الاثنين ٣ آب (أغسطس) ٢٠٢٠
بقلم محمد زكريا توفيق

أدعو حكامنا لقراءة مونتسكيو

"كتاب روح القوانين لمونتسكيو، ينبغي أن يكون كتاب الصلوات اليومية للملوك."

كاثرين الكبرى

هذه دعوة لحكامنا لقراءة مونتسكيو وخصوصا كتاب "روح القوانين" الصادر عام 1748م. وهو من أعظم الكتب التي ظهرت في عصر الأنوار قبل الثورة الفرنسية. الكتاب هو ثمرة عمر كامل، كتب بعد أربعين عاما من الجهد والتجربة والخبرة والمعاناة.

مبدأ فصل السلطات، يعمل به في معظم دساتير العالم اليوم، ويذكر في بلادنا أيضا من حين لآخر في بعض المقالات السياسية، أو يأتي على لسان بعض السياسيين وزعماء المعارضة، حينما يتحدثون عن تعديل الدستور. لكن، من أين أتى هذا المبدأ، وماذا يعني؟ هذا المبدأ أو نظرية الفصل بين السلطات قد أتت من كتاب روح القوانين لمونتسكيو.

السلطات التي نعنيها هنا هي سلطات الحكومة الثلاث. السلطة التشريعة والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. السلطة التشريعية (مجلس النواب) تسن القوانين، لكن لا تقوم بتنفيذها. السلطة التنفيذية (الرئيس والوزارة) تتولى التنفيذ، لكن لا تسن القوانين. أما السلطة القضائية (المحكمة الدستورية العليا) فتقوم بتفسير القوانين والتأكد من مطابقتها لبنود الدستور. السلطات الثلاث تكون ما يعرف بالحكومة.

في يناير عام 1689م، ولد مونتسكيو في بلدة لابريد بالقرب من بوردو في مقاطعة مونتاني جنوب غرب فرنسا. كان أبوه، جاك دي سيكوندا، ضابطا من سلالة طويلة من النبلاء. وكان يعمل كبير قضاة في جوديين. قضى مونتسكيو الابن السنوات الثلاث الأولى من عمره بين فلاحي القرية. أرسل في سن الحادية عشرة إلى مدرسة على بعد عشرين ميلا من باريس. ثم عاد إلى بوردو في سن السادسة عشر ليدرس القانون. الصداق الذي قدمته أمه البروتستنتية، جين دي لارتيجيه، كان عبارة عن قصر لابريد وأرضها.

في ذلك الوقت، كانت انجلترا دولة ملكية دستورية، منذ ثورتها العظيمة (1688-1689م). وكانت تكون مع اسكتلندا عام 1707م، مملكة بريطانيا العظمى. (انجلترا ليست هي بريطانيا، وإنما جزء منها). في عام 1715م، وبعد حكم فرنسا مدة طويلة، توفي الملك لويس الرابع عشر، ليرث بعده لويس الخامس عشر الملك، وهو طفل في الخامسة من عمره. كانت لهذه الأحداث تأثير كبير على مونتسكيو، كان يشير إليها مرارا في كتاباته.

مات أبوه وهو في سن الرابعة والعشرين، تاركا له ثروة طائلة. بعد ذلك بسنة، دخل برلمان بوردو كعضو وقاضي. ثم ورث عن عمه عام 1716م ثروته ومنصبه كرئيس للبرلمان. كان يقوم بالتجارب والأبحاث في الفيزياء والفسيولوجيا ويقدمها إلى أكاديمية بوردو، ويجمع بيانات عن جيولوجية الأرض، ساعدته في تأليف كتابه العظيم "روح القوانين". نلاحظ هنا أن الثروة الكبيرة لم تفسد مونتسكيو، إنما ساعدته على الدراسة والبحث والتأليف الذي أفاد البشرية كلها فيما بعد.

عندما كان يعمل مونتسكيو قاضيا بالبرلمان، نشر كتابا ساخرا بعنوان "الرسائل الفارسية" عام 1721م، تحت اسم مستعار لسائحين فارسيين يزوران فرنسا. هما ميرزا وأوزبك. ينتقد فيه بأسلوب تهكمي، سخافة المجتمع الباريسي المعاصر، ونقط الضعف فيه والأهواء والتحيز عند الفرنسيين. ويسخر، في نفس الوقت، من حماقات السلوك والمعتقدات الشرقية.

كتاب الرسائل لمونتسكيو يبين أن الملكية نظام شاذ غير سوي، ينتهي حتما إلى حكم استبدادي مطلق. الحاشية فاسدة، والنبلاء خاملون مبذرون يسيئون إدارة أموال الدولة. لكنه يمتدح جمهوريات اليونان وروما القديمة، وهولندا وسويسرا الحديثة. الحكومة شئ ضروري. لكنها شر لابد منه. يجب أن تكون قائمة على الفضيلة والأخلاق. (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت – فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا). لكن انتقادات مونتسكيو الدينية كانت أكثر قسوة.

الساحر "على بابا" يحث الناس على الاعتقاد بأن الخبز ليس خبزا والخمر ليس خمرا. ويسخر من اختلاف المذاهب الدينية، والمسابح وثياب الرهبان الفضفاضة. وأفزعته محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال، حيث كانت تحرق الناس بدون رحمة مثل الحطب باسم الدين.

امتناع الرهبان والراهبات عن الزواج وتحريم الطلاق سوف يعوقان ازدياد السكان في كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. الرهبان خاملون يستولون على كل ثروات الدولة تقريبا عن طريق الوقف، فلا تتداول هذه الثروات ولا تستغل في التجارة أو الصناعة.

كان يسخر مونتسكيو من الاضطهاد العنصري ويقول على لسان أوزبك: "أنت تعلم ياميرزا كيف أجبر الأرمن على مغادرة المملكة أو الدخول في الإسلام. اعتقادا منهم أن هؤلاء الكفار يلوثون المملكة. اضطهاد هؤلاء الكفار عبدة النار جعلهم يفرون إلى الهند الشرقية، مما حرم البلاد من شعب جاد نشيط. هذا التعصب الأعمى سوف يتسبب في تدمير الصناعة ومن ثم البلاد، حاملة معها الديانة التي نريد حمايتها.

بعد ثلاثة عشر سنة من كتاب الرسائل لمونتسكيو، كتب فولتير عندما كان في المنفى في إنجلترا، كتابا شبيها يصف فيه الحرية ونظام الحكم في بريطانيا، بعنوان: "رسائل عن الإنجليز". كتاب الرسائل لمونتسكيو وكتاب الرسائل لفولتير يعتبران انتصارا لحرية الرأي، وإيذانا ببداية عصر الأنوار في فرنسا. من حسن الحظ، كان الوصي على عرش فرنسا في ذلك الوقت متسامحا بعض الشئ.

ترك مونتسكيو زوجته وراءه في لابريد، وذهب إلى باريس لكي يجني ثمار الشهرة بين الطبقة الراقية والصالونات. لذلك لم يكن من الصعب وقوعه في غرام أخت الدوق دي بوربون الذي أصبح رئيسا لوزراء فرنسا عام 1723م. ألف لها قصيدة شعر بعنوان "معبد الحب" عام 1725م. انضم بسبب مساعدة حبيبته إلى مجمع الأربعين الخالدين عام 1728م.

ثم زار بعد ذلك إيطاليا والنمسا والمجر وسويسرا وهولنده وإنجلترا، في رحلة استغرقت ثلاثة أعوام. قضى نصف هذه المدة في إنجلترا. أثناء هذه الزيارة، عقد مونتسكيو أواصر الصداقة مع مجموعة من علية القوم. واختير عضوا في الجمعية الملكية بلندن. واستقبله الملك جورج الثاني والملكة كارولين. وحضر جلسات البرلمان الإنجليزي، وأولع بالنظام السياسي البريطاني. عندما عاد إلى فرنسا، كان شديد الإعجاب، مثل فولتير فيما بعد، بالحرية التي يتمتع بها الإنجليز. رجع إلى لابريد وتفرغ لأبحاثه وكتاباته التي شغلت بقية أيام حياته.

لم يحظ كتاب مونتسكيو الثاني "تأملات في أسباب رفعة الرومان وسقوطهم" الذي صدر عام 1734م، بنفس النجاح الذي لاقاه كتابه الأول "الرسائل الفارسية". الكتاب الجديد كان محافظا بعض الشئ. كما أن الراديكاليون(المتطرفون)، لم يعجبهم التركيز على أهمية الأخلاق، ولم يكونوا مستعدين لفهم عبارات عميقة مثل "الذين لم يعودوا يرهبون القوة، في مقدورهم احترام السلطة". وهي تعتبر من روائع النثر الفرنسي.

الفناء قدر محتوم يصيب الأفراد والديانات والدول. وكما كان اسحق نيوتن يبحث عن القوانين التي تحكم الطبيعة، كان مونتسكيو يبحث عن القوانين التي تحكم حركة التاريخ وتسبب نهوض وفناء الدول. أحداث التاريخ لا يسيرها الحظ أو القدر وحدهما. لكن هناك أسباب مادية ومعنوية هي التي تسير التاريخ. الفرد ما هو إلا أداة للحركة العامة للتاريخ، أو لروح العصر كما أسماها هيجل.

القدر ليس قوة ميتافيزيقية، إنما هو محصلة عدة عوامل. وعلى المؤرخين والفلاسفة، الكشف عن هذه العوامل ودراستها. لماذا سقطت روما؟ لأنها تحولت من جمهورية إلى دكتاتورية. الجمهورية تتوزع داخلها السلطات وتتوازن. لكن الدكتاتورية لا تصلح إلا للاعتداء على الجيران واستعمار الدول الأخرى.

الدكتاتورية تدمر الحرية وتشل نشاط المواطنين. هذا يؤدي بمرور الزمن إلى انتشار الخنوع والخمول والذل بين الجماهير. ويجعل الفقراء عالة على الدولة، ويضعف الأخلاق بسبب سوء توزيع الثروة وانتشار الفسق والفجور. كما تسبب الدكتاتورية وحكم الفرد أيضا فساد رجال الإدارة وزيادة الضرائب، وهجر المزارع والحقول. وهي أيضا تستنزف الحيوية العسكرية للدولة، وتجعل الجيش يسطر على الحكومة المدنية. ويصبح اهتمام الجيش، هو تنصيب الحكام وخلعهم، بدلا من حماية أمن البلاد.

بعد مرور أربعة عشر عاما من كتاب مونتسكيو عن الرومان، صدرت أعظم أعماله، كتاب "روح القوانين". بدأ كتابته عندما كان في سن الأربعين. كان يكابد وهو يؤلف الكتاب وكثيرا ما طرحه جانبا أو قذف به بعيدا. حتى أنه كان يناغي ربات الفنون والعلوم، الموزيات التسع، لكي يساعدنه قائلا: "الدرب طويل. لقد أضناني الأسى والإرهاق. فأدخلن على قلبي البهجة والانشراح لكي تدفعاني إلى الطريق الصحيح."

لقد بدأت هذا العمل دون خطة أو قاعدة. وكانت الحقائق تأتيني ثم تهرب مني ثانية. إذا صادف هذا العمل نجاحا، فسأكون مدينا به لعظمة الموضوع وجلاله. لقد فقد مونتسكيو بصره كله تقريبا أثناء تأليفه هذا الكتاب، مما اضطره في النهاية إلى املاء الأجزاء الأخيرة منه.

كانت مراجع مونتسكيو في تأليف روح القوانين، إلى جانب محاوراته مع الفلاسفة والمفكرين الذين عاصروه، العديد من المؤلفات منها: كتابي الجمهورية والقوانين لأفلاطون، السياسة والحيوانات لأرسطو، الأعمال الأخلاقية لبروتارخ، كتاب الأمير لميكافيللي، المدينة المثالية لتوماس مور. وكان كلما كتب جزءا، عرضه على أصدقائه، ومنهم الوزير الأديب دارجنسون والآب جاسكو وهلفشيوس وفولتير.

كتاب روح القانون، يبين العلاقة بين القوانين ونوع الحكومة. ويوضح العلاقة بين القوانين والعادات والمناخ والدين وأسلوب التجارة وغيرها من العوامل. الكتاب عبارة عن بحث اجتماعي في العلاقات المتبادلة بين مكونات الحضارة.

طبيعة القوانين عند مونتسكيو يحددها مناخ البلاد وتربته. وكذلك طبيعة الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وخلقه وعاداته. القوانين عند مونتسكيو، هي العلاقة الضرورية التي تنشأ بين الأفراد والمجتمعات. لكنه يميز بين عدة أنواع من القوانين:

1- القانون الطبيعي، أو الحقوق الطبيعية لكل الناس.

2- قانون الأمم الذي يحكم علاقاتها ببعض.

3- قوانين سياسية تحكم العلاقات بين الأفراد والدولة.

4- القانون المدني الذي يحكم علاقات الأفراد بعضهم ببعض.

النظام الجمهوري يصلح في المساحات الصغيرة من الأرض. حيث يستطيع الزعماء فيها أن يجتمعوا للتشاور والتداول والعمل. إذا اتسعت الرقعة، خضعت للحكم الملكي. وإذا ازدادت الرقعة اتساعا أكثر مما ينبغي، تحولت الملكية إلى نظام استبدادي، حتى تستطيع المحافظة على باقي المقاطعات تحت سلطانها.

الجمهورية يجب أن تقوم على الفضيلة. الفضيلة عند مونتسكيو هي حب الوطن والمساواة بين مواطنيه. الديموقراطية يجب أن تحقق المساواة السياسية والاقتصادية بين المواطنين. الضرائب يجب أن تكون تصاعدية حتى تحقق العدالة الاجتماعية بين المواطنين.

الحكم المطلق، يقطع الشجرة من جذورها لكي يجمع ثمارها. والحاكم المستبد، يستأصل أعظم الناس كفاءة ومقدرة لكي يحمي قوته وسلطاته. كره مونتسكيو للحكم المطلق، جعله يأتي بأشهر وأعظم نظرياته، نظرية الفصل بين السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية.

السلطة التشريعية تضم مجلسين: مجلس يمثل الطبقات العليا، وآخر يمثل العامة. يوجد أناس متميزون ثقافيا وعلميا واجتماعيا في كل مجتمع، النبلاء مثلا. إذا تساوا بعامة الشعب، يكون لهم صوت واحد مثل الباقين. من ثم يفقدون اهتمامهم بمساندة الحكم. وتكون معظم القرارات الشعبية في غير صالحهم. لذلك يجب أن يكون لهم الحق في مقاومة إساءة استعمال عامة الشعب للسلطة.

في نفس الوقت، يكون للشعب الحق في مقاومة أي اعتداء على حريتة من الطبقات العليا. من هنا تكون السلطة التشريعية في أيدي النبلاء وأيدي الذين ينتخبهم الشعب متوازنة. على أن يكون لكل هيئة صلاحياتها وآراؤها، وتكون منفصلة عن الأخرى.

عندما تفصل السلطات الثلاثة، ويراقب كل منها السلطتين الأخريين، تتحقق حرية المواطن، وتلتئم مع عدالة الحكومة. هذه الأفكار نجد جذورها عند هارنجتون والجرنو وسيدني وجون لوك. لقد وجد مونتسكيو ضالته في نظام الحكم الإنجليزي. فالملكية يكبح جماحها مجلس العموم. ومجلس العموم يكبح جماحه مجلس اللوردات.

كان مونتسكيو معجبا بمذهب الرواقيين، ويعتبر القضاء على مذهبهم محنة ابتلي بها الجنس البشري. لأن هذا المذهب وحده، هو الذي صنع الموطنين وعظماء الرجال. الحرية عند مونتسكيو حق لكل إنسان، طالما كانت في ظل القانون. وكان يستنكر الرق لأسباب أخلاقية.

كان يعترف مونتسكيو بالله كعقل تعبر عنه قوانين الطبيعة وروح القوانين. لكنه يعتقد أن المعجزات لا تلائم طبيعة الإنسان. لا يمانع من وجود شرائع دينية تكمل القوانين المدنية، بشرط ألا تلغيها. وجود القوانين المدنية تحد من استبداد الشرائع الدينية. كما يجب أن تكون الدولة والكنيسة كل منهما رقيبة على الأخرى، حتى يحدث التوازن.

في سنته الأخيرة، وكان مصابا بالعمى أو يكاد، قصد إلى باريس لإنهاء عقد إيجار بيته، لكنه أثناء الزيارة أصيب بالتهاب رئوي وقضى نحبه في 10 فبراير عام 1755م، وهو في سن السادسة والستين. كان الأديب الوحيد الذي اشترك في تشييع جنازته، هو ديدرو.

كتب جيبون: "على مدي أربعين عاما منذ صدور روح القوانين، لم يقبل الناس على قراءة كتاب أكثر منه". لقد استفاد كل من جيبون وبلاكستون وبيرك من كتابات مونتسكيو. وعده فردريك الأكبر أحسن الكتب بعد كتاب الأمير. ورأت كاثرين الكبرى أنه ينبغي أن يكون كتاب الصلوات اليومية للملوك.

لقد أصبح كتاب روح القوانين الكتاب المقدس عند زعماء الثورة الفرنسية. ونقل واضعوا مسودة الدستور الأمريكي عن مونتسكيو نظريته في فصل السلطات، ومبدأ استبعاد الوزراء وموظفوا الحكومة من عضوية المجالس النيابية. وعلى مدى جيل واحد من الزمان، كان مونتسكيو، لا فولتير، هو صوت العقل وبطله في فرنسا. كما يقول "ول ديورانت"، صاحب كتاب قصة الحضارة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى