الثلاثاء ٤ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

أبو سمير أول من عايدني

أبو سمير هو سعيد حميد، جاري وصديقي، رجل مثقف ذو لغة سلسلة ورفقة لا تـُمل.

هو أول صديق وجار شرّف بيتي في أول أيام عيد الفطر المبارك ووجدنا متسعا من الوقت لنتبادل فيه الخواطر من الأيام الخوالي حين كنا نستهل في نهاية الأصيل من يوم آخر رمضان. والعجيب أن معظم الناس كانوا يرون الهلال.

قلت لأبي سمير: ربما لأن الضوء كان قليلا والكهرباء لم تضئ البيوت والشوارع مثلما تفعل الآن.

كان أبو سمير قد جلب معه ديوان الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم وقبل أن يتصفحه سألني هل تعرفه؟

أجبت بنعم، هو ذاك الذي خلع العمامة وانتمى إلى عالمه الخاص وتوجهاته الفلسفية التي لا تخلو من الأهمية.

قال أبو سمير: استنسخ لي هذا الكتاب المرحوم ملا فاضل السكراني عندما زرته في الفلاحية.

ثم قرأ لي قصائد كان قد شخصها بقلم رصاص:

عشقتك يوم كنت تريد قربي
فأهرب منك إشفاقا بنفسي
كأني قد قرأت كتاب يومي
وما يحويه من صفحات أمسي ...

ثم قرأ لي أبياتا من قصيدة الشاعر المشهورة (أين حقي):

يا قصورا لم تكن إلا بسعي الضعفاء
هذه الأكواخ فاضت من دماء البؤساء
وبنوك استحضروا الخمرة من هذي الدماء
فسلي الكأس يجبك الدم فيه: أين حقي؟!

ثم تطرقنا إلى المجالس الشعبية الأهوازية التي كانت تنعقد آنذاك، والتي كانت بمثابة المثل:

(المجالس مدارس)، يتعلم من دخلها وجالس رجالها الأدب والاحترام والتراث وثقافة الحديث والسمر والسهر مع العلماء والشعراء والذين لديهم مادة مهمة تستحق.

وأشار أن الشعراء في الفلاحية كانوا يخرجون من المدينة يتسامرون على الـ (ايشان)1 منهم ملا محمد وعبود الحجي سلطان وملا يعقوب وقد يرافقهم ابنه ملا فاضل السكراني.

ثم أشار إلى المجالس التي كانت تنعقد في السبعينيات في كوت عبدالله، يجتمع الشعراء والأدباء الشباب والشيوخ عند خلف خان زاده القنواتي يوم الجمعة وفي بيت سيد سهم يوم السبت وفي بيت والده ...

وكان الشعراء والأدباء ييممون من أماكن نائية مثل المحمرة وعبادان إلى هذه المجالس لأهميتها، فسيد صالح النزاري كان يقصد من المحمرة ليجلس في مضيف خلف خان زاده القنواتي وقد قال مخاطبا إياه في بيت شعر دارج:

إلك يا خان زاده اطروش عنيت
يبلغونك سلامي وعليّ عنيت
شيضرك لو جواد الشوق عنيت
ولحت ابقاربه ومريت بيه

المضيف خان زاده القنواتي سمات خاصة ينبهر بها من دخله.

يقال إن خلف خان زاده فارسي الأصل، سكن عبادان وتثقف بثقافة عربية أهوازية حيث أصبحت ملامحه وتقاليده وعاداته عربية بدوية، هو الذي قال في بيت من الشعر الشعبي:

(ما بدل ملك كسرى بدلّه)

ثم نسب إلى قبيلة مدحج وانتقل إلى كوت عبدالله في الأهواز، مضيفه معروف يقصده القاصي والداني، كريم النفس، شاعر باللغة العربية الدارجة، يكتب ويقرأ ولديه مكتبة كبيرة غنية فيها الدواوين الشعرية العربية والتأريخ والاجتماع.

كان لديه صديق يسمى اقطافة أبو جليل الباوي، يمتلك اقطافة صوتا حسنا وحافظة قوية، لكنه لم يسجل أغنياته لأسباب كانت تمنعه ذلك العهد، ولو سجلها لكانت من الأصوات التي جديرة أن تضاف إلى الفن الأهوازي.

ومن الذين كانوا يحضرون تلك المجالس الأدبية باستمرار هو المطرب التراثي (علوان الشويع)، مطرب أبدع نغم العلوانية وغنى أشعار الشعراء الذين لولا قوة معانيها لما شاعت ولما غناها علوان.

كان علوان يسكن الصخيرية، أبوه نجار يتجول، يعمر باب هذا وشباك ذاك ودولاب ذلك.
وقد غنى علوان في الأعراس والمناسبات المختلفة، ولم يرض أن يُسجل صوته مهما حاول بعض الشباب في كوت عبدالله أن يسجلوه ليضيفوا إلى تراثنا الفني صوتا له عذوبته ومكانته.

ودليل رفضه أن لو سجل صوته لما دُعي بعد ذلك إلى مناسبة يغني ليحصل على قوت يومه، بل يكتفون ببث صوته من المسجل، ولهذا السبب لا يوجد تسجيل من صوت شبابه، وإنما سجل صوته بعد أن بلغ من العمر مبلغه.

ثم تناقشنا حول الفن المعماري الجديد الذي حذف المضيف من البيت وأسقط حيطانه ليضمه إلى الصالون، وإن حل ضيف فلا هو مرتاح ولا ربة البيت، مما أدى إلى قلة التواصل.

ومن احتفظ بمضيفه مستقلا، حوّله إلى حسينية لا يتناول فيها الأدب ولا ثقافة الحديث.
نهض أبو سمير وترحم على روح الشاعر خلف خان زاده القنواتي الذي توفي قبل أكثر من عقدين وأنشد البيت التالي منه:

نهر الشوگ ابحثنه وكرباي
وكافح لم أزل همي وكرباي
بعدني ذاك أنا ابليفي وكرباي
ولا عرف التمدن يا نويه.
ثم ودعنا بالدعاء المعروف بيننا:
أشرف الأعياد، أعاده الله عليكم باليمن والسعادة.

1- ايشان جمع يشن ويعني التلال جمع تل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى