الأربعاء ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم زهير الخويلدي

أحبك يا شعبي الأصيل

والمجد لثورة الأحرار

«وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا» (سورة الاسراء، الآية 81)

ما أروعك يا شعبي الباسل وما أعظم شأنك فقد قمت قومة رجل واحد وصنعت المستحيل وبرهنت للعالم بأنك أكبر من كل التوقعات وكنت عتيا عن التركيع والتنميط وأبيا وحريصا عن الفضائل والقيم، وما أجمل الانتماء اليك والافتخار بملاحمك والاعتزاز بأرضك وتقبيل علمك والتغني بنشيدك.

كل الكلمات لا تكفي لمدحك وكل اللغات تعجز عن التعبير عن سحر تدفقك في الشارع ونهوضك نحو المجد وتوقك للحرية وتشبثك بالكرامة في أحلك الظروف واصرارك على المضي قدما رغم الضريبة الباهضة التي قدمتها والدماء الغالية التي اريقت والعدد الكبير من الشهداء الذين حصدت أرواحهم غدرا.

أحبك أيها الشعب الغالي فأنت الشخص المعنوي الكبير الآن وأنت السلطان الذي لا يقهر ولا صوت يعلو على صوتك وكلنا تحت أمرك وفي خدمتك ما دام الوجدان يهتف باسمك والقلب يدق بساعتك، فأنت البوصلة والعماد ونحن البنيان والأحجار التي تظل هنا ثابتة لا تتزعزع وتبقى منغرسة في التربة راسخة.

ليس ما فعلته مجرد انتفاضة مباركة او ثورة اجتماعية ولا هبة شعبية فقط وانما مصالحة مع الذات وعودة الوعي التاريخي واستفاقة عقلية حاسمة ونزع الاعتراف بالكرامة من العدو وافتكاك لحق الوجود من الجلاد وبطانة الاستبداد والانتصار على الخوف واليأس والانبطاح والتطبيع والاستسلام دون رجعة والتسلح بروح المحبة والتكاتف والتعاضد وانجاز معركة الاستقلال التام والنهائي للوطن من ربقة الاستعمار والتبعية لقوى رأسمال العالمي والشركات الاحتكارية وبقايا الاقطاع والكهنوت.

لقد مشيت الدرب يا شعبي وكنت مفجر الثورة والوقود الذي ألهبها وأخذت قوتك من القبضة الأمنية التي تحبس أنفاسك وتكمم أفواهك وتسلحت بعزيمة مناضليك وتغلبت على المصاعب وعبرت نحو بر الأمان واستنشقت هواء الحرية بعد أن حركت رياح الثورة ولقد احترق جسد البوعزيزي الطاهر من أجل أن يحيا جسدك معافى وترفرف روحه عاليا وتحلق نفسك في سماء السمو والرفعة ويتدافع أفرادك نحو الفداء والتضحية من أجل تبقى وتستمر.

افرح يا شعبي بما أنجزت من ثورة الأحرار وترحم على شهدائك وضم أبناءك كلهم دون استثناء وبكل أطيافهم الى صدرك فهم السراج المنير الذي أنار الطريق وهم سندك وقت الحاجة وزمن الشدة وهم الشموع التي اشتعلت من أجل انارة السبيل وصنع الربيع وهم وقود الديمقراطية وصانعي الملحمة ومفككي قلاع الاستبداد ومجفيفي منابع الطغيان من أجل بعث مؤسسات مدنية والتسيير الشعبي لأجهزة الدولة.

لقد كنت حرا وناضجا يا شعبي ورفضت حياة الذل والخنوع وقاومت الظلم والاجحاف وتصديت لتحالف رأس المال والاقطاع والأتباع والسماسرة والفاسدين والطامعين وأنجبت العديد من الأحرار وعلي بن غذاهم كان المرجع وفرحات حشاد كان الشهيد والنموذج ومحمد البوعزيزي كان المفجر وزينة الشباب وحاتم بالطاهر كان شهيد الفكر وقربان الجامعة اليك من أجل الهاب نار الانتفاضة وكل الشهداء بكل الأسماء والأجناس من أطفال ونساء وعمال وطلبة ومربين كانوا النجوم التي رصعت سماء الحرية الناصع وزركشت أرواحهم الزكية قبة الكرامة ونقحت الأفق وضربت في الأرض.

لقد رفضت كل الوعود الزائفة وبينت أن المسكنات والمهدئات ماهي الا ترقيعات تطيل عمر المستبدين وتعطي فرصة للمتزلفين لمواصلة النهب والاثراء الفاحش ولا يجني منها الناس شيئا وتنغص حياتهم، ولقد كشفت يا شعبي بفضل ذكائك غير الطبيعي كل المؤامرات وتسلحت بالنضج البطولي ولم تنطل عليك الألاعيب والحيل وطلبت بكل الغضب من عناكب الفساد مغادرة الساحة وترك المكان وكنست كل السراق وطلبت افساح المجال لفيض الشباب الذي يتدفق في عروقك بعد أن تبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود وامتلكت الوعي الكافي وأشعلت الدنيا بالشعارات الصادقة والعبارات الدالة التي يعجز أعظم المفكرين عن تخيلها وافتراضها ولكن نظريتك عجنتها بلحمك وعظمك ونطقت بها بعرقك وكدحك.

أنت الفكر اليوم يا شعبي وأنت الضمير في المستقبل والحكم في الحاضر والسلطة العليا في كل وقت وأنت الذاكرة القادمة من بطون الغيب ومفاصل التاريخ والساهرة على الاحتجاج والتحريض والزاحفة على عشوش الظلام والمناوئة للتزييف والتخريف. أنت الملهم الذي لا ينضب والنبراس الهادي والأمل الواعد عند كل كائن طامح والدرس القادم لكل الشعوب، وأنت الفرح الدائم والمحرر الأكبر وحركتك هي العاصفة التي تقتلع كل الألواح العاتية وتحرر النخبة المهترئة وتصفع كل الجلادين والانتهازيين.

وحدتك المقدسة يا شعبي مبهرة وتراص صفوفك أسوة حسنة وتوزيعك للأدوار بين جهاتك في انتفاضتك كان ذكيا وتداول فئاتك على تسلم المشعل وتحريك الشارع وقيادة الجماهير واتباع أسلوب الكر والفر كان مثيرا للدهشة وعنادك على الغضب كان ايجابيا وحبك للتغيير ورغبتك في التقويض كان بركانيا انفجاريا، فقد أنزلت سلطة الحكم الفردي من سماء القداسة الى أرض الخساسة وقضيت على آخر فاسد بدموع آخر حاقد.

لقد امتلكت ثورة الأحرار كل مقومات الثورة اذ فر رمز النظام البائد بجلده وتمت مطاردة عائلته وعصابة المفسدين في الأرض والمظلومين بفعل القوانين الجائرة والاحتجاج على الظلم قد تمردوا في السجون واستشهدوا من أجل الحرية وبعض الجيوب الرجعية مارست سياسة الأرض المحروقة ولذلك نرى لحظة ثورتك نقطة اللاعودة مع الماضي البائد وتدشين الفعل التاريخي الذي يصبح بمقتضاه كل شيء تحت مشيئة الشعب وارادة الجماهير الناهضة وتحقيق المنعطف الديمقراطي بحق وتأسيس بفضله دولة بالمعنى العلمي للكلمة.

لقد انطلقت الشرارة من سيدي "بوزيد التي قالت لا" مثلما تغنى الفنان الملتزم محمد بحر كحركة احتجاجية انتصارا للكرامة ومطالبة بحق الشغل والتنمية العادلة وتأججت الانتفاضة المباركة في القصرين وخاصة تالة وفريانة والرقاب وامتدت الى الجنوب وخاصة ابن قردان وجرجيس ومدنين والشمال ونذكر بنزرت مدينة الجلاء وجندوبة والكاف وسليانة وعمت الوسط الغربي والساحل وصفاقس والقيروان والتحقت العاصمة وباجة والوطن القبلي ثم انهمرت في قفصة وتوزر وقبلي وقابس وزغوان.

اللافت هو مساهمة الاعلام الجماهيري والمنتديات الاجتماعية ووسائل الاتصال الحديثة في الثورة وذلك بنقل المعلومة ومقاومة سياسة الحجب وخاصة عن طريق الهواتف الجوالة والانترنت والنشاط النضالي الدؤوب لرجال الخفاء وراء الحواسيب والقدرة العجيبة على التأثير والتحكم والتوجيه للرأي العام.

ان شرعية الثورة مستمدة من الحاجة الى التغيير والاصلاح التي تتفق مع سنن الكون وتأتي كرد فعل على الظلم والتعسف الذي جوبهت به مطالب الشعب وكأن الناس الذين خرجوا الى الشوارع ساخطون على من صادر طموحهم في حياة كريمة وتعليم متوازن وشغل محترم يستجيب لمؤهلاتهم ومستذكرين ما قاله الثائر علي بن غذاهم: «ان السور الذي يحمينا أننا ظلمنا» ومرددين صرخة الشهيد فر حات حشاد: «أحبك يا شعب».

مبروك لكل التونسيين بعد ان تخلصوا من الطغمة الحاكمة والأسلوب العائلي في الحكم وتهانينا لتونسة الثورة وانزياح الغمة والوداع لكل ضروب الفساد والمحن والابتلاء وللعقلية الانتقامية والاقصائية التي ولت ودحرت ووسام شرف يمنح الى النقابة التي ساهمت والى ساحة محمد علي المعطاءة وتحية الى المعارضة التي حركت وساندت والى المحامي الذي دافع والطبيب الذي عالج والصحفي الذي غامر وغطى والمربي الذي وجه والمثقف الذي أطر والعامل الذي سار وثابر والعاطل الذي ثار وقاوم والطفل الذي تجرأ وحلم والمرأة التي احتلت وسط المعركة ونهضت نحو المستقبل ضد كل أشكال الحزم والتشدد.

كل الشكر لكل الشعب ولكل الذين تقدموا في الصفوف الأمامية وثبتوا في الميدان عاريي الصدور أمام الرصاص وتحية تقدير لكل المناضلين الميدانيين والافتراضيين والشباب الطلابي الثائر الذين كانت مساهمتهم طليعية ومصيرية وكل التقدير للورود التي أزهرت ولكل البراعم التي أرادت الحياة والتفتح، ولكل أستاذ ومعلم وتاجر وفلاح وعامل وموظف ولكل جنود الجيش والضباط والكوادر على وطنيتهم ووفائهم ومواقفهم الشجاعة والتحامهم بالشعب ،فالكل ساهم في قومة المظلومين وكل الشعب انتفض والكل التحق ولو بعد حين وانضم الى المسيرة في مشهد عجيب لا نظير له سوى في ثورة فرنسا التي قضت على تحالف الكنيسة والنظام الملكي أو ثورة روسيا العمالية على القيصر أو الثورة الشعبية في ايران على الشاه والجهاز الأمني الذي سانده وان هذا النصر لمفخرة وعزة لكل العرب ولكل الشعوب الحرة.

ان ثورة تونس الخضراء هي ثورة كل العرب والمسلمين والشعوب المحبة للعدل والمساواة والحرية ودليل على أن الديمقراطية يمكن أن تكون القيمة الكونية ومطلب الشارع والمشترك الشعبي وهذا الحدث الحضاري يزرع الأمل ويرفع سقف الحلم ويطلق الوعد الصادق عند الشباب العربي الطامح نحو بناء مستقبله بنفسه واذا كان وراء كل ثورة فكر ملتزم وثقافة جادة وعمل نظري رصين ومثقف عضوي فإن فيلسوف الثورة هو من كتب نصوصه على نار هادئة وآمن بالقراء الذين ينتظرونه وأراد للناس حياة بلا ظالمين وكشف في واضح النهار التناقض بين الديمقراطية والاستبداد وشهر بالاستبداد الديمقراطي.

الآن على كل كائن آدمي أن يؤمن بك يا شعبي وبقدرتك العجيبة على الخلق وصناعة الملاحم والمعجزات وتثوير الحقيقة ويباغت ايقاع الزمن الرتيب وحتمية التاريخ وأن يصلي من أجل خلاصك وسؤددك ويعمل على منعتك واستقلاليتك وحكم نفسك بنفسك وأن يزيد من ايمانه بك وثقته في صدقك وصفاء بصيرتك.
لقد آمنت ثورة المضطهدين بالمواطنية والمساواة وعجلت بميلاد المواطن بالمعنى السياسي الكبير وأرست ضمانات شعبية للديمقراطية تستند مرجعيتها من سلطة الشارع وضغط الرأي العام والاجماع بين القوى الحية على مطلب الانعتاق والسيادة الشعبية وكرست التوجه نحو المحاسبة والرقابة على الحكام.

المطلوب من كل قوى الشعب سواء مثلها التيار العلماني واليساري أو التيار العروبي والاسلامي التفاهم والتحاور من أجل التوحد والانصهار والارتقاء الى مستوى نضج الشعب ووعيه وطموحه وتقدير تضحياته والمحافظة على قيم الثورة التعددية والديمقراطية التي نادت بالكرامة والتجذر في الوطنية.

كما أن العقد الديمقراطي الجديد ينبغي أن ينهل من روح الثورة ويعتبر قيمها هي المرجعية الشعبية للحكم دون اقصاء لأي طرف طبعا مع السماح بعودة كل المغتربين والمهجرين واصدار عفو تشريعي عام واطلاق للحريات وتمكين الحساسية السياسية والثقافية والحقوقية من النشاط القانوني في مناخ حر.

لنكتب كلنا سردية الثورة التونسية ولندون لحظة بلحظة وحدث بحدث ملحة الياسمين وانتفاضة الاحرار التي غلبت ارادة الحياة على ارادة العدم وأخرجت الحي من الميت والميت من الحي وزرعت التحرر والديمقراطية في أرض خالية من بذور الاستبداد والتسلط ولتبقى ثورة افريقية مرجعية لكل الاجيال ونموذج لكل الشعوب حتى تثبت للعالم أن خيار التقدم والقطيعة والتأسيس هي أمور ممكنة عربيا.

امض في طريقك يا شعبي ولتكن ثورة الياسمين هي البوصلة التي توجهك وافرض بكل الطرق منهجك ولتكن تونس لكل التونسيين حاضنة لجميع أبنائها دون اقصاء أو تمييز بين شمال وجنوب وبين ساحل وداخل واحذر من الفتنة والانقلاب على ما ناضلت من أجله والانحراف نحو التخريب والنهب واحرص على ارادة الحياة وشمر على سواعد ابنائك وعول على عقولهم النيرة من أجل البناء والمساهمة في التعمير والشروع في الاصلاح والفلاح والاقبال على المستقبل بروح التحضر والتمدن واستمر في الدرب الذي رسمته بدماء الشهداء واعبر كل المحن والنوائب فقد تعلمت الآن كيف تناطح السحاب وكيف تقهر القدر وتعمل على تحريك التاريخ وتصنع لأفرادك بأفرادك ربيع عمر دائم. ولنردد معا ما قاله شاعر الخضراء العظيم أبو القاسم الشابي:

اذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسرُ
والمجد لثورة الأحرار

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى