السبت ٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

ويلاتُ جبرانَ وويلاتُ نعيمةَ

ويلاتُ جبران خليل جبرا

قبلَ الغوصِ في ويلاتِ كلٍّ من الأديبينِ الفيلسوفينِ جبرانَ ونعيمةَ، وإبرازِ جوانبِ التَّأمُّلِ الفلسفيَّةِ في استشرافِ مستقبلِ أممِ العالمِ، لا بدَّ لي مِن وقفةٍ لغويَّةٍ تستَجْلي معانيَ الويلِ كمَا وردَت في معاجمِ الضَّادِ؛ كي أضعَ مِبضَعي الأدبيَّ في تشريحِ جثثِ الأممِ الّتي تحملُ لقبَ الأمَّةِ، وليسَ في كيانِها الممزَّقِ سِوى نُتفٍ من بقَايا عباءةِ شيخِ القبيلةِ يُلوِّح بأذيالِها إلى رعيَّتِه؛ ليُوهمَهم بسيادةٍ وطنيَّةٍ أو قوميَّةٍ بالَتْ عليها الثَّعالبُ منذُ لعناتِ أبي جهلٍ وويلاتِ أبي لهبٍ! وكذلكَ فإنّني ساعٍ جهديَ ما أستطيعُ إلى إزالةِ الغشاوةِ عنِ العيونِ الّتي أعمَتْها دياجيرُ الزَّيفِ والبهتانِ وبريقُ المادّةِ والأنانيَّةِ البغيضةِ عنِ القيمِ الإنسانيَّةِ والحضاريَّةِ الّتي تدعُو البشريَّةَ إلى الحرِّيَّةِ لا العبوديَّةِ، وإلى النِّظامِ لا الفَوضى الخلَّاقةِ، وإلى السِّلمِ لا الوَغى والدَّمارِ، وإلى النُّورِ لا الدَّيجُورِ!
فكلمةُ وَيل: (اسم) تَأْتِي لِحُلُولِ الشَّرِّ وَالعَذَابِ: وَيْلَهُ، وَيْلَكَ، وَيْلِي، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلاً لَهُ: الرَّفْعُ عَلَى الابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمَارِ الفِعْلِ، فَكَأَنَّكَ قُلْتَ: أَلْزَمَكَ اللَّهُ وَيْلاً. وتَأْتِي لِلنُّدْبَةِ: وَيْلاَهُ، الوَيْلُ: حلولُ الشَّرّ، والوَيْلُ :كلمةُ عذابٍ.
الوَيْلُ : كلمةٌ للدُّعاءِ بالهلاكِ والعذابِ على مَن وقعَ في هَلَكةٍ يستحِقُّها بقصْدِ التَّهديدِ والتَّحذيرِ، تُستَعملُ مُقترِنةً بـ (أل) أو مُجرّدةً منها، مُنوَّنةً وغيرَ مُنوَّنةٍ: الوَيْلُ للعدوِّ ومَن ساعدَه، وَيْلٌ للشَّجِيِّ مِنَ الخَلِيِّ. (مثل): أيْ وَيْلٌ لِلْمَهْمُومِ مِمَّنْ لاَ هَمَّ لَهُ. (انظرْ مادّةَ ويل)

حينَ يتأمَّلُ جبرانُ أممَ الأرضِ، يقذِفُها بالويلاتِ إذ يراهَا غائِرةً في مجاهلِ التَّقهْقرِ والضَّياعِ والخداعِ والانفِلاتِ والانقلابِ العكسيِّ في القيمِ والمثُلِ والأخلاقِ، فيخاطبُها خطابَ الفيلسوفِ العالِمِ بأحوالِها على لسانِ المصطَفى في حديقةِ النَّبيِّ حينَ يخاطبُ أصدقاءَه ورفاقَ طريقِه بحزمةٍ من الويلاتِ:

ونراهُ يوزِّعُ تلكَ الويلاتِ على أهمِّ الدَّعائمِ والأسسِ الّتي تقومُ عليها الأممُ الحقيقيَّةُ، فإذا بهِ يَرمي بالويلِ الأوَّلِ على عقيدتِها الّتي تَكثرُ فيها المذاهبُ والطَّوائفُ، وتخلُو جميعُها من جَوهرِ الرِّسالةِ الدِّينيَّةِ: "ويلٌ لأمَّةٍ تكثرُ فيها المذاهبُ والطَّوائفُ وتَخلُو من الدِّينِ."

ثمَّ يَرمي بالويلِ الثَّاني على الجانبِ الاقتصاديِّ الّذي بهِ تزدهرُ الأممُ حينَما تَبْيني أوطانَها بسواعدِ أبنائِها وطاقاتِها وعلومِها وخبراتِها فتعيشُ بجهودِ أبنائِها ملبَساً ومأكلَاً ومَشْرباً، دونَ أنْ تكونَ عالةً على أممٍ غيرِها تتحكَّمُ بمفاصلِ حياتِها، فتُهيمنُ عليها هيمنةَ النُّسورِ على فرائِسها: "ويلٌ لأمّةٍ تلبسُ ممَّا لا تنسجُ، وتأكلُ ممّا لا تزرعُ، وتشربُ ممَّا لا تَعصرُ."

ثمَّ يُلقي بالويلِ على الجانبِ السِّياسيِّ المتمثِّلِ بالقائدِ المستبِدِّ الّذي تنظرُ إليهِ أمَّتُه على أنَّهُ البطلُ المنقِذُ، كمَا تنظرُ إلى القائدِ الغَازي المحتلِّ المذِلِّ لغيرِ أمَّتِه على أنَّه بطلٌ رحيمٌ قد أينَعَتْ غزواتُه حدائقَ منَ الرَّحمةِ والعدالةِ والإنسانيَّةِ، والتَّاريخُ حافلٌ بأمثلةِ هؤلاءِ الغزاةِ منذُ فجرِ الإنسانيَّةِ: "ويلٌ لأمّةٍ تحسبُ المستبِدَّ بطلاً، وترى الفاتِحَ المُذِلَّ رحيماً".

وتتَوالى الويلاتُ في نسقٍ فلسفيٍّ مبعثرٍ غيرِ مترابطٍ في خيوطِ نسيجِه الفكريِّ، إذ نراهُ يمزجُ بينَ الجوانبِ الاجتماعيَّةِ والنَّفسيَّةِ والسِّياسيَّةِ، وليسَ في ذلكَ ثمَّة نقصٌ أو مذمَّةٌ، وإنّما مردُّه إلى حِنكةٍ فكريَّةٍ وفلسفيَّةٍ تجعلُ من صورِ جبرانَ لوحةً فسيفسائيَّةً تمتزجُ فيها الألوانُ الفكريَّةُ امتزاجَ ألوانِ اللَّوحةِ الفنّيّةِ والكاريكاتوريَّةِ، كما نألفُ ذلكَ في لوحاتِ الفنَّانِ الإيطاليِّ الكبيرِ بابلُو بيكاسُو، فنراهُ يُلقي بالويلِ على تلكَ الأممِ الّتي تتدَّعي الطُّهرَ والنَّقاءَ فتستنكرُ شهواتِ أحلامِها، لكنَّها تخضعُ لسطوتِها أسيرةً ذليلةً وهيَ في وضحِ نهارِ يقظتِها ونباهتِها: "ويلٌ لأمّةٍ تكرهُ الشَّهوةَ في أحلامِها، وتعنُو لهَا في يقظتِها". (عنا للحقِّ يَعْنُو: خضعَ له وذلّ).

لكنَّه يعودُ بالويلِ إلى التَّكوينِ النَّفسيِّ للأممِ الّتي ألِفتِ المذلَّةَ والمهانةَ، ولا تسمعُ لها صَوتاً إلّا حينَما يتساقطُ أبناؤُها أشلاءً، وتتهاوَى مدنُها خراباً ودماراً، وتنهالُ سيوفُ القتلِ على رقابِها فتَحصدُها حصادَ الهشيمِ: "ويلٌ لأمّةٍ لا ترفعُ صوتَها إلّا إذا مشَتْ في جنازةٍ، ولا تفْخرُ إلّا بالخرائبِ، ولا تثورُ إلّا وعنُقُها بينَ السَّيفِ والنِّطْعِ". (النِّطع: بساطٌ من جلد يُفرشُ تحتَ المحكومِ عليه بالقتلِ).

وهَا هوَ يُلقي بالويلِ على الأممِ شاملاً ثلاثةَ جوانبَ معاً: الجانبَ السِّياسيَّ، والجانبَ الفكريَّ، والجانبَ الإبداعيَّ الفنّيَّ، فيُحذِّرُ تلكَ الأممَ الّتي يتولَّى عرشَها قائدٌ يتحلَّى بسماتِ الثَّعالبِ، ويتصدَّرُ فقهَ كلماتِها فلاسفةٌ أو رجالُ دينٍ مشَعوذونَ، وتتباهَى بفنونِها البلْهاءِ الّتي لا تحملُ غيرَ التَّرقيعِ والتَّقليدِ، وليسَ فيها أقنومٌ من أقانيمِ الإبداعِ أو شمعةٌ واحدةٌ من شموعِ التَّقدُّمِ والخروجِ منَ الدَّيجورِ إلى النُّورِ: "ويلٌ لأمَّةٍ سائِسُها ثعلبٌ، وفيلسوفُها مُشعْوِذٌ، وفنُّها فنُّ التَّرقيعِ والتَّقليدِ".

ومنْ خلالِ هذهِ الثُّلاثيَّةِ الفكريَّةِ يُلقي بسهامِ فكرِه مرَّةً أخْرى على تلكَ الأممِ في جانبٍ مهمٍّ من جوانبِ أخلاقِها، ألا وهُو النِّفاقُ والمداجاةُ والوصوليَّةُ، حينَما يُلقي بالويلِ علَيها وهيَ تُصفِّقُ لقائدِها الأوّلِ، وحينَما ينْتهي حكمُه بالقتلِ تودِّعُه بالصّفيرِ ، ثمَّ تحتَفي بقدومِ حاكمٍ جديدٍ وصلَ إلى سدَّةِ الحكمِ بانقلابٍ عسكريٍّ أو معالجةٍ كيميائيَّةٍ لوريثٍ عُرفيٍّ، فتتَعالى أصواتُ الطُّبولِ والمزاميرِ احتفاءً بالمستبدِّ الجديدِ وفرحاً برحيلِ الطَّاغيةِ الحكيمِ في الأمسِ: "ويلٌ لأمّةٍ تستقبلُ حاكمَها بالتَّطبيلِ وتُودِّعُه بالصَّفيرِ، لتستقبِلَ آخرَ بالتَّطبيلِ والتَّزميرِ".
ثمَّ يعودُ بالويلاتِ على الأممِ في رجالِها منْ جانبينِ، جانبٍ فكريٍّ يتمثَّلُ بحُكَّامِها وحُكمَائِها، وجانبٍ عسكريٍّ يتجلَّى في قوَّةِ أبطالِها وجيوشِها، فيُحذِّرُها من مغبَّةِ انخداعِها وانقلابِ قيمِها، إذْ حكّامُها حكماءُ وفلاسفةٌ وروَّادُ فكرٍ وعلماءُ فقهٍ كما ترسمُها قوَّةُ السَّيفِ والمالِ، ويصمُّ الزَّمانُ عنهُم السَّمعَ ويغضُّ عنهمُ البصرَ، فإذا همْ صنَّاعُ الفكرِ وبناةُ الحضارةِ، وليسَ في سجلَّاتِهم الحقيقيَّةِ سِوى الجهلِ والطُّغيانِ ومصادرةِ الكلمةِ وقتلِ الفكرِ في مهدِه.. وأبطالُها الأشدَّاءُ ليسُوا سِوى أبطالٍ دمىً تصنُعها هيمنةُ الرُّعبِ والقمعِ، لكنَّهم في الحقيقةِ ليسوا سِوى دمىً أو أطفالٍ مازالُوا مقمَّطينَ في أسرَّتِهم لا يَملكُون قرارَ إطلاقِ سهمٍ على عدوٍّ يدوسُ كرامتَهم ليلَ نهارَ: "ويلٌ لأمّةٍ حُكماؤُها خُرْسٌ من وقْرِ السِّنينَ، ورجالُها الأشدَّاءُ لا يزالُونَ في أقْمِطةِ السَّريرِ". (وَقْرُ الأُذُنِ : ذَهَابُ سَمْعِهَا، ثِقَلُهَا، صَمَمُهَا - القِمَاطُ : قطعة من قُماش ونحوه، يُلَفُّ بها الصّغيرُ).

ويختَتِمُ جبرانُ ويلاتِه جميعاً بأشدِّ أنواعِ الويلاتِ على تلكَ الأممِ الّتي تحسَبُ ذاتَها أمَّةً كمَا في حالِ أمَّتِه التي تحسبُها أمَّةً، ويُطبّلُ أبناؤُها وتزمِّرُ أحزابُها لها على أنَّها أمَّةُ الأممِ، وفي كلِّ رقعةٍ من أشلائِها الممزَّقةِ المحتلَّةِ والمغتصبةِ دويلةٌ هزيلةٌ تظنُّ نفسَها أمّةَ الأممِ: "ويلٌ لأمّةٍ مقسَّمةٍ إلى أجزاءَ، وكلُّ جزءٍ يحسبُ نفسَه فيها أمّةً..".

إنَّ ويلاتِ جبرانِ الصَّارخةَ لا تصلُحُ إلّا لأمَّةٍ خرجَ من رحمِها؛ لأنَّ جميعَ أممِ الأرضِ قد تجاوزَتْ هذهِ التَّحذيراتِ منذُ زمانٍ بعيدٍ، ولم تبقَ أمّةٌ في الأرضِ بهذهِ الصِّفاتِ والأخلاقِ الّتي حذَّرَ مِنها إلّا أمّتُهُ الّتي نسبَتْهُ إليها نواميسُ اللَّحمِ والدَّمِ والانتِماءِ، بالرَّغمِ من أنَّ أفكارَهُ وفلسفتَهُ تجاوزَتْ كلَّ حدودِ الأممِ والقوميَّاتِ!

ويلاتُ ميخائيلَ نعيمةَ

أمّا ميخائيلُ نعيمةَ فإنَّه يوجِّهُ سهامَ ويلاتِه إلى عالمٍ يعيشُ في أَتُونِ انفجارٍ هائلٍ يُنذرُ بالخرابِ والدَّمارِ نتيجةَ تشويهِ قيمِ الحرِّيَّةِ والنِّظامِ والسِّلمِ والنُّورِ وتزييفِها أمامَ العامَّةِ المغفَّلينَ، تقودُهم خبائثُ الماكرينَ إلى ساحاتِ الوَغى لقتالِ الفكرِ والخيالِ والوجدانِ ومناصرةِ الطُّغيانِ والفَوضى والحربِ والظَّلامِ.. فيُضيءُ نعيمةُ تلكَ الدَّياجيرَ إضاءةً خاطفةً تتجلَّى في قولِه: "ها هوَ العالمُ – عالمُنا - تَغْلي مَرائرُهُ اليومَ غلياناً يُنذرُ بانفجارٍ هائلٍ، جارفٍ. وإن سألَ سائلٌ عن أسبابِ ذلكَ الغليانِ قيلَ لهُ: إنّهُ غليانُ مراجلِ الحريَّةِ ضدَّ طغيانِ الاستبدادِ، والنّظامِ ضدَّ الفَوضى، والسِّلمِ ضدَّ الحربِ، والنُّور ضدَّ الدَّيجورِ. يقولُون ذلكَ دونَ أن يرِفَّ لهم جفْنٌ، أو تحْمَرَّ لهم وجْنةٌ، أو يَندَى لهم جبينٌ.".

وإزاءَ هَذا الانفجارِ البركانيِّ في انقلابِ الحقائقِ وتشويهِ القيمِ يُطلِقُ نعيمةُ ويلاتِه الصَّارخةَ محذِّراً من مغبَّةِ التَّشويهِ والتَّزويرِ وخداعِ العامَّةِ: "يا ويلَهم من الحريَّةِ والنِّظامِ والسّلمِ والنُّور يُزيِّفُون معادنَها الصّافيةَ، ويزوِّرون معانيَها البديعةَ، ويموِّهُون جمالَها وجلالَها ثمَّ يُسدلُونها سُجُفاً كثيفةً على أبصارِ البسطاءِ والمغفَّلينَ فيتقبَّلُها هؤلاءِ بالشُّكرِ والرّضى، ويمشُونَ جحافلَ جرَّارةً إلى ميادينِ القِتالِ جاهلينَ أنَّهم يمشُونَ إلى قتالِ الفكرِ والخيالِ والوجدانِ، وإلى نصرةِ الاستِبدادِ والفَوضى والحربِ والظَّلامِ على الحريَّةِ والنّظام والسّلمِ والنُّور، وأنّهم يمشُون في عرسِ البهيمةِ وفي جنازةِ الإنسانِ.". ولا أدلُّ على ذلكَ من وقائعَ حدثتْ في زمنِ نعيمةَ، إذ خاضَتِ البشريَّةُ حروبَها الكُبرى فدمَّرَت أمماً وأوطاناً، وأحرقَتْ براعمَ الأملِ في نفوسِ البشريَّةِ، وجعلَتها تحِنُّ إلى زمنِها الأوَّلِ في المغاورِ والكهوفِ..

وها نحنُ اليومَ نشاهدُ أمماً دمَّرَتها همجيَّةُ الطُّغيانِ والاستبدادِ، ووقفَت كلُّ دولِ العالمِ تساندُ الطُّغيانَ وتمنعُ انهيارَه على أيْدي البائسينَ الَّذينَ يحلمُون ببريقِ الحرِّيَّةِ منذُ أنْ حلَّ الطَّاغوتُ الاستِعماريُّ وأذيالُه في مرابِعهم، فحُرمَتِ الشُّعوبُ من طعمِ الحرِّيَّةِ ومن لذَّةِ الاستِحمامِ بدفْءِ أشعَّتِها الذَّهبيَّةِ.. فانتصرَ تِ العبوديَّةُ على الحرِّيَّةِ، وسادَتِ الفَوضى واندثرَ النِّظامُ، ووُئدَ السِّلمُ وانتصرتْ شهوةُ الظَّفرِ المصطنعِ، وحلَّ الدَّيجورُ بكلِّ ما يَعنيهِ من تخلُّفٍ وفقرٍ وحياةٍ بدائيَّةٍ محلَّ النُّورِ بكلِّ ما يُوشَّى بهِ من معالمِ التَّقدُّمِ والازدهارِ والارتقاءِ!

ثمَّ نرى نعيمةَ يُلقي ويلاتِه صواعقَ على الأممِ الّتي تَروي ظمأَ الظَّامئينَ إلى العدلِ والإخاءِ والمساواةِ بشعاراتٍ وأنظمةٍ وفلسفاتٍ لا تُسمِنُ ولا تُغْني من جوعٍ، بلْ تزيدُ البشريَّةَ استِعباداً، وتعمِّقُ الهوَّةَ بينَ أساطينِ المالِ والمحرومينَ مِن أدْنى مقوِّماتِ الحياةِ البشريَّةِ، وذلكَ من خلالِ الضَّحكِ على الشُّعوبِ بمُتناقضاتِ اللَّاهوتِ المتمثِّلِ في صراعِ الخيرِ والشَّرِّ وإبليسَ والإنسانِ والملائكةِ والشَّياطينِ، والمتمثِّلِ في النَّاسوتِ السِّياسيِّ من خلالِ الصِّراعِ بينَ الدِّيمقراطيَّةِ والدِّكتاتوريَّةِ والشُّيوعيَّةِ والرَّأسماليَّةِ والوطنيَّةِ والقوميَّةِ.. إلى آخرِ ما أنزلَت بهِ ذئابُ الأرضِ من نظريَّاتٍ طوباويَّةٍ لا تمُتُّ إلى واقعِ الأممِ بصلةٍ، فانظرْ إلى ما أبدعَتْه النُّظمُ الرَّأسماليَّةُ وما خلَّدتْه النُّظمُ الاشتراكيَّةُ وما نفثَتْ به النُّظمُ القوميَّةُ والوطنيَّةُ غيرَ صراعٍ لم ينتهِ بين الأغنياءِ والفقراءِ، وبينَ الأقوياءِ والضُّعفاءِ، وبينَ العلماءِ والجُهلاءِ، وبينَ اللُّصوصِ والشُّرفاءِ، وبين النَّقاءِ والرِّياءِ"يا ويلَهم يسمعُون صراخَ القلوبِ الغَرْثى إلى العدلِ والإخاءِ والمساواةِ فلا يجِدون ما يلقمُونها إيّاه غيرَ ديموقراطيّةٍ ودكتاتوريّةٍ وشيوعيّةٍ ورأسماليّة، وغيرَ وطنيَّاتٍ وقوميّاتٍ، وبيارقَ وكراماتٍ وما إليها منَ التُّرّهاتِ والمخرّقات.".

وتتَوالى ويلاتُ نعيمةَ على أممِ الأرضِ الّتي تتاجرُ بصورةِ الإلهِ، فتبيعُ وتشْتري وتجْني الذَّهبَ بنوعيهِ الأصفرِ والأسوَدِ، وتتاجرُ بصكوكِ الغُفرانِ لنيلِ المجدِ والسُّلطانِ الزَّائفينِ الباطلينِ، وتبيعُ مفاتيحَ الجنَّةِ بدماءِ المغفَّلينَ والبسطاءِ، فتسيلُ دماءٌ وتتمزَّق الأجسادُ إرباً إرباً، وتتنهمرُ الدُّموعُ أنهاراً ألماً وحزناً، وتمُوجُ البشريَّةُ بحاراً قلقاً وأوجاعَاً لا تهدأُ وعواصِفُ المتاجرينَ تُهيجُ أعماقَها مدَّاً وجزْراً: "يا ويلَهم يطرحُون صورةَ اللهِ ومثالَه في سوقِ الدّلالةِ ليقبضُوا ثمنَها ذهباً أصفرَ وأسودَ، وسلطاناً زائفاً، ومجْداً باطِلاً ودماءً قانيةً، وأشلاءً ممزَّقةً، وحرقةً ودموعاً، وقلقَاً وأوجاعاً ما لهَا قرار.".

والويلُ لهؤلاءِ الأشرارِ الّذينَ نفثُوا الدَّمارَ في الكونِ سماءً وأرضاً، إذْ أحالُوا السَّماءَ أَتُوناً من جحيمِ النِّيرانِ بقصْفِ الطَّائراتِ ورميِ البراميلِ المتفجِّرةِ الّتي أبدعَتها أيديْ الطُّغاةِ فوقَ رؤوسِ مُواطنيهم ومُدنِهم وقُراهُم، فصارَ الفضاءُ سجناً، وتحوَّلتِ الأرضُ إلى مسالخَ وأفرانٍ تُلقى فيها أجسادُ الآدميَّينَ حرقاً "يا ويلَهم يجعلُون منَ السَّماءِ أتُّوناً، ومن الفضاءِ سجناً، ومن الأرضِ مسلخاً.".

والويلُ لهُم حينَما يُبرِّرونَ شهواتِهم الطَّاغيةَ السَّوداءَ، ويتراقصُون طرباً حينَما يدمِّرونَ الآمالَ والأشواقَ، فقدْ شاهدَ العالمُ بأكملِه صورَ الضَّحايا في مجزرةٍ من أكبرِ مجازرِ التَّاريخِ لم تفعلْها النَّازيّةُ ولا البربربريَّةُ، فلم يتحرَّكْ ضميرُ العالمِ، ولم يرفَّ لهُ جفنٌ، ولم تحمرَّ له وجنةٌ، ولم يندَ له جبينٌ حياءً أمامَ رحمةِ الوحوشِ المفترسةِ الّتي تأْبى أن تفعلَ ما فعلَتْه أيدي أكبرِ طاغوتٍ في تاريخِ البشريَّةِ، واكتفَى العالمُ الأبلهُ بالتَّنديدِ والوعيدِ، وزغردتِ الأنظمةُ الدِّكتاتوريَّةُ فرحاً بانتصارِ شريكهِم الّذي منحَهم أمداً آخرَ للخلودِ.. لقد انتصرَ الطُّغيانُ على الحرّيَّةِ، واستبدَّ اللُّصوصُ والمرتزقةُ بأموالِ وأملاكِ الفقراءِ البائسينَ، و انتشَى المارقُون وطغاةُ الحربِ بكؤوسِ النَّشوةِ وهُم يلعنُون ما خلَّفَتْه يدُ اللهِ على الأرضِ من قيمٍ ومثلٍ: "يا ويلَهم يجنّحُون ما اسودّ من شهواتِ القلبِ، أمّا أشواقُه البيضُ فينتِفُون قوادمَها وخوافيَها وهمْ يهزجُون ويرقُصون ويعر بدُون.".

ويختتمُ نعيمةُ ويلاتِه على طغاةِ العالمِ ومُجرمِيه الّذينَ يرونَ أنّ ألمَهُم لا يزولُ إلّا ببثِّ الآلامِ في أجسادِ غيرِهم، وأنَّ سعادتَهم لا تتحقَّقُ إلّا بشقاءِ الآخرينَ، وأنَّ ظلماتِ نفوسِهم لا تَنْجلي إلّا بإطفاءِ نورِ الآخرينَ، وأنَّ جوعَهم لا يَنْتهي إلّا بانتشالِ اللُّقمةِ من أفواهِ الآخرينَ، وأنَّ ما يُعانونَه منْ قلقٍ وبهيمةٍ لا يُنتزعُ إلّا بقتلِ جيرانِهم بقوَّةِ السِّلاحِ، وأنّهم لا يصِلُون إلى صورةِ الإلهِ إلّا بالبُغضِ والكراهيةِ والنِّفاقِ والمحاباةِ والمداجاةِ وادِّخارِ أوساخِ الدُّنيا فوقَ ما يحتاجونَه في دنياهُم وآخرتِهم: "يا ويلَهم ويا ويلَ العالمِ منهم. فهم يوهِمُون النَّاسَ أنّ ما في قلوبِهم من دياجيرَ لا تنْجلي إلّا بإطفاءِ النُّورِ في قلوبِ غيرِهم، وأنّ ما بهِم من جوعٍ لا يشبعُ إلا بانتشالِ اللّقمةِ من أفواهِ إخوانِهم، وأنّ ما يلازمُهم من قلقٍ وشقاءٍ مردُّه إلى الغرائزِ الحيوانيَّة في جيرانهِم لا فيهم، وأنّ البهيمةَ في جارهِم لا تروَّضُ إلّا بالسَّيفِ والمدفعِ، وأنّ الإنسانَ لا يتألّه إلّا إذا أبغضَ كثيراً وداجى كثيراً وادّخرَ فضلاتِ الدُّنيا فوقَ ما يحتاجُه للدُّنيا والآخرة.".

في الختامِ أتركُ لكلِّ قارئٍ أنْ يختارَ ما يناسبُه من ويلاتٍ يَرمي بها أممَ الأرضِ الّتي صنعَت شقاءَ العالمِ ومآسيَه وأحزانَه وهمومَه، وأحالتْ جنَّةَ اللهِ على الأرضِ جحيماً لا يُطاقُ لولا فسحةٌ منَ الأملِ والقناعةِ بأنَّ الغدَ أجملُ، لانتَهى العالمُ إلى زوالٍ منذُ أمدٍ بعيدٍ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى