الجمعة ١٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

أمكـيدة...

أم لغـز ؟كـان يمد خـطوة تـلـو خـطوة، يـتـمايـل كـالسكـران، كـان شكـلـه كـالـمصعـد، يـرتـفـع ويـنـخـفـض، يـضع يـده على ركـبـته وهـو يـزحـف، لـباسه متـسخ من طول ما جـرر رجـله على الأرض. لا نـدري كـيـف تـسلـق درجات سلـّم حـافـلة الـنـقـل بـوسط الـمديـنة. كـان وجهه صغـيرا تكـاد ملامحـه تخـتـفي خلف الأوساخ، لاشـك أنه تـلـوث بأدخـنة سيارات الـنـقـل وحافـلات المرور. نحـن قـد اعتـدنا أنـك مهـما اجـتهـدت في تـلـميـع حـذائـك فـإنـك حـيـن تـلـج هـذه الـمحـطة فـلن تخـرج مـنـها إلا وحـذاؤك في حـالة يـرثى لها.

لـسان هـذا الـصبي لـم يكـن يـتـوقـف لحـظة عـن الـتـمـتـمة بـأدعـية وتـراتـيـل حـفـظها عـن ظهـر قـلـب كـما حـفـظـها غـيـره من الـمتـسولـيـن وصبـيـان الـسـوق. كـانـت مـمـلـّـة تـثـيـر الـتـقـزز. كـانـت الـنظرات تـلتـهمه، فـقـد كـان عـرضا بلا طـول، انـفـطـرت الـقـلـوب لـشدة هـذا الـمـوقـف. لا شك أنـه يـتـيـم معـوق، فحالـتـه تـثـيـر الـشـفـقـة إلى أقـصى حـد، حالة قـد تـثـيـر مكـامن الـرحـمة حـتى في أشـد الـصخـور صلابة. بـدأت الأيـدي تـتـحـرك مـتـجـهة نحـو الجـيـوب، والأجـسـام تـتـمايـل مـفـسحـة الـمجـال لـيـد هـنا ويـد هـناك، تـقـدم ما فـي الـوسع، قـطـعة، قـطعـتـان، من الـناس من ألـقى بـأكـثـر، تـطوع أحـد الـركـاب فـوضع أماه منـديـلا سرعان ما تـقـاطـرت عـلـيـه الـقـطع الـنـقـديـة كـالسـيـل الجارف، لاشك أنـه صادف لحـظة استـنـارة الـقـلـوب، فـبعـضها لا تـمـر به مـثـل هذه اللحـظات إلا مرة أو مرتـيـن في الـسنة إذا أيـقـظـتـها مـنـاسـبـة محـزنـة أو مـوقـف مـثـيـر.

وبعـد أن تـوقـفـت الـدراهم عن " الـتـهاطـل"، تـقـدم أحـدهم وعـلـيه ثـياب بـيـضاء، على وجهه علامات الـتـرف، ساعـده في جـمـع الـنـقـود، وحـزم الـمـنـديـل، أمـا الـمـتـسول فـلـم يكـن يـتـوقـف عـن الـدعاء لـكـل من أعـطى قـلـيلا أو كـثـيـرا . فـقـام رجـلان وتعـاونا فـحـملاه حـتى وضعـاه على رصيف الـمحـطة حـتى يـجـنـبـاه الـزحـف عـلى جـسـده على أرضـيـة الحـافـلـة .

كـانـت الحـافـلـة تـتـأهـب للانـطلاق بـركـابـها، الـبـعـض ممن لـم يـركـبوا بعـد يـلـوّحـون بـأيـديـهم للـسائـق ألا يـتـسـرع، حـتى لا تـفـوتـهـم فـرصة الـركـوب فـيـضطرون للانـتـظار.

تـنـهد الـبعـض، وأحـس الـبعـض الآخـر بـالـرضى عـن الـنـفـس، ما أجـمـل أن تحـسن إلى الـفـقـراء والـمساكـيـن ومـا أمـتـع أن تـسـعد الـتـعـساء والـبـائـسـيـن.

بـدأت الحافـلـة تـسـيـر، البـعـض مـمن لايـزال الـموقـف يـربـكـهـم الـتـفـتـوا إلى الخـلـف لعـلـهـم يـودعـون هـذا الـبائـس بـنـظراتـهم وربـما بـعـواطـفـهـم .

فـجـأة، مـاذا يحـدث ؟ يـاللـهـول، كـان الـمـتـسول يـتـمـدد ويـحـرك رجـلـيه بـشكـل غريب، الحافـلـة تـسـيـر بـبـطء في انـتـظار أن يـفـرغ الـمـمـر لـتـنـطـلـق بـسرعـة نـحـو الهـدف الـمقـصود، هـمّ بـعـض الـركـاب بـالـنـزول ظـنا مـنـهـم أن الـمـتـسول أصيـب بـأزمة قـلـبـية، فـجـاة وقـف ثـم قـفـز عـدة قـفـزات وحـرك رجـلـيـه على الـتـوالي كـمـن يـضرب كـرة قـدم، فـقـد كـان الـدم معـتـصـرا فـيـهـما، فـاستـوى قـائـما، نـفـض الغـبار عن ثـيـابـه واتـجـه نحـو حـافـلـة أخـرى وركـاب جـدد . صرخ أحـد الـركـاب بـاستـغـراب : أرأيـت ما أرى ؟ أجـاب آخـر: إنـه محـتـال، لـيعـلـق ثـالـث بـنـبـرة أكـثـر قـوة: لا حـول ولا قـوة إلا بـالله .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى