الخميس ١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٧
بقلم هيثم نافل والي

واقعة

هناك من لا يعرف الحق كما يعرف الباطل. علي ابن ابي طالب.

كنت جالساً في بيتي تحت قبة السماء تحرسني رعاية الله والجو لطيفاً كفيء الظل عندما اتصل بي أحدهم يكركر جاهلاً سبب تزلفه العجيب منوهاً بجدية لا تتناسب وسنه الضاحك وكركراته اللعينة:

 لماذا تنساني دائماً؟

الحقيقة، باغتني سؤاله، قلت وأنا أشك في نواياه:

 وما الداعي من هذا السؤال؟

كالطلقة:

 لأنك لم تطلب مني يوماً أن أكتب مقدمة لإحدى كتبك كما فعلت مع الآخرين؟ تابع منغصاً الأجواء التي أصبحت ملغمة فجأة: لي رغبة لا تقاوم لفعل ذلك!!

خجلي سبق لساني، كدت أرفض لولا آفتي المنخورة هذه التي لا أعرف كيف أبرأ منها، أجبته دون تفكير طويل:

 تدلل، لك ما تريد، سأجعلك تحقق رغبتك، سأبعث ملف كتابي الجديد الجاهز للطبع الآن بشرط!

صاح بخبل:

 موافق على كل شروطك دون حاجتي لمعرفتها!

 اتق الله يا رجل، اسمع أولاً ثم أعط رأيك، أضفت موجزاً: الوقت مهم بالنسبة لي، الكتاب يعتبر جاهزاً للطبع، لا تتأخر عليّ..

قهقهة من جديد كما يفعل جنرال منتصر، قال:

 سأعتني بمقدمة كتابك كما أعتني ببؤبؤ عيني! لا تقلق، خلال أيام معدودة ستكون عندك. أعدك بشرفي، قال الكلمة الأخيرة وانقطع الخط وأنا ألوب لجهلي المطبق بإمكانيات صاحبنا الهازل الساخر الذي يبدو لا يعرف حتى أن يقسم الشعير بين حمارين!

بعثت له ملف كتابي بعد أن استغفرت ربي وقبلت بقدري ونصيبي..

قلقي بدأ يتورم في داخلي كجنين في رحم أمه، انتظر المقدمة الموعودة الملعونة التي وعدني بها ولم يرسلها، فات أسبوع على حديثنا، شهر، ومرت أيام فوقه ولم يستجد شيئاً؛ المطبعة تنتظر، وبنود العقد كانت واضحة وصريحة، المفروض تسليم الملف قبل أن يتصل الضاحك، مر أكثر من أربعين يوماً ولم يحصل ما تم الاتفاق عليه، فاضطررت متنازلاً للاتصال به..

رفع سماعة الهاتف متبختراً كالطاووس في صياحه:

 أهلاً يا صاحبي! أخيراً تكرمت وتتصل بنا! يجب أن يسجلها التاريخ، هذه اللحظة عليها أن تتوقف كي نأخذ منها صورة تبقى تذكار.. ثم أطلق لنفسه العنان في الضحك الذي لم أجد له سبباً أو منطقا..

قلت أداريه في مأساته العقلية:

 وعدتني بالمقدمة، وبناءً على طلبك أرسلت ملف كتابي بوقتها واشترطت عليك أن تتعامل مع الزمن بحذر، لكنك خلفت وعدك، وحنثت عهدك.. قاطعني كتاجر أعراض، بلا خجل:

 وماذا يعني؟ لم يفت على عهدي غير بضعة أيام! تابع كمن حلّت الخمر عقدة لسانه: صجيتنا! انتظر دقائق وسأرسلها لك، ما هذا؟ ثم أغلق الخط..

استغربت تصرفه غير اللائق، تحجرت الكلمات في حلقي أبت أن تخرج، ولمن تخرج، لقد أغلق اللاهي الخط دون أي اعتبار، تصفحت بريدي الخاص كما وعدني ففوجئت برسالة منه، استبشرت خيراً، حدثت نفسي ألومها على تعجلها، وسوء خاطرها، قلت:

 يعلم الله ما في الصدور، لقد أخذت من الرجل مأخذاً، لم أصدقه ولم أعذره، ربما كانت له ظروفه، وها هي رسالته تصلني كالبرق، لأفتحها وأرى ما في داخلها، وكانت المفاجأة الحقة التي تذيب الحديد بسهولة وتجعله يغلي كالماء..

كانت نصاً رائعاً، اللغة مرنه، شفافة، جزلة، صقلتها بلاغة لا يمكن وصفها بالكلمات التي أعرفها، محكمة، تدق لها فترقص كما يقال، لكنها لا تتعلق بفحوى ومحتوى مجموعتي القصصية التي أرسلتها له! ليس هناك أي ذكر أو إشارة تنوه كقراءة نقدية منها يستهل ويبدأ كتابي لتقديمه للجمهور، ببساطة كانت المقدمة رائعة جداً لكتاب آخر، ليس لها أي علاقة بأفكار كتابي، وعليه شعرت بالريبة أولاً ثم الحزن وأخيراً قررت الاتصال به مجدداً بعد أن فوضت أمري لله:

رفع سماعة الهاتف مختالاً كأمير متنكر كعادته المنحوسة التي أمقتها:

 نعم يا صاحبي، توقعت أن تعاود الاتصال لتشكرني!!

بلهجة مقتضبة خشنة لا تخرج من فتحات غربال:

 عندي سؤال محدد؟

 سل..

 اسمع، كتابي سيخرج إلى المكتبات، ستكتب عنه الصحافة، سيكون عرضة لكل شخص، المسؤولية كبيرة قد لا تتوقعها، وعليه أسألك:

 هل قرأت ملف كتابي وفهمت أفكار قصصي؟!

هي.. هي.. هي.. ومن بين أسنانه الضاحكة، ناح:

 أنا لا أحتاج لأقرأ قصصك، أعرفك جيداً، فلا داعٍ لتضييع وقتي في شيء أعرفه مسبقاً!!

 كيف كتبت المقدمة إذن؟ تابعت منقبض الصدر كشخص يحتضر:

 هل ما كتبته من إبداعك؟ أقصد، كم نسبة ما كتبته وما لطشته من غيرك؟ بمعنى أدق: هل هي لك؟

الملعون كركر من جديد فدمر ما تبقى من أعصاب كانت غير معطوبة في جثتي، ثم غمغم كمارق في الدين:

 وهل أنا نبي أو رسول كي ينزل عليّ وحي يمليني ما سأقول وأكتب؟!

وهنا لم أطق الصبر، انفجرت في وجهه صارخاً بعد أن نسيت نفسي:

 إذا لم تكن نبي أو رسول كتابة لماذا تزج نفسك وتحشرها في شغلة الكتابة؟!

دمدم متأثراً من ردي الصاعق الساحق، نبر:

 هذه عادة تعودت عليها منذ زمن بعيد حتى وقبل أن تولد أنت، آخذ من هنا جملة، ومن هناك فقرة، ألصق هذا بذاك فأستخرج نصاً بديعاً متكاملاً وكما رأيت بنفسك، أضاف بلا إنصاف: بالله عليك، ألم تعجبك المقدمة التي أرسلتها؟ استمر بلا ضمير كأنه يستجوبني في تهمة:

 قل، لا تنكر، أعجبتك أم لا؟ ثم واصل متذمراً قاطعاً للأمل: انظر، لا تنشر لي شيئاً في كتابك، أهمل ما بعثته لك وأعتبر الموضوع في حكم المنتهي، ليس عندي مقدمات أكتبها لك، هل سمعت؟ ارمها ولا تسألني بعد اليوم عن شيء أكتبه لك، وانقطع الخط كما في كل مرة!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى