الأحد ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
303-في مجلس ابن جِنِّي!
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

«هواة التفسير المعاصرون»

يبدو أن (أبا الطيِّب المتنبِّي) لمَّا سمع الحوار الذي دار في المقال السابق بين (القُمُّص المشلوح) والروائي البرازيلي (باولو كويللو Paulo Coelho) حول الآية القرآنيَّة: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ...، واعتراض القُمُّص على جعل النساء حرثًا للرجال، أغرى بمجلسهما صاحبه الأثير (ابن جنِّي)، فإذا هو يتدخَّل في الحوار، قائلًا:

أمَّا حكاية «نساؤكم حَرْثٌ لكم»، فما يصحُّ أن يُفهَم فهمًا ظاهريًّا لكلمة «حرث» في لسان العرب، مربوطًا أحيانًا بالدلالة الجنسيَّة المتبادرة إلى الذهن من الآية. ولعلَّ بعض كتب التفسير قد ذهبت إلى مثل ذلك المعنى المختزل. غير أن من عرف كلام العرب يعلم أن التعبير القرآني بالحَرْث فيه تكريمٌ للنساء، وليست فيه بالضرورة إشارةٌ جنسيَّة، وإنْ لم يكن في هذا المعنى الأخير منقصة، إلَّا لدَى من يراه كذلك، وذاك شأنه لا شأن الفطرة السويَّة أو الطبيعة التي خلقها الله في كلِّ الوجود. إن كلمة «حَرْث» يُعبَّر بها في كلام العرب عن أعزِّ ما يملك الإنسان، أو أهمِّ ما يحرص عليه في الدنيا، وحتى في الآخرة. وقد جاءت في أشياء أخرى غير النساء، من المال والبنين. ولا يمكن أن يُفهَم في هذين ذلك الفهم الامتهاني الذي رُبِط بالنساء اعتسافًا، بحالٍ من الأحوال! ومن آيات ذلك قول (عليٍّ بن أبي طالب): «إِنَّ المَالَ والبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لأَقْوَام».(1) فما علاقة «الحَرْث»، إذن، بذلك المعنى المباشر الضيِّق الذي فُسِّر عليه في آية النساء؟!

قال أحد الحاضرين:

أجل، يا ابن جنِّيِّ مجلسنا، لكننا نجد، في المقابل، قراءات أخرى- ربما كان هاجسها الدفاع عن النصِّ- تلوي بدورها أعناق الكلمات، وتحرِّف الدلالات عن مواضعها، وتحمِّل النصَّ ما لا يحتمل. ولنأخذ نموذجًا على ذلك من مذهب المهندس الفاضل المعاصر في القراءة والتأويل.
من هذا؟

هو إنسانٌ مفكِّرٌ مجتهد، بالمعنى العام للاجتهاد، ونبيل الطرح، حضاريُّ الخطاب، بلا ريب، طيِّب الطوايا والنوايا.

كلٌّ يؤخذ من كلامه ويُردُّ عليه، وطِيب المقصد لا يقتضي صواب المنهاج.

الرجل من أبرز هواة التفسير القرآني المحدثين، وهمُ كُثر، يلتفُّ حوله هُواة هذا الضرب من الخطاب الذي يُدلي به. لا يحمل تأهيلًا عِلْميًّا لما يخوض فيه، لا بشهادةٍ عِلْميَّة ولا بتحصيلٍ عِلْميٍّ شاهدٍ على جدارته بالاشتغال بالتفسير. بل إن تخليطاته شاهدةٌ على محض تطفُّلٍ على علوم اللغة والتفسير. أضف إلى هذا أهدافه المسبقة التي ينطلق منها، والتي هي سبب تركه الهندسة واتجاهه إلى التفسير على كبر. ما فتئ يأخذ بفقهٍ لغويٍّ، لم يطمثه إنسٌ قبله ولا جان؛ لم تعرفه العربيَّة في أيِّ عصرٍ من عصورها، وليس يستقيم به عقلٌ، ولا نقلٌ، ولا لغةٌ، ولا منطقٌ بيانيٌّ عربيٌّ سليم، ولا سيما لكتابٍ يسَّره الله للذِّكر، منعوتٌ بأنه «بلسانٍ عربيٍّ مبين». فأصبح بلسانٍ عربيٍّ غير مبينٍ على الإطلاق، حسب تأويلات صاحبنا المتطرِّفة، بل بلسانٍ سورياليٍّ كلسان (أندريه برِتون André Breton)!

كيف؟ ولِمَ لا يُناقَش الرجل؟

نحن، يا مولانا، في عصر التكفير والتفجير، لا عصر التفكير والنقاش، عصر التطرُّف والتطرُّف المضاد. لا اعتدال هاهنا؛ فالتطرُّف عقليَّةٌ واحدة. لذلك تجد المتطرِّف يمينًا قد ينقلب متطرِّفًا إلى أقصى اليسار. المتهتِّك، قد يصبح «داعشيًّا» في رغبةٍ تكفيريَّة، والداعشيُّ قد ينقلب متهتِّكًا في نزوعٍ تنفيسي. الأصوليُّ الليبراليُّ لا يختلف عن الأصوليِّ السَّلَفيِّ، فكلاهما يعمل بعقليَّةٍ واحدة، وإنْ اختلفت الغايات. وكذلك عقليَّات الجماعات والمجتمعات. وإنَّما علاج هذه التقلُّبات الرغبويَّة الطفوليَّة هي في سَنِّ القوانين، وإقرار الحُريَّات في إطار القوانين، والتحلِّي بالشفافيَّة النقديَّة. من دون ذلك يستمر التخبُّط من مستنقعٍ إلى آخر. وكي لا نسرف في الاسترسال خارجين عن الموضوع، نعود إلى القول: إنه لم يواجَه طرح الرجل بصورةٍ تتناسب مع موضوعه ومزاعمه.

للأمر أهله، والعربيَّة كفيلةٌ بحسم الأمر.

لم تَعُد اللغة لغة، بل أصبحت طلاسم، أو فلنقل شيفرات، لا بمعنى الشيفرات اللغويَّة التي يأخذ بها المؤوِّلون بمستوياتهم المتفاوتة، ولكنها شيفرات بالمعنى السِّحري، أو الشعوذي! إنه مذهبٌ لغويٌّ شاطحٌ جِدًّا، تفوَّق على كلِّ مدارس الشطح التأويليِّ في التراث الإسلامي؛ لم يفهمه العرب قط في أيِّ عصر من العصور العربيَّة، ولم يُعرِب عنه الرسول، ولم يبلِّغه، ولا سُمِع له صدًى لدَى أحدٍ من المسلمين. به يتحوَّل النصُّ القرآنيُّ إلى أحاجٍ وطلاسم، ما كان ينبغي أن يفهم دلالاتها عربيٌّ ولا أعجميٌّ، إلَّا مهندس، جاء بعد 1400 سنة!

ما هذا الذي أسمع؟!

وبذا تحوَّل نصُّ «القرآن المجيد» إلى «فوازير رمضانيَّة»، لم ينجح أحدٌ في تفسير أحاجيها لأكثر من أربعة عشر قرنًا، حتى أنعم الله على الأُمَّة بحبيب الملايين المهندس، حفظه الله، كي يفسِّر لهم كتاب الله، فيُهلِّل لذلك ذوو الأهواء؛ لأنه يفرِّغ لهم القرآن من محتواه!

وهل من المعقول أن يفعل الله بخلقه هذا؛ فيوقعهم في حيص بيص، من خلال نصٍّ ظاهره شيء وباطنه شيء، أو قل ظاهره واضحٌ جليٌّ مبين، لكنه ليس هو المقصود، بل المقصود ما انتهى إليه صاحبك؟! حاشا لله أن تكون كذلك رسالته، أو أن يكون كلامه تضليلًا للناس!
الحقُّ أن ما يقدِّمه الرجل ليس تفسيرًا، ولا تأويلًا، ولا تأمُّلًا، ولا بحثًا، بل تحريفٌ في مادَّة الكتاب، وهي اللغة: دلالةً، وتاريخَ دلالة، وفقهًا.

لماذا؟

لأن مشروعه، يا سيِّدي، ليس بتفسير القرآن نفسه، كما هو، وكما جاء، وكما كانت غاياته، ولكن مشروعه تفسير العصر الراهن، لجعله قرآنيًّا، بعد تحريف القرآن مبنًى ومعنًى كي يطابق العصر، حذو القُذَّة بالقُذَّة. بل يصل به الأمر إلى رفض ما جاء صريحًا في القرآن، كحدِّ السارق، حينما يرى أنه لم يَعُد مقبولًا، أو لم يَعُد واقعيًّا، أو لم يَعُد مطبَّقًا في (اليابان) أو (روسيا) أو (المكسيك)، كما يقول، ومن ثمَّ فهو ليس بقرآني! هذا منطقه، فلا تضحك! وهكذا يعوم في بحرٍ لُجِّيٍّ من المغالطات، ينتهي بها إلى القول: أنا مؤمن، والقرآن كلام الله، وصالح لكل زمانٍ ومكان، لكن إيماني وقرآني هو ما وافق القائم اليوم فقط، أمَّا ما عارضه، فسأخبركم أنا بمعناه؛ فهو يعني شيئًا ما، لا يتعارض مطلقًا مع ما تقرَّر في الثقافة «الغربيَّة» المعاصرة! لأن معنى أن القرآن صالحٌ لكل زمانٍ ومكان لديه هو: أن ما هو قائمٌ ومطبَّقٌ في برلمانات العالم ودساتير الدول وقوانين المجتمعات هو ما جاء به القرآن تمامًا! قرآنه العصر، وقرآن المسلمين ليس لدَى سعادته سِوى شواهد على العصر، إنْ طابقت طابقت، أو أوَّلها تأويلاته المضحكة. وتلك لوثةٌ نادرةٌ من نوعها ملأت الدنيا ضجيجًا، وصفَّق لها من أرهقهم تركيب الحقِّ على الباطل ليتعايشا في سلامٍ باطل، حتى جاء (أينشتاين) التفسير أخيرًا ليحقِّق هذه المعادلة النسبيَّة الخرافيَّة!

[للحِوار بقية].


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى