الثلاثاء ٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم صبحي غندور

هل يمكن اعتبار الفكر الإسلامي بديلاً لفكرة العروبة؟

أصبح الانتماء القومي، بنظر البعض، أشبه بثوب يُلبس حسب المواسم، والآن موسم كل شيء - بما في ذلك إسرائيل - إلا موسم القومية العربية!

الفكر القومي العربي يعيش هذه المحنة بينما كان من المفترض حصول العكس مع نهاية القرن العشرين، عندما تساقط الفكر الأممي المادي في الشرق الشيوعي لتخرج من بين أنقاضه قوميات عريقة عجز الفكر الشيوعي عن طمسها رغم محاولات وأدها أكثر من مرّة وفي أكثر من مكان؟!
أيضاً، كان مطلع التسعينات تتويجاً ل
مراحل الوحدة الأوروبية التي جمعت في ظلالها أكثر من قومية ولغة وتراث ودين، بل تواريخ وذكريات حافلة بالصراعات والدم والحروب، لكن المصلحة الأوروبية المشتركة في الوحدة تغلّبت على كل التباينات والفروقات...
تُرى، ما كانت جريمة الفكر القومي العربي حتى استحقّ وحده، دون كل التيارات القومية الأخرى في العالم، هذا العزل والعقاب؟
لقد كان الخيار القومي - وما يزال- يعني القناعة بأن العرب أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعددة لكنها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وحضارياً واحداً وتتكامل فيها الموارد والطاقات. والمتضرّرون من هذا الخيار هم حتماً من غير العرب الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون تكامل الأمَّة العربية حفاظاً على مصالحهم في المنطقة وعلى مستقبل استنزافهم لخياراتها ومواردها وطاقاتها المادية والبشرية.

فمن المفهوم أن يحارب غير العرب (على المستويين الإقليمي والدولي) فكرة القومية العربية، لكن لِمَ إطلاق السهام على هذه الفكرة من بعض أبناء العروبة؟
إنّ أزمة الفكر القومي العربي تعود لعدم كونه فكراً قومياً عربياً فقط، ولعدم وجود مفهوم واحد له، فلم يكن له مفهوم واحد لدى كل دعاته، ولم يكن واضحاً لدى المعنيين به (أي عموم العرب) الفرق بين الدعوة القومية وبين الدعاة لها، فاختلط سوء بعض الدعاة وأضرارهم مع حسنات الدعوة وفوائدها.

كانت الدعوة للفكر القومي لا تصدر عن مرجعية عربية واحدة حتى تتحدّد المفاهيم والمنطلقات والأساليب والغايات، بل كان بعض القوى القومية يطرح شعار الوحدة ويحارب القيادة الجماهيرية لهذه الدعوة في مصر الناصرية ويشارك في التآمر على أول تجربة وحدوية في العصر الحديث (وحدة مصر وسوريا عام 1958).

ثم باسم الوحدة وباسم القومية، جرى غزو بلدان أخرى كما حصلت عمليات اعتقال وقتل وتشريد لكثيرين من العرب في أكثر من بلد عربي حكم فيه أدعياء للقومية وليس دعاة حقيقيّون لها.

وكما صحَّ القول المعروف: "كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الحرية"، فإنّ جرائم عربية عديدة كانت تُرتكب باسم الوحدة العربية... لكن، هل أدّت الجرائم باسم الحرية إلى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلِّ فرد وجماعة وأمَّة..؟!
وإذا كانت الحركات الإسلامية قد طرحت فكراً بديلاً لأفكار وتجارب الحركات القومية، فهل يمكن أصلاً اعتبار الفكر الإسلامي بديلاً لفكرة العروبة؟

هذا التساؤل ليس بموضوع جديد على منصّة الأفكار العربية. هو موضوع لا يقلّ عمره عن مائة سنة، فمنذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديداً حول ماهية هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي إلى دول وكيانات بعد انتهاء الحقبة العثمانية. لكن ما حدث خلال القرن العشرين أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية ما بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري. فالعروبة والإسلام في المنطقة العربية حالة متلازمة مترابطة ومختلفة عن كل علاقة ما بين الدين كإسلام والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي. فقد كان على تركيا، لكي تبتعد عن الدين (الإسلام) ولتأخذ بالعلمانية وبالمنحى الأوروبي.. كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية. وهذا المثال الذي حدث في تركيا جعل الكثيرين من العرب المتمسّكين بدينهم الإسلامي يعتقدون أنَّ الحديث عن العروبة يعني التخلّي أيضاً عن دينهم قياساً على التجربة التركية، بينما في الواقع هناك خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام، وهي خصوصية خاصة بالعرب لا تشترك معهم فيها أيّة قومية أخرى في العالم الإسلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم. فحينما يتمّ فصل العروبة الثقافية عن الإسلام الحضاري، فكأنّ ذلك هو فصل لغة القرآن الكريم عن القرآن الكريم نفسه، وكأنّه فصل للأرض العربية التي عليها الحرمان الشريفان والمقدسات الإسلامية.. عن الدين الإسلامي. هذه الخصوصية في العلاقة تجعل من إضعاف العروبة إضعافاً للإسلام، والعكس صحيح أيضاً. لقد كانت حالة الجزائر حينما كانت تحت الاحتلال الفرنسي خير مثال على ذلك، فقد حاولت فرنسا أن تضع بديلين في الجزائر: بديلاً حضارياً، وهو الحضارة الغربية بدلاً من الحضارة الإسلامية؛ وبديلاً ثقافياً حينما حاولت "فَرْنسة" الجزائر وفرض اللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية. فكيف حافظت الجزائر على عروبتها وعلى إسلامها؟ لقد فعلت ذلك من خلال التمسّك بالقرآن الكريم. فمن خلال التمسّك بالإسلام نفسه، تمسّكت بعروبتها. وكان العكس صحيحاً أيضا في تجربة الجزائر. ورغم خصوصية العلاقة بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري، فإنّ هذا الموضوع الشائك لم يحسم خلال القرن العشرين، ورغم إنّه ما زال أيضاً - حسب اعتقادي- هو الأساس لنهضة هذه المنطقة في القرن الجديد، حتى لو كانت هناك ممارسات كثيرة، وما تزال، باسم العروبة وباسم الإسلام، تسيء إلى العروبة نفسها أو للإسلام نفسه. فمن الأخطاء مثلاً، طرح القومية العربية وكأنها إيديولوجية عقائدية، بينما القومية العربية يُفترض أن تكون إطاراً للهوية الثقافية بغضّ النظر عن العقائد والأفكار السياسية. إذ يمكن أن تكون قومياً عربياً علمانياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً إسلامياً؛ ويمكن أن تكون قومياً عربياً ليبرالياً.. أي نستطيع وضع أي محتوى "إيديولوجي" داخل هذا الإطار القومي. فالقومية هي هويّة، هي إطار تضع فيه محتوًى معيناً وليست هي المحتوى. المشكلة التي حدثت، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، تكمن في أنّ معظم من طرحوا فكرة القومية العربية قد طرحوها ضمن مضمونٍ إمَا علماني ليبرالي (غربي)، أو علماني ماركسي (شيوعي)، وفي الحالتين كان هذا الطرح متناقضاً مع الإسلام بشكل أصبحت معه دعوة القومية العربية تعني للبعض الإلحاد أو الابتعاد عن الدين، عوضاً عن طرحها كهويّة أو كإطار ثقافي يشترك فيه العرب ككلّ مهما كانت اختلافاتهم الإيديولوجية أو انتماءاتهم الفكرية.

لقد دخل العرب القرن الجديد في ظلّ هويةٍ قوميةٍ غير واضحة وغير محسومة، وأيضاً في غياب مشروع حضاري محدّد. وهاهم الآن يختلفون حتى على الهوية الوطنية نفسها وعلى ما فيها من تعدّدية داخل المجتمع الواحد. فهل استطاعت الطروحات العربية الفكرية في القرن العشرين أن تضع أمام الأجيال العربية الجديدة رؤيا فكرية سليمة تستطيع هذه الأجيال أن تعمل في ظلّها لبناء مستقبل عربي أفضل؟ وبتحديدٍ أكثر، هل نجحت الطروحات الفكرية القومية في القرن الماضي ثم أيضاً ما اصطلح على تسميته بالصحوة الدينية في الربع الأخير منه، هل نجحت هذه الطروحات القومية والدينية في بناء الأسس الفكرية والثقافية السليمة للعرب حاضراً ومستقبلاً؟

خلال العقود الثلاثة الماضية، تفاعلت قضايا عديدة في المنطقة والعالم، كانت بمعظمها تحمل نتائج سلبية على التيّار القومي العربي، وكلّها عوامل امتزجت كسلبيّات مع انجذاب الشارع العربي إلى ظاهرة "التيَّار الإسلامي" الذي لم يكن أيضاً مؤهلاً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً لقيادة الشارع العربي بشكل سليم ونحو أهداف سليمة وبأساليب سليمة.
واختلط الآن عمل الحركات السياسية الإسلامية مع الحركات العنفية التي شوَّهت في ممارساتها العنفية صورة الدين الإسلامي والمسلمين والعرب عموماً.

وكما كان الطرح الفكري للعديد من الحركات القومية العربية عاجزاً عن استيعاب خصوصية العلاقة بين العروبة والدين، ومهملاً في ضرورة تبنّي النهج الديمقراطي بالأهداف والوسائل، كذلك كان – ولا يزال- العديد من الحركات الإسلامية قاصراً عن فهم وتطبيق هذه المسائل.
إذن، هي أولاً كانت ظروف صعبة للفكر القومي أو التيار القومي، وهي الآن ظروف صعبة للتيارين القومي والإسلامي معاً ولمن يتبع أيّاً منهما، فعسى أن يخرج من هذه المعاناة المشتركة، فكر عروبي ديمقراطي يحلّ مشكلة التيارين معاً ويكون بداية لنهضة عربية جديدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى