الأحد ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم حسين حمدان العساف

وقفة مع مدير الثقافة بالحسكة والمربي الراحل

خالد عواد السالم

كان ريفي النشأة، طبعت القرية شخصه بعادات الريف وتقاليده، وأثّرت في تكوينه رغم اتصاله بالمدينة. أبصر النور قبيل انتصاف القرن الماضي بحولين. تعلّم في ابتدائية الإنجيلية، النهضة العربية الخاصة حالياً، ثم ابتدائية الغسانية، وكانت بداية معرفتي به تعود إلى مرحلة الدراسة الابتدائية أيام كانت الحسكة بلدة صغيرة، تغوص في أوحالها شتاء، ويتصبب عرقها صيفاً، وتضاء أطرافها بالمصابيح القليلة ليلاً، أيام تملأ شوارعها الضيقة الحناتير والدّواب والدّراجات، والسيارات القليلة.

ثم انتقل إلى إعدادية الموحدة الخاصة، ثم واصل دراسته الثانوية الفرع الأدبي في ثانوية نور الدين الشهيد المعروفة اليوم باسم ثانوية الفارعة الشيبانية للمتفوقين، ونال الشهادة الثانوية في نكسة حزيران، ثم درس اللغة العربية التي كانت تستهويه في معهد إعداد المدرسين بحلب، ثم أكمل دراسته لها في جامعة حلب، فنال شهادتها. ودرّس مادة اللغة العربية في إعداديات مدينة الحسكة، والتقينا معاً أول مرة في بدايات رحلة التدريس في ( إعدادية البحتري ) سابقاً، مدرسة(الأمل الخاصة اليوم)، وفيها خفق قلبه لفتاة كانت تجاور إعداديتنا، انشغل بها، وحدّثني عنها، هي زوجته (أم رياض)، واحتفلنا في قريته(دولاب العويصي) المجاورة للمدينة بعرسه في ربيع عام اثنين وسبعين وتسعمائة وألف، وغنَّى فيه طويلاً بصوته الآسر زميلنا المعلم فؤاد نيسان الذي تأثر به طالبنا الصغير (إلياس دوميت)، وكان هذا الطالب يومها في الصف الثامن، أدرسه مادة اللغة العربية، ثم أَصبح مطرباً شهيراً، عرف فيما بعد باسم ( إلياس كرم )، ثم أصبح الأستاذ خالد مديراً لإعدادية (الحسن بن الهيثم )، ثم انتقل إلى ( شبيبة الثورة )، فتولّى فيها عملاً قيادياً. والتحق بالخدمة العسكرية في سن متأخرة بعد تأجيل متكرر عنها، وعدنا نلتقي مرة أخرى بالتدريس في معهد إعداد المدرسين بالحسكة، ثم أَصبح مديراً له. ثم موّجهاً اختصاصياً لمادة اللغة العربية، فمديراً للثقافة بمحافظة الحسكة. كان ناجحاً في كلّ عمل تولاّه، مخلصاً له، محققاً فيه النظام والانضباط .

كان فقيدنا ينتمي إلى أسرة ضخمة العدد، تزوّج أبوه الوحيدُ بين طائفة من أخواته عدة زوجات بهدف إكثار الولد في مجتمع عشائري يرى في كثرتهم أماناً لذويهم من الخوف، وسنداً لهم من الفقر، وعوناً لهم على مواجهة التحديات المحتملة من الآخرين. وكانت مساحةُ حصته من أرض أبيه الزراعية صغيرة، لاتتعدّى بضعةَ دونمات، لا تكفيه في مواجهة أعباء أسرته الكثيرة العدد، فكنتَ تراه بعد انصرافه من عمله فلاحاً نشطاً، يكدح في أرضه، ويشقى لتوفير حاجات أسرته، يسهر لتنام أسرته آمنة مطمئنة، ويجوع لتأكل، ويعطش لترتوي، ويقلق لترتاح، وكان تأمين مستقبل بنيه هاجسه الذي يشغَلهُ عن كلّ ما عداه، وسبّب له هذا التفاوتُ بين نفقاتِ أسرته المتنامية ووضعه المادي المحدد العاجز عن تغطيتها قلقاً مستمراً، أقصاه عن المطالعة والثقافة.

كان خالد قليل الميل إلى الكلام، يصغي كثيراً، ويتكلّم قليلاً، صادقاً يكره الكذب، إذا وعد، وفى وإذا صادق، أخلص، عزيز النفس يترفع عن الصغائر، عقلُه عقلُ رجل كبير، وقلبُه قلبُ طفل صغير طيب وديع، ليس فيه للضغينة مكان، ينفعل لأبسط الأمور، لكنه سرعان ما يعود إلى رشده وصفاء قلبه، فهو سريع الغضب، سريع الرضى، ما خاب من قصده على حق يقدُر عليه، يقف إلى جانب الضعفاء، فيحاول مساعدتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لا يتخلى عن موقف، يؤمن فيه، ولودفع ثمنه من نفسه، وأنا أشهد لهذا الرجل موقفاً لا أنساه، ففي أيام إدارته معهد إعداد المدرسين، تسلل إلى قسم اللغة العربية طالب، ليس مؤهلاً له، ولا له ميل إليه، ولم يكن في نهاية سنته الأولى جديراً بالنجاح، وصممت على منحه العلامة التي يستحقها مهما تكن النتائج، تعرّضت إلى ضغوط لإنجاحه، فقاومتها، ويعرف أبناء المدينة أنني لا أساوم على مسألة نجاح الطالب أو رسوبه، فرسب، ومورست ضغوط شتى على المدير لإنجاحه، لكنه وقف إلى جانبي موقفاً صلباً، ثم سُحبت منه سيارة المعهد المخصصة له ثمناً لموقفه هذا، السيارة التي يتخلى الكثيرون عن قيمهم، ويتراجعون عن مبادئهم المعلنة حفاظاً عليها.

يحترم الناس، ويتواضع للجميع، يزدري الأدعياء والمتعالين والمزايدين، ويدافع عن أصدقائه، ويحمي غيبة أصحابه، لايتقن فن الانبطاح والنفاق والمراوغة والتذبذب الطريق الأقصر لبلوغ المآرب الخاصة الذي برع فيه لصوص البلد وناهبوه، وما أكثرهم! هؤلاء الذين ليس عندهم رادع من ضمير، ولا وازع من أخلاق، ولا زاجر من حياء، ولا إحساس بمسؤولية، ولم يكن خالد متلوناً إذا أقبلت الدنيا على المرء تذلل له، فمدحه، وإذا أدبرت عنه، تمرد عليه، ففضحه.

إن الناس الذين احترموا خالداً، وأحبوه حّياً، أفزعهم رحيله المفاجىء، فشيعّوه بحزن صادق تعبيراً عن الأثر الطيب الذي تركه في قلوبهم، ومدينته حزنت على رحيله، لأنه ابنها البار، خدمها، وعمل لها، فالناس إذا أحبوا، أخلصوا، وأوفوا، ولعل في ذلك عبرة لمن أعمت بصائرهم مناصب زائلة، ومواقع عابرة، حسبوها باقية، فتعالوا بها على الناس، ولم يقيموا لهم وزناً، وأعرضوا عن خدمة بلدهم، ولم يعد يعنيهم منه إلاّ النهب والفساد والكسب غير المشروع والثراء الفاحش في أقصر وقت.. فليت هؤلاء عرفوا منزلتهم لدى الناس، وليتهم يجدون من يأسف عليهم إذا وقعوا، أويخرج خلفهم إذا رحلوا.

لم يكن مكتبه ـ وهومدير الثقافة بمحافظة الحسكة ـ يفرغ من روّاد الثقافة والفن الذين اعتادوا أن يختلفوا إليه كل يوم، يحدّثونه، ويصغون إليه فيما له صلةُ بواقع الجزيرة الثقافي والأدبي والفـني، كان ينصت إلى آرائهم، يقرأ ليعوّض ما فاته من مطالعة، ويكتب، ويحاضر، كتب في أواخر حياته شعراً عاطفياً ووجدانياً ووطنياً وقومياً عمودياً وعلى نظام التفعيلة، نشرت بعضه الصحفُ السورية، وكان يعرضه علي قبل نشره لمعرفة رأيي فيه، وكنت أدعوه إلى مواصلة كتابة الشعر، ونشط ثقافياً، فكان يحاضر في سائر المراكز الثقافية بمحافظة الحسكة، وكانت موضوعات محاضراته متنوعة، طغى عليها الهم الوطني والقومي والفلسطيني والانتفاضة حتى أخذ اسم الأستاذ خالد عواد السالم ينتشر على غير صعيد، وهكذا شهِدت الحركةُ الثقافية والأدبية في محافظة الحسكة نشاطاً مستمراً ملحوظاً في مرحلة إدارته. كان دورهُ البارزُ في تنشيطها أسطَع من أن يعتّمِ عليه معتم، وأقوى من أن يجحده جاحد .

دعا المفكرين والباحثين والأدباء والفنانين من محافظات القطر إلى مديرية الثقافة وسائر المراكز الثقافية الأخرى المتفرعة عنها، وفتح أبواب الثقافة لكل من يريد أن يتزود بها، أوينشط فيها، لم يوصد بوجه أحد باباً، ولم ينغلق على أحد، وكان يرى أنَّ مديرية الثقافة للجميع دون استثناء أو إقصاء، وأن تنشيط الحركة الثقافية والأدبية والفنية في هذه المحافظة تقع على مسؤولية روّادها وأبنائها، وأتاح للأجيال الشابة فرصة الظهور لإبراز مواهبها، فكان يرحب بالشباب ويحثّهم على مواصلة العطاء، واحتضن أنشطة طلابنا في معهد إعداد المدرسين، قسم اللغة العربية التي كنت أوجهها أنا شخصياً، وأَشرِفُ عليها، وكان معجباً بأنشطتنا، وخصصّ لنا أسبوعين ثقافيين نقيمهما بالمركز الثقافي في كل عام دراسي، حتى غدا هذا تقليداً سنوياً متبعاً، يحرص عليه، يثني على الطلاب، ويكافُئهم مادياً، فأحبّه طلابنا وقدرّوه، وتوالت المحاضرات، وازدهرت صالة المعارض وخشبةُ المسرح في إدارته فشهدتا أنشطة متنوعة ومتصلة من معارض الخط والرسم والكتاب والمسرحيات والحفلات الموسيقية . ووسع علاقاتِه الطيبة مع رّواد الفكر والثقافة والأدب والفن داخل المحافظة وخارجها .

كنت أتردد إلى مكتبه بين آونة وأخرى .نتحدث فيه أحاديث متنوعة، ونطوف في آفاق بعيدة، لاتعرف التحفظ ولا الحذر، كلانا يفضي بما في قلبه إلى الآخر، وكان يبوح لي بخيبة أمله من غدر القريب الذي لم يتخلّ عنه الأستاذ خالد يوماً حين كان محتاجاً إليه، وإنما وقف إلى جانبه مؤازراً، فكان جزاؤه منه الجحود واغتيابه أمام الملأ في أواخر حياته، وترويج الشائعات المسئة إلى شخصه بهدف إبراز عجزه عن إدارة الثقافة في محافظة الحسكة وعدم قدرته على مواكبة حركتها الثقافية. وكان شوقي إليه يدفعني إلى زيارته كلما سنحت لي الفرصة بذلك، كان يتفقدني إذا غبت عنه، ولم أستطع في مرضه الأخير أن أعوده إلى المشفى الوطني بمدينة الحسكة والبيت، ولّما زرته في مكتبه معتذراً، أجابني: لا تعتذر، سألت عنك، فعرفت أنك مريض، ثم سأل عن صحتي، لكنني رأيته متعباً، وبدا الإعياء على قسمات وجهه وحركات جسمه حتى إنه أهمل مظهره الذي اعتاد أن يعتني به .

كان يأبى الإذعان لمرضه، ويكابر عليه، لكنه في قرارة نفسه كان خائفاً منه ومن مضاعفاته، وكانت لأهله وأقربائه تجربة مؤلمة مع المرض. وتراكمت عليه ضغوطات نفسية انتهت بسلوكه إلى العصبية التي كانت تدفعه أحياناً إلى التصادم مع الآخر، وكنت كلما حاولت أن أخفف عنه وطأة آلامه، وأزعم له أننا ما زلنا شباباً، وأنّ صحته جيدة، تتماثل للشفاء والحمدالله، ولا داعي إلى القلق، تردد في الإفصاح عن معاناته، وابتسم ابتسامة مرّة يائسة، وعقّب على كلامي قائلاً: وماذا يجدي هذا الكلام ؟؟ وعلى غير عادته أخذ يكثر من قراءة قصائده التي كان قرأها عليّ من قبل، منها قصيدة حزينة عن نهر الخابور، وعن الانتفاضة، وقصيدة مؤثرة، تعكس مكابدته الخاصة في أيامه الأخيرة. وحثثته على طبع مجموعة قصائده المبعثرة في ديوان، فوافق، وطلب مني كتابة مقدمته. وفي آخر لقائي به: هتف إليّ في منزلي الساعة الخامسة بعد ظهر السبت، السادس عشر من آذار للعام ألفين واثنين، دعاني إلى محاضرة سيلقيها بعد ساعة محاضر، قرأت له، واستمعت إليه، وأدركت حقيقة أغراضه السياسية، فنفرت منه، وكنت أعرف د وا فع محاضرته الجوّالة في محافظات القطر، وأعرف أنه بوق إعلامي، يردد في كل محافظة يزورها ما يملى عليه، وإكراماُ لأبي رياض، وليس له، حضرت. وعلى غير عادته استفاض الأستاذ خالد أبورياض في تقديمه، وجا مله مجا ملة لا يستحقها، فعدّه كاتباً عظيماً، ورأيت المحاضر يرعد، ويزبد، يريد أن يصدّر إلينا شعارات وطنية حفظناها منذ الصغر، وأصمّ صراخه آذاننا، وشحن جو المحاضرة بالتوتر، فاستأذنت أبا رياض بالخروج، وفي نهاية المحاضرة، ظهر بينهما خلاف حاد.

وفي يوم الأحد السابع عشر من آذار، العام ألفان واثنان، ودّع في رحلته الأخيرة للعلاج أهله وأصحابه، كما ودع عمّاله وموظفيه معتذراً لهم عما إذا بدرت منه نحو أحدهم إساءةُ راجياً منهم مسامحته، والدعاءَ له بالشفاء، مما أثار استغراب الجميع.

كأن قلبه يحدثّهُ بدنو أجله، وقلب المرد دليلهُ. سافر إلى دمشق للاجتماع بوزيرة الثقافة الدكتورة نجاح العطار ثم العلاج، وفي ليلة الثلاثاء التاسع عشر من آذار انتقل في دمشق إلى رحمة الله، وفي صباح يوم الأربعاء في العشرين من آذار استيقظت مدينتنا (الحسكة) على نبأ رحيل ابنها البار عن عمر ناهز الرابعة والخمسين حولاً، فودّعته إلى مثواه الأخير حزينة عليه. رحم الله مديرالثقافة والمدرّس والمربي خالد عواد السالم أبا رياض بواسع رحمته، وأدخله فسيح جنانه. وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان.

خالد عواد السالم

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى