الثلاثاء ٦ تموز (يوليو) ٢٠٢١
بقلم حسني التهامي

أشكال الحداثة في الهايكو العربي (سامح درويش إنموذجا)

جزء من مقال مطول

أشكالُ الحداثةِ في الهايكو العربي سامح درويش نموذجا (جزءٌ من مقالٍ مُطول)

تمثل تجربة الشاعر المغربي سامح درويش في ديوانه "خنافس مضيئة" منطلقا نحو الكتابة الحداثية شكلا ومضمونا. فمع الوعي بخصائص الهايكو الكلاسيكي يتخذ الهايكست مسارا مغايرا، وينعكس ذلك على أسلوبه في تشكيل بنية قصائده المختزلة والتي غالبا ما تجمع بين الخاص والكوني، في أحيان كثيرة يمزج الهايجن هذين العنصرين عن طريق اشتراكهما في فعل الحدث، ولا يلتزم بالطريقة الكلاسيكية التي تقضي بأن الهايكو شعور إنساني تجاه الطبيعة، على عكس ذلك تتأثر الطبيعة أحيانا بالإنسان وتتجاوب مع مشاعره وعالمه الداخلي، فينتج عن هذه التقنية أحداث مفاجئة تحدث المفارقة، وهي عنصر أساسي للدهشة:

بدغْدغَاتِ ظِلّ يدِي،
تطِيرُ بهْجةً
سمَكاتُ الوَادي. (22)

نلاحظ مدى التماهي بين عنصري الطبيعة والإنسان حد تأثر الطبيعة ذاتها بالتفاصيل البشرية، فسمكة الوادي بشكل مجازي تبتهج عندما تستشعر دغدغات ظل اليد، وتلك الصورة غير مألوفة في الأنماط التقليدية. وكعادة الشاعر في معظم نصوص الديوان ينهي السطر الأول بعلامة قطع، وهي غالبا ما تكون على شكل فاصلة تمنح القارئ مساحة للتأمل والتأويل قبل أن يعرج على الحدث في السطرين التاليين.

حجَرة الوادِي الملْساءْ،
ما صقَلَها
غيْرُ حنَان الماءْ. (23)

تعكس نصوص ديوان خنافس مضيئة عمق تجربة الشاعر وجرأته في استكناه معالم الجمال الحقيقي عبر التفاصيل الدقيقة والكائنات البسيطة. بكلمات بسيطة مختزلة تضمر معاني عميقة، استطاع سامح درويش أن يصنع شكلا حداثيا من خلال ومضات مفاجئة من الحياة اليومية تكشف لنا الحقيقة وينتابنا خلالها الاحساس بالكمال. إنها اللحظة الجمالية التي يتماهى فيها الشاعر تماماً مع ما حوله من عناصر الطبيعةِ، ليشكّل مشهدَه الشعرى بطريقة تأملِية وصوفية، وعندَ القبض على هذه اللحظةِ يدركُ كُنْهَ الأشياء وطبائعَها ويتوحدُ معها. تعطي جمالية (الاستنارة)، الجلية في معظم قصائد الديوان رؤيةً جديدةً وفهماً عميقاً للأشياءِ العادية في لحظةٍ خاصةٍ من الشعورِ والصحوة:

قصْفٌ مُضادّ،
أخْفَض منْ طائراتِ القصْف
تُحلق طائراتٌ ورقيّة

إن فن الكتابة في رأي كونراد هو أنه "يجعلك تسمع، وتشعر، وقبل كل شيء، يجعلك ترى"، وهنا يكون للعقل دور كبير في العملية الإبداعية، فهو يقوم بعملية "المقارنة المفاجئة" التي تحدث نوعا من الاستنارة الحقيقية أو صدمة الوعي نتيجة الإدراك المفاجئ للحقائق الكامنة في الوجود. يعقد الشاعر في نصه مقارنة ذكية بين طائرات القصف والطائرات الورقية التي يستخدمها الأطفال الأبرياء في اللعب، وبهذه المقارنة البارعة تكون المواجهة بين قطبين متنافرين، براءة الطفولة ووحشية الحرب. استخدم الشاعر كلمة "أخفض" كي يعبر عن شدة وعي الطفولة بقوانين لعبة الحرب، فغالبا ما تحلق الطائرات بشكل منخفض كي تتحاشى رادارات العدو لالتقاطها وتنجح في مهمتها. هنا يريد الشاعر أن يخبرنا أن الغلبة في النهاية ستكون للبراءة، للطفولة الغضة والواعية بالفطرة، على الرغم من إمكانات قوى الظلام والهمجية. استطاع سامح درويش أن يقبض على لحظة الهايكو ونجح في تشكيل مشهده الشعري عبر عقد مقارنة واعية تعكس عمقا في النظرة للأشياء والتوحد معها.

جزء من مقال مطول

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى