها لكيْ يتَشبَّعَ بروح النّصِّ ويَتَزوَّدَ بِحِسِّ اللغة التي كُتِبَ بها، فلا يقْنَعُ بالقشور ولا يكتفي بظواهر المعاني وإنما يَِكِدُّ ويتْعب للوصولِ إلى الجوهر.
أعْرِفُ أن ما قيل في هذه الكلمة الموجزة ليسَ أكثر من إطلالة عابرة على حدائق عالمنا الجليل العامرة بأطيبِ القطوف، وقطرةٍ من فيضِ عطائه السّخِيّ في مختلفِ فروعِ العلم والمعرفة، ولكن ما حيلتنا وقد اتسعت ساحة إبداعه وقصُرَ جَهْدنا عن بلوغِ منتهاها..؟!.

رَحمَ الله الراحل الكريم وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وآله وتلامذته ومحبيه الصبر والسلوان وأثابه خير الجزاء عمّا أعطاه من زادٍ علمي وأدبي وحضاري ثمين لوطنه وأمّته والإنسانية جمعاء.

وداعاً أيُّها العَالِمُ الجَليلْ.. والفَارسُ النَّبيلْ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى