السبت ٢٦ آذار (مارس) ٢٠١٦
شعرية الاغتراب الرؤيوي في قصائد
بقلم عصام شرتح

«أولئك أصحابي» لحميد سعيد

لاشك في أن الاغتراب من المسائل الشائكة المعقدة في لغة الحداثة الشعرية عموماً، هذه اللغة التي تتطلب وعياً وإدراكاً، بإفرازات هذه المؤولة، وقيمتها عند شعراء الحداثة،وقد اختلفت الأشكال الاغترابية عند كل شاعر،بحسب قوة المحفز الشعوري، ودرجة الصراع التي يعانيها كل شاعر في واقعه وعالمه المعيش،ولهذا؛ تختلف مسألة الاغتراب عن الغربة في المفهوم والرؤية،وهذا ما أشار إليه أحد الباحثين بقوله:(الغربة تعني الشعور بالابتعاد المكاني عن الوطن، أي إن الإحساس بالغربة جاء بسبب المسافة التي تفصل الإنسان عن مجتمعه ومعارفه وعالمه، أما الاغتراب فيختلف عن الغربة اختلافاً جوهرياً، فهو يعني فقدان القيم، والمثل الإنسانية، والخضوع لواقع اجتماعي يتحكم بالإنسان ويستعبده، وحينئذٍ، يشعر الإنسان بالانفصال والانعزال عن الآخرين، وحتى العالم ذاته كذلك )().

ووفق هذا التصور، فإن مفهوم الاغتراب يعني الانكسار والصدام والانفصال التام عن الواقع، أو الانسلاخ عن قيمه، ورؤاه، وعاداته، ونواميسه، ومعتقداته، وكلما ازدادت حساسية الشاعر، وارتفعت ثقافته ازدادت درجة اغترابه عبر شكله الإبداعي المؤثر، وطاقته الإبداعية الخلاقة؛ ولهذا:"يكون المثقف أكثر وعياً وإدراكاً للواقع المعيش، وهو يسعى جاهداً لتغييره على وفق فلسفته تجاه الحياة والأحياء، ولا يتولد الرفض- لديه- إلا بعد وعيه الواقع بصورة جيدة، فقد يحس من يشعر بالغربة باختلاف الواقع، لكنه يحاول الاندماج معه، بغية تحقيق التوازن النفسي)().

وبتقديرنا: إن خصوصية المبدع وحساسيته الإبداعية تكمن في شكل اغترابه اللغوي، أو الفني، أو الوجودي، وهذا يدل على أن لكل مبدع رحلته الاغترابية الخاصة، وأزمته، وشعوره المستلب، وعالمه الوجودي الذي ينزع من خلاله إلى إبراز موقف ما، أو منظور مغاير؛ يشكل مفصلاً بؤرياً مهماً في توجيه تجربته، وإبراز ملمحها التكويني النفسي والوجودي الخاص،ولاغرو إزاء هذا المنظور أن نذهب إلى القول:" إن المبدع الحقيقي يعيش دائماً في رحلة عذاب واغتراب،ورحلة العذاب هذه تنطلق من إحساسه بوجوده أولاً،وعلاقته بهذا الوجود ثانياً؛ فالاغتراب ينطلق- أساساً- من الذات،ويمتد إلى الواقع المحيط، ويرتد إلى الذات؛ فالمبدع مغترب في داخله يرسم الوجود كما يراه بشكل ما، وبطريقة معينة، ولهذا، نرى الشعراء في تفاوت شعري كبير من خلال طبيعة التجربة،وعمق هذه التجربة، وخبرة كل شاعر في إيصال هذه التجربة إلى الآخرين بكل فن، ومصداقية، وإبداع"(3).

وبتقديرنا: إن مجمل مؤثرات الاغتراب تعود إلى الاغتراب الرؤيوي، و جدلية الاغتراب الوجودي(الزمكاني)،وهذا يرجح أن يكون الاغتراب الوجودي الرؤيوي مركز تمفصل التجارب الشعرية المعاصرة في تكثيف رؤيتها، وتعقيدها،واختلاف مكوناتها الإبداعية،ولا عجب أن يرى الدكتور محمود عبد الله الجادر أن " الأديب مغترب عن زمانه، ومكانه، ومجتمعه، منتمٍ إلى ذاته وحدها في همه الإبداعي.... فذاته هي محور صياغة التجربة النفسية، وتشكيلها تجربةً إبداعيةً لها خصوصيتها وطاقتها المميزة، ولولا تلك الغربة وذلك التفرد لعاد الأدب كلاماً من الكلام)()،أي لعاد الكلام الشعري خالٍ من الفكر، والحساسية الجمالية، والقوة الإبداعية الدافقة التي تحلق بالشعرية إلى آفاق رؤيوية خصبة بالإيحاء، والعمق، والشفافية؛ وبهذا الوعي المعرفي نقول لقد تعددت أشكال الاغتراب تبعاً لمنعكسات الحياة، وفواعلها النفسية والشعورية المعقدة، وبمقدار تجذر التجربة الإبداعية وعمق مردودها الفني الرؤيؤي الجمالي تسمو درجة فاعلية التلقي الجمالي في تقبلها،وتلقيها جمالياً؛ وهذا ما أشار إليه الناقد محمد راضي جعفر بقوله:"لقد انعكس الاغتراب على الشاعر العربي المعاصر، وتناسب طردياً مع تعقيد الحياة، والشاعر أسرع إلى غيره في الإصابة بهذا الداء، لأنه يتمتع بقدر عالٍ من الحساسية، والتوتر، والرهافة، ولهذا فقد عاش في اغتراب مركب، فردي، واجتماعي)().

وهذا الاغتراب أكثر ما ينعكس على الاغتراب الرؤيوي الوجودي،والمظهر اللغوي في التشكيلات النصية أو التمظهرات اللغوية المبتكرة عند هذا المبدع أو ذاك؛ ولا نبالغ في قولنا : إن الاغتراب الوجودي- بالأساس- اغتراب رؤى، وتأملات، ومن يدعي غير ذلك فهو بعيد عن الواقعية في كل شيء، ذلك أن" للأفكار عالمها الخاص،وهو عالم فاعل ضاغط، متحرك،مشحون بالقوة والطاقة، أي هو عالم حقيقي واقعي لا يقل واقعية عن العالم الواقعي، إن لم يكن أكثر منه واقعية.. وأكثر غنًى؛ والدليل على ذلك ما الإنسان؟ هل هو اللحم والعظم الذي يأكل ويمشي في الأسواق؟ كلا الإنسان في حقيقته أفكار، ومصنع للأفكار! ليست العبرة بالأجسام التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان والنبات والأشياء؛ لا إنما العبرة بما ينثال على الأجسام من معانٍ وأفكار؛ الإنسان إنسان لأنه شعاع من فكر لا لأنه ضحضاح من بدن"(6).
ومادام الإنسان- في المحصلة- مجموعة أفكار، ومشاعر، وأحاسيس، ورؤى فإن تركيبته الوجودية تظل متسائلة عن وجودها، وواقعها، ومصيرها المنتظر،،الأمر الذي يجعلها في بحث دائم عن كينونة جديدة، وعالم جديد، ورؤية جديدة،ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل قد يتجاوز الاغتراب الوجودي والرؤيوي الفكر، ليرتد ارتدادا عكسياً دالاً على الهذيان، والتشويش، والتأزم النفسي( حركة اللاوعي)،وقد سبق أن عرفنا الاغتراب الوجودي؛ بأنه" شكل من أشكال الاغتراب الذي ينأى فيه الشاعر عن الواقع والوجود إلى عالم تخييلي بعيد يمتاز بالكابوسية والتأزم النفسي، ليصل إلى درجة قصوى من الهذيان،والتشويه الخارجي لمعالم الأشياء"(7). وهذا النوع من الاغتراب الذي ذكرناه يتناول جانباً محدداً من جوانب الاغتراب الوجودي،وليس جميع الجوانب الوجودية كالشعور بالنفي، والقلق،والتوتر،والرفض،والتمزق الروحي والشعور باللاانتماء، أو الشعور بالعقم، والتصحر، واللاجدوى، وبما أن " التجربة الوجودية ليست بالتجربة الأصيلة في الكتابة العربية الإبداعية، فإن ما يتهدد الفرد العربي من مخاطر فعلية لا يقع في ممارسة الإرادة بشكل وجودي،واضطرار الإنسان إلى أن يختار بين إمكانيات غير محدودة،بل في انمحاء الإرادة الفردية بفعل قوى تقع خارج نفسه"(8). ومع تسليمنا بوجود بعض التقاطعات في المشاعر الاغترابية- لدى بعض الشعراء- إلا أن لكل تجربة خصوصيتها في بث هذه الأصداء، تبعاً لدرجة الاغتراب وشدتها، لدى المبدع،ومدى تأثره بالمذاهب الوجودية والفلسفات العدمية،وطريقة تمثلها فنياً؛ بما يخدم الرؤية الجوهرية في القصيدة، ومسارها الدلالي.

وبتقديرنا: إن الاغتراب الرؤيوي يتجاوز منطق العقل، إذ يقوم الشاعر بين أشياء متباعدة ومتناقضة أحياناً؛ حتى يستحيل معها الوقوف على دلالة صريحة، أو واضحة يعيها القارئ، ويتحثثها من قريب أو بعيد، وهذا ما يسمى بالعرف النقدي(الاستغلاق الرؤيوي) أو(الاستغلاق النصي)؛ إذ لا يمكن التقاط الدلالات التي تضمرها القصيدة بوضوح،وتبقى -دائماً- في توالد، وابتكار رؤيوي وانفجار دلالي على الدوام.

وإن اعتمادنا مجموعة (أولئك أصحابي) لحميد سعيد ليكون حقل البحث، وأرضيته الصلبة،نظراً إلى ما يمتاز به هذا الديوان من مشروع إبداعي مهم احتفت به رؤيته الإبداعية الثاقبة التي تبحث عن جديد بالأسلوب، والمنهج، والرؤية، والدلالة،وهذا المشروع الإبداعي له أهميته، ورؤيته، ومنظوره المراوغ،لأن ما هو معتاد عربياً في الحقل الشعري أو الإبداعي عامة استحضار شخصيات من التاريخ القديم أو المعاصر، في حين أن استحضار الشخصيات الروائية يكاد يكون المشروع الإبداعي الوحيد الذي يقتنص الشخصيات الروائية، ويوظفها في سياق فني إبداعي مؤثر، وهذا ما أوضحه الشاعر حميد نفسه قائلاً:" لا أتواضع حين أقول، إن تجربة تَمَثُل شخصيات روائية، ليس سوى محاولة لتجديد قصيدتي، والوصول بها إلى مدى لم تكن قد وصلت إليه من قبل، وليس ادعاءً، حين أقول، لقد اقترنت تجربتي الشعرية بهذا التوجه، منذ وقت غير قصير، إن لم أقل منذ بداياتها، إذ حاولت باستمرار أن أبتعد عن التكرار، وأضيف ما هو جديد على الصعيدين الفكري والجمالي.وكانت بعض هذه المحاولات، مغامرة من دون حسابات، كما هي قصيدتي – نص تكعيبي – مثلاً، يومها حاولت أن تتشكل بنى القصيدة كما تتشكل اللوحة التكعيبية، موضوعا وخطوطاً وألواناً، وتلك محاولة لم أكررها ثانية، رغم كل ما استأثرت به من اهتمام نقدي، واذكر إن أحد أصدقائي، قال لي معلقاً، على تجربة– نص تشكيلي – لو أن شاعراً غيرك، كتب مثل هذه القصيدة، لكررها في عشرات القصائد، وادعى إنها، اختراع، ينبغي أن يحصل عليه براءة اختراع !.ما أريد قوله، لو فكرت، بما سيقوله النقاد أو كيف سيستقبلها المحيط المتلقي، لما كتبتها، أو لما نشرتها، حتى بعد كتابتها، وهكذا هو الحال في قصائد مجموعتي – أولئك أصحابي – أي أنها محاولة لإضافة جديد إلى كل ما كتبت من قبل.وهذه المحاولة ما كانت ابنة لحظتها، بل هي فكرة تأملتها طويلاً، ولا تفاجأ حين أقول إن هذه الفكرة، تعايشت معها أكثر من ربع قرن، وكلما حاولت أن أبدا بها، أجد ما يحول بيني وبينها، ثم وجدت نفسي مهيأً لكتابة قصيدة قادرة على أن تعبر عن تلك الفكرة، فكانت قصائد – أولئك أصحابي –"( 9).

وباختصار، إن جسارة الشاعر الرؤيوية وراء هذا الطرح الإبداعي الفكري الجسور في النأي بتجربته والاغتراب بها، والتحليقفي رؤاهاومداليلها بعيداً إلى عوالم إبداعية جديدة لم تطلها القصيدة الحداثية بعد على هذه الشاكلة من الابتكار وعمق الاكتشاف،وقد وجد الشاعر حميد سعيد في الشخصيات الروائية متنفسه الإبداعي،ليعيش معها بروح الإبداع، وحساسية التجربة، وعمقها وروح المبدع الذي أراد أن ينفرد بعوالمه ورؤاه الخاصة،ليعيش نبض الشخصيات الروائية وكأنها نبضها الروحي وإحساسه الاغترابي في الواقع والمصير. إنه أراد أن يعاشرها من خلال طقسها الإبداعي، بالدرجة الأولى، ثم ليخلق من هذه الشخصيات بؤرة حراك الرؤى الجدلية، وعكس تناقضات الواقع، أي تناول الشخصيات الروائية بفكر إبداعي، وهذا ما يحسب له، وبتصورنا:هو لم يستحضر تلكم الشخصيات لمحاورتها ومساجلتها فحسب،وإنما ليعيش معها ويركن إليها، ويبث من خلالها كل ما هو مفاجئ وصادم ومحمل بالرؤى والأحداث المعيشة في عالمنا الواقعي المتخيل،وهذا ما يغني التجربة على مستوى فضاءاتها الإبداعية كافة.وهذا ماصرح به حميد سعيد قائلاً: ليس السبق في هذه المحاولة، ما يمنح القصيدة أهميتها، بل إن ما يمنحها أهميتها، هو المستوى الإبداعي في هذا التَمَثُل.
إن أي شخصية من شخصيات – أولئك أصحابي – عرفتها من قبل، وكانت لي علاقة بها، وهذه العلاقة في البدء، فكرية طبعاً، لكن طالما حولتها المخيلة إلى علاقة شخصية، قد تكون إيجابية وقد تكون غير ذلك.

ومنذ مرحلة الصبا، وبداية قراءاتي في الرواية العالمية والعربية، كنت أتخيل الفضاء الذي تدور فيه أحداث الرواية التي أقرأها، أية رواية، وتقودني المخيلة إلى مكان أعرفه أحياناً، ولا أعرفه أحياناً أخرى.وكذلك مع الأشخاص، فقد يتجسد لي في كيان شخص أعرفه أو سمعت به، وهناك من أحبه وأتعلم منه وأتبادل الود معه، وهناك من أعترض على سلوكه وأحاوره فيه.ولكل من الشخصيات التي تمثلتها في – أولئك أصحابي – حضور في تجليات الحياة والثقافة عندي في آن، وليس أصحابي هم الذين استأثروا بقصائد المجموعة المذكورة فحسب، بل هناك شخصيات كثيرة من روايات أخرى، كان يمكن أن أتمثلهم في قصائد أخرى.

وعلى سبيل المثال كنت أسمي الأخوة آل الجندي، إنعام وسامي وخالد وعلي وعاصم، حين ألتقي بهم جميعاً أو بعضاً منهم، وأستمع إلى حواراتهم وحكاياتهم ومفارقاتهم – الأخوة كرامازوف– بل كنت أتخيلهم كما الأخوة كرامازوف.وكانت لنا زميلة جميلة وذكية ومثقفة، لكنها لم تكن تقدر أن تكون بلا عشيق، ومن المفارقة إنها لم تكن رخيصة أو مستهترة في سلوكها وتصرفاتها، وكنت أناديها مازحاً باسم – إيما – لأنها تذكرني بإيما بوفاري.وكنت وما زلت، كلما أعدت قراءة رواية – مدام بوفاري – أجد تلك الزميلة في شخصية مدام بوفاري، أما – القبطان إيهاب – فطالما عاتبته على سلوكه الثأري، في حوارات متخيلة لم تتوقف، وعلى ذكر القبطان إيهاب، كنت يوماً مع الراحل محمود درويش في مقهى بمنطقة ميناء مدينة برشلونة، بانتظار معارف له من مدينة حيفا، وكنا قد دعينا من قبلهم على – مقلوبة – فلسطينية، وفجأة شاهدت شخصاً يدب على عصا، يخرج من شارع فرعي ضيق، باتجاه شارع عام، إنه هو القبطان إيهاب كما أتخيله، بمعطف طويل وقبعة سوداء، وإذ كان يواصل المشي باتجاه مكان ما، كنت كمن في غيبوبة أواصل الحوار معه، منفصلاً عن المكان الذي كنا فيه، وعن رفيق رحلتي وأحاديثه، عن أصحابه الذين كنا في انتظارهم"(10)
إذاً،إن تفاعل حميد سعيد مع الشخصيات الروائية،كان تفاعلاً واقعياً معاشاً،فهذه الشخصيات لم تكن بمنأى عن تجربة الشاعر ورؤياه، وإحساسه الوجودي، وهذا يعني أن الفكر الإبداعي الشعري الذي أنتجها وحركها ضمن قصائده فكر منفتح على آفاق رؤيوية ودلالية عميقة.

أشكال الاغتراب الرؤيوي في قصائد ( أولئك أصحابي ) لحميد سعيد

لاشك في أن الاغتراب الرؤيوي من فواعل التجربة الشعرية عند حميد سعيد خاصة في مجموعته الشعرية (أولئك أصحابي)؛ هذه المجموعة التي احتفى بها بالشخصيات الروائية،ليعكس من خلالها وعيه الوجودي الذي تطور من قصيدة لقصيدة،ومن محاورة كشفية إلى أخرى، تنزع إلى تفعيل قصائده، وتحريكها من الأعماق؛ وكأن الشاعر حميد سعيد يحاول أن يطرح رؤية اغترابية أو وجودية معينة من خلال هذه الشخصيات، وهذا ما أكده في قوله:" إن ما يجمع بين شخصيات – أولئك أصحابي – هي الرؤية الجمالية التي حاولت من خلالها كتابة قصائد المجموعة، وهذه القصائد تنفرد كل واحدة منها بموضوعها، وهو حاصل تفاعل عاملين، فضاء الرواية التي تمثلتُ أحداثها أو أشخاصها أو بطلها، إنْ كان هذا الوصف يعبر حقاً عن الشخصية التي تمثلتها في عدد من القصائد دون غيرها من الشخصيات، والرؤية التي حددت طبيعة التمثل للأحداث والأشخاص.لكن، لكل شخصية رمزيتها، وموقفها من الحياة، سواء كان هذا في الرواية، أو في الواقع، إذا افترضنا إن بعض شخصيات الروايات التي اخترتها، هي شخصيات واقعية، قبل أن تدفع بها مخيلة الروائي إلى صورتها في الرواية، وهذا سيتكرر في النص الشعري، لأن النص الشعري في – أولئك أصحابي – لا يمكن أن يشتغل خارج فضاء الرواية التي تمثَلَ أحداثها أو أشخاصها، حتى وإن اختلفت أدوات الشاعر عن أدوات الروائي، واختلفت مخيلة الشاعر عن مخيلة الروائي. إن شخصية –القبطان إيهاب - في رواية – موبي ديك – في سيرتها أو في رمزيتها، تختلف عن شخصية الصياد العجوز – سانتياغو – في سيرتها أو رمزيتها، حتى علاقة الأول بالبحر، مملكته العظيمة، وبمخلوقاته وأسراره، تختلف عن علاقة الثاني بالبحر، فضائه الساحر ومكوناته، ولكل منهما، أخلاقياته، بل لكل منهما مصيره.وما أشرنا إليه، من اختلاف بين شخصية القبطان إيهاب والصياد العجوز، يمكن أن نجده في شخصيتي – مدام بوفاري – وشخصية – الليدي شاترلي - وإذا كان لكل منهما علاقة جنسية مع عشيق، دافعها الجسد الفتي، فإن لكل منهما مبرراتها السايكولوجية أيضاً، ولكل منهما ما يميزها سلوكاً واستجابات.

لقد كانت علاقتي بهم جميعاً، على اختلاف مكوناتهم واختلاف حضورهم الرمزي، لا تختلف عن علاقة إنسان اجتماعي، تفرض عليه الحياة الاجتماعية، أن يلتقي بنماذج إنسانية مختلفة، من النساء والرجال، وأن تشكل هذه اللقاءات، علاقات، ذات طبيعة مختلفة أيضاً.

في الحياة مثلاً، يمكن للمرء أن يتحدث عن جار أو قريب أو زميل عمل أو سفر، وقد يتحدث عن امرأة متمردة وأخرى منضبطة، وما إلى ذلك من نماذج إنسانية.
إنهم جميعاً، يشكلون محيطه الاجتماعي ويكونون عاملاً مؤثراً في تجربته الحياتية، أما أولئك الذين تمثلتهم في قصائد هذه المحاولة، في تنوعهم، فإنهم مصدر غنى وفعل حيوية لتجربتي الوجودية."(11).

ووفق هذا الوعي والتصور والإدراك، صاغ قصائده بإحساس جمالي وإدراك بؤري عميق بمجرى الأحداث وفاعلية الرؤى التي تبثها تلكم القصائد، وهذا يؤكد شعرية الرؤية المبثوثة في قصائده وفق المنطلقات الوجودية التالية:
أولاً- الاغتراب الرؤيوي بتغريب الشخصيات الروائية،وتكثيف أدوارها وملحقاتها داخل النص الشعري:
إن أبرز ما احتفت به قصائد مجموعة (أولئك أصحابي) الاغتراب الرؤيوي بتغريب الشخصيات الروائية،وتكثيف أدوارها، وملحقاتها ضمن القصيدة؛ وهذا يعني أن الاغتراب الرؤيوي مؤسس على تنامي الرؤى والمحفزات الشعرية، وبمقدار ما يتم تغريب الشخصيات والأدوار الملصقة بها، بنقلها من جو الحدث الروائي لتدخل نطاق الحدث الشعري والرؤية الجديدة المسندة ترقى الرؤية الشعرية، و تزيد من حراك الشخصيات ضمن الحدث الشعري، وهذا ما يؤكد أن اغتراب الشخصيات في (أولئك أصحابي ) تحكمها اغترابات وجودية، تبعاً للأدوار الملصقة بالشخصيات الروائية،والرؤى المبثوثة التي تشي بها ضمن الحوار،ولهذا، تتحرك الشخصيات على أدوار، وأحداث، ورؤى شعرية جديدة، تعيد صياغة وجودها بمعزى جديد وفكر معاصر، يقول الناقد حمدي مخلف الحديثي، في مصدر فاعلية هذه الشخصيات وتكامل رؤاها في الحدثين الروائي والشعري ما يلي :لقد استطاع حميد سعيد من خلال هذه القصائد الكشف عن العلاقة بين مجريات أحداث الروايات، وشخوصها، وأماكنها، وأزمنتها وبين رؤيا الشاعر، حيث تكامل الرؤى بين واقعية الرواية ورمزية القصيدة، مما جعل من هذه العلاقة فاتحة جديدة، كما كرست النصوص الشعرية واقعا جديداً لحيوات الشخصيات التي تألقت في لغة شعرية، رسمت خطوطاً ملونة كما قوس قزح، فيتمتع القارئ، وينفتح ذهنه لمعرفة ما يريد قوله الشاعر عبر نصوصه، ويتعامل معها بروح الشعر من دون أن يكون بعيدا عن معطيات الرواية، مستذكراً الشخصيات الروائية والوقوف عند شخصيات القصائد التي ضمها الديوان."(12).

وهذا القول ينطوي على وعي نقدي مهم في أهمية الدور الذي حملته الشخصيات الروائية في القصيدة،فهو أعاد تشكل الشخصية وفق رؤاه المعيشة،وجعلها تحيا معه بواقعه المعيش، أو إحساسه المتخيل؛وهذا ما أكسبها حضورها الجمالي المؤثر، وحراكها الرؤيوي المستمر،ولا نبالغ في قولنا: لقد حاول الشاعر أن يكرس اغترابه الوجودي من خلال محاورة هذه الشخصيات محاورة شعرية كاشفة عن رؤاه الوجودية، وتفاعله مع الشخصيات في إحساسها، ونبضها الوجودي،وبمنظورنا النقدي المتواضع، نقول: إن الحس الجمالي الوجودي يطغى على لمسات الشاعر المحركة لهذه الشخصيات،فتفيض بالرؤى، والدلالات المكثفة، ففي قصيدة( تجليات الماء) نجد الشاعر يتجاوز في شخصية إيهاب الشخصية الروائية في واقعها المؤسس لها في مصارعة الحوت، لتجابه الحياة،وتعلن اغترابها،وفي الآن ذاته تكسر حاجز الاغتراب، إذ يقول:

" إيهاب
حتى إذا ما التقينا.. على غيرِ ما موعدِ
في الطريق إلى مطعم الأميرة الغجريّةِ..
عند منعطف الشارعِ السابعٍ..
لا تنتظرني
مُذْ لحتَ لي في شتاءٍ بعيد.. تُغادِرُ فندقك العتيقَ..
لتلحقَ بي.. تحاشيتُكَ..
كنتُ تحاشيتُكَ من قبلُ
كيفَ التقينا؟"(13).

إن محاولة الشاعر إبراز المشهد الواقعي في العيش مع هذه الشخصية، لتعيش واقع الشاعر، وإحساسه الوجودي جعل الشخصية تعيش معه، لكنه تغرب عنها في واقعه، فهي شخصية تعكس صراعه الداخلي واغترابه الوجودي رغم محاولته الانفصال عنها، من جهة؛ والتلاقي بها في الواقع المتخيل المعيش من جهة ثانية؛وهذا يعني أن الشاعر يستمر في تغريب الشخصية، والانفصال عنها حينا،ً ويتفاعل معها و يؤكد الالتحام بها حيناً آخر، بمفاعلة رؤيوية كاشفة تشي بها الأنساق التالية:

ألا تتذكّرُ ما كان منكَ.. وما كانَ منّي ؟
ما زلتُ أسمعُ وقعَ خُطاكَ الثقيلَ..
على حجر الشارعِ..
أنتَ تَحاشيتَ كلَّ الذين تمرُّ بهمْ
ووقفتَ لتسألُني.. عنكَ!
. . . . . .
. . . . . .
أنتَ الذي لمْ يَرَ البحرَ..
هذا الذي يتراءى لكَ الآنَ..
ليس الذي كنتَ تبحثُ عنه
إنَّ دمَ السيّدِ الجميل.. يشهدُ للسيِّد ِ الجميلِ
بما.. مَدَّ موكبُهُ الأبيضُ المهيب ُ..
من ألَقٍ حيثُ كانَ.."(14).

إن الشاعر يلتحم بالشخصية من خلال تجسيد الواقع الذي عاشته الشخصية الروائية (شخصية إيهاب)ومعاصرتها، والتحدث إليها، والعيش معها، لكنه يغترب في وجوده وإحساسه بعيداً عنها، ليحكي معاناته، فهو اغترب عن عراقه كما اغترب إيهاب عن البحر،وكلاهما يعيش الاغتراب الوجودي، والقلق النفسي، وهذا يدل أن الشخصية الروائية مغتربة عن سياقها،وواقعها الروائي، لتدخل فضاءات القصيدة،محملة بالأحاسيس، والرؤى المغتربة عن عالمها، وتدخل بقوة عالم الشاعر،وتجاريه في واقعه المعيش،وتعيش معه أحاسيسه ورؤاه وتحكي معاناته على لسانها بوصفها مجموعة أقنعة يتخفى بها وينطق من خلالها؛وهذا يعني أن الاغتراب الوجودي الذي تعيشه الشخصية الروائية اغترابان : الاغتراب في الحدثين الروائي والشعري،واغتراب في معاصرة الشاعر وملصقاته الخيالية، الملحقة بالشخصية من أدوار، ورؤى، وأحاسيس اغترابية محتدمة،تعكس أحاسيس الشاعر، وتطلعاته، ونبضه الروحي إزاء هذه الشخصية الروائية أو تلك، ووفق هذا التصور،فإن ما يحفز مشروعية قصائد ( أولئك أصحابي) أنها تطرح رؤيتها بجسارة، لتؤكد نزوعها إلى إحياء الشخصية الإبداعية المغتربة عن واقعها لتحكي واقعها الشعري الجديد،وهذا يؤكد أهمية هذا المشروع وقيمته الفنية، إذ يقول:" الأساس في هذا المشروع، أن أتمثَل الشخصية بواقعيتها ورمزيتها، ثم بما تحتمله من أبعاد فكرية وجمالية، ومن الطبيعي أن يكون للشخصية، في كل مضانها،الواقع والتاريخ والأسطورة، وفي النص الأدبي، مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة أو سيناريو أو قصيدة، زمان ومكان، أو لنقل، لها محيطها الحياتي،المجتمع والثقافة واللغة.
نعم، حدث في عدد من قصائد – أولئك أصحابي – أن أُسْقِطْ على الشخصية، معاناتي، أو أبرز في معاناتها ما يوحدها بمعاناتي الشخصية عموماً أو في هذه المرحلة تحديداً، لكن هذا الإسقاط، لا يمحو صفاتها، ومكوناتها، كما تعايشت معها في النص الروائي، ليمنحها صفات ومكونات أخرى.

لذا، ليس من الوهم أو من غير الواقعي، أن نرى في شخصية – القبطان إيهاب –في قصيدة – تجليات الماء – ما كان في شخصيته في رواية – موبي ديك –أو نرى في شخصية – الدكتور زيفاغو– في قصيدة – ملهاة الدكتور زيفاغو–ما كان في شخصيته في رواية – الدكتور زيفاغو -، وهكذا الأمر في شخصية – زوربا – و- سي السيد – و – الليدي شاترلي– وغيرها من الشخصيات.

وإن كان ثمة متغيرات أو إضافات أو حذف، في مكونات هذه الشخصية أو تلك، فهي مما تتطلبه أو تفرضه بنى النص الشعري ورؤاه.

وبعيداً عما تفترضه قراءة السؤال، ومن الطبيعي أن تكون للسؤال قراءته، وهي قراءة السائل.
إن الدافع الأساس لهذه التجربة، هو دافع جمالي أولاً، يتضمن البحث عن جديد وعن إضافة، وثانياً، الإفادة من خزين ثقافي، في الوعي والذاكرة والمخيلة."(15).

وهذا يدل على وعي الشاعر حميد سعيد بأهمية هذا المشروع في تأكيد الاغتراب الإبداعي قبل اغترابه الوجودي بتفعيل الشخصيات الروائية، وتكثيف أدوارها، ومؤثراتها، وفواعلها الرؤيوية المختلفة داخل بنية القصيدة لديه،وهذا ما يضمن قوة منتوجها الفني، وزخمها الدلالي الإيحائي المنتج للرؤى والدلالات الفاعلة المحركة للشعرية من الجوهر أو الصميم.
وبتقديرنا: إن فاعلية الشخصيات الروائية في حركتها الاغترابية تتحدد من خلال الأدوار الجديدة التي تؤديها في حركتها النصية،وبهذا المعنى يؤكد حميد سعيد أن مهارة القراءة واختلافها هي التي تثري المنتوج النصي في القصيدة في معظم التجارب الشعرية،إذ يقول:" لم تعد القصيدة الحديثة مجرد نص أحادي،ومحدد الملامح؛ إذ تتكون من طبقات تتوزع على عدد من المرجعيات؛وهذه الطبقات تتداخل على أصعدة اللغة، والبنى، والمعاني؛ولهذا، ما عاد التلقي،يمثل حالة استرخاء يأتي بالطرب،بل هو مشاركة في النص واشتغال جاد في اكتشاف تلافيف طبقاته،وبالمحصلة، فما عادت القراءة النقدية الأحادية، أية قراءة- تستطيع الكشف عن كامل مكوناتها، وإن تعدد الرؤى النقدية،ليس مجرد ترف فكري،بل هو استجابة،لتعدد طبقات النص الشعري"(16).

ووفق هذا الوعي الرؤيوي أثرى الشاعر حميد سعيد قصائده لتنطوي على رؤى عديدة، ومدلولات كثيرة تشي بها سياقاته الشعرية؛وهذا ما يضمن للشخصيات المستحضرة في هذه القصائد حركة مضاعفة من خلال ما تكتنزه من رؤى، ودلالات،وإيحاءات مباغتة تشي بها على المستويات كافة.وللتدليل على فاعلية الشخصية الروائية في قصيدة (تجليات الماء)، نلحظ أن شخصية إيهاب تتعدى إطارها الروائي وحدثها لتحكي معاناة الشاعر، وغربته، وابتعاده عن منزله العراقي،وذكرياته المكانية، إذ يقول:

" لا غرابةَ.. في ما انتهيت إليهْ
وأغربُ مما انتهيت إليه.. سيأتي
فمن ستكون.. بلا بحر ؟
لا سُفُنٌ.. لا رفاقٌ..
ولا عائلهْ"(17).

هنا؛ يلتحم الشاعر بشخصيته الروائية ليبث اغترابه الوجودي،وعزلته الاجتماعية،فكما حال بطله الذي عشق البحر، وارتحل عنه،ومازال يحن إليه، فكذلك حال شاعرنا يحن إلى منزله، وعالمه، وعائلته، وهذا الالتحام بالشخصية الروائية؛وتعدد مؤثراتها، وأدوارها، وإشاراتها في النص هو ما يمنحها خصوبتها الإيحائية، وفاعليتها الجمالية،ليكسب شخصية إيهاب في نهاية القصيدة قوة رؤيوية دالة على اغترابه، وإحساسه المأزوم،كما في قوله:

" إيهابْ
يتبعني الماءُ..
كُنْ حَذِراً منكَ..
وليكنْ البحرُ بيتكَ.. تأتي إليه الرياحُ الرخيّةُ
من كلِّ فجٍّ عميقْ"(18).

إن شخصية (إيهاب) الروائية، تتعدى الدور المسند إليها، وتتحرك بإحساس الشاعر، ورؤاه،لكن بمجاذبة تجمع الحدثين الروائي/ والشعري،فكما عشق إيهاب البحار،وتمسك بهذه العوالم إلى النهاية،كذلك تمسك الشاعر بكل ما يذكره بالأجواء العراقية، من أخيلة، وذكريات،ورؤى،وأحلام تجعله يلتصق بالشخصية الروائية ليعيش معها،ويتنفس بشعورها، ورؤاها،و يحياها في واقعه الاغترابي الجديد الذي فرض عليه فرضاً في ظل التعسف الذي ناله في زمن الاحتلال الأمريكي للعراق.وهذا يؤكد أن الاغتراب بتكثيف الأدوار،والشخصيات،والمواقف، من مغريات القصيدة الشعرية في قصائد(أولئك أصحابي)، التي تشتغل على غنى المؤثرات الملصقة بالشخصية الروائية وفاعلية حضورها في النص الشعري،وهذا ما يكسبها غناها وحراكها الجمالي واغترابها الوجودي،وهذا ما دلل عليه في قوله:

" إنه مهما كانت أهمية الشخص في النص الروائي ومهما كان دوره أساسياً، فإن التعامل معه بعيداً عن فضائه الروائي، سيجعل منه كيانا مصطنعاً وظلاً باهتاً، للشخص الذي كان.وسأضرب مثلاً بأنموذج هو الأبرز في دور الشخص في النص الروائي، وهو الضابط الألماني –ورنر فون – في رواية – صمت البحر – لكن لو فردناه عن أحداث الرواية وبقية أشخاصها، لفقد حضوره وإشعاعه،وليس من شخصية في جميع الروايات التي جاء النص الشعري بتأثير منها، إلا وكان حضورها، من حضور الرواية وليس بمعزل عنها، ولما كنا نتحدث عن أعمال روائية خالدة، كانت وستبقى مصدر غنى للواقع وللتاريخ. وعلى سبيل المثال، فإن أحداث الدكتور زيفاغو الروائية، ستظل تضيء الواقع في المرحلة السوفيتية الأولى، وتكاد تكون أكثر تأثيراً وإشعاعاً وإدراكاً للواقع، من كثير من النصوص التاريخية، الباردة الجامدة، حتى لو كانت قد سلمت من تدخلات القوى الفاعلة بشقيها، السلطة والمعارضة.وكذلك، كان حضور الصياد العجوز – سانتياغو – في رواية – الشيخ والبحر – تلك الشخصية الآسرة التي احتلت المجال الأوسع من فضاء الرواية، ما كان يمكن أن يكون لها كل هذا الحضور لو كانت – افتراضا – في عمل روائي ضعيف ومهلهل، ولم يكن كاتبه على معرفة بحياة البحر ويوميات الصيادين وخبراتهم.

إن جميع الشخصيات التي تمثلتها قصائد – أولئك أصحابي – بكل مكوناتها، أخذت أدوارها ومن ثم أهميتها من أهمية الأعمال الروائية التي تحركت في أمدائها وشاركت في صنع أحداثها على المستوى الرمزي.
أما حضور النصوص الروائية، وسنفترض خلودها أيضاً، فما كان ليكون إلا بفعل ما تمثل من أحداث على المستويين الواقعي والرمزي، ومستوى تقديم هذه الأحداث جمالاً وموضوعاً"(19).

وهذا القول جد دقيق، فالذي أكسب الشخصيات الروائية قيمتها ليس الشخصية الروائية فحسب، وإنما الدور الذي تشغله في الرواية وقيمة الحدث الذي تبثه،والواقع الوجودي الذي تثيره، وفاعلية التوظيف الشعري الذي أغنى حراك هذه الشخصيات،وأضفى عليها قيمها الجمالية والرؤيوية المكثفة، ولذلك، تكمن القيمة الجمالية لقصائد حميد سعيد في فكرتها وقيمة التوظيف، وفاعلية التخييل الشعري في تحريك هذه الشخصيات، والعيش معها في الواقع قبل الخيال؛وإن المبدع الحقيقي هو الذي يعيش أجواء العمل الفني في حياته،ليغدو جزءاً لا يتجرأ من عالمه الوجودي الحقيقي الذي يعيشه.
ثانياً- الاغتراب الرؤيوي بتراكم الأحداث والرؤى المتعلقة بالشخصيات الروائية:

لاشك في أن الاغتراب الرؤيوي من محركات البنى الدلالية الفاعلة المحركة للفضاءات الرؤيوية لقصائد(أولئك أصحابي) التي تشتغل على كثافة الرؤى، والبنى الإيحائية الاغترابية؛وذلك بتراكم الأحداث، والرؤى المتعلقة بالشخصيات الروائية، فتغترب الشخصية في واقعها النصي الجديد، عبر ما تفيض به من دلالات، وإيحاءات ومداليل جديدة؛وهذا يعني أن بؤرة حراك الدلالات،ومركز ثقلها الفني هو ارتكازها على صراع الأحداث، ودراميتها المكتسبة التي تعكسه من خلال واقعها الكائن في الأحداث الروائية الفنية المتخيلة/ من جهة؛وواقعها النصي الشعري الجديد الذي اكتسبته في فضاء القصيدة الشعرية وسياقها المبتكر، من جهة ثانية، وبتفاعل الشخصيات،وتعدد طبقات المعنى، تتعدد الأدوار والمواقف التي تتخذها الشخصيات الروائية في السياق الشعري،وتحمل من الدلالات والرؤى ما يجعلها متفاعلة في القصيدة،وكأنها مخلوقة خلقاً جمالياً فائضاً بالدلالات والرؤى الجديدة المكتسبة، ولهذا،تزداد قصائد( أولئك أصحابي )ثراء لغوياً، يهبها قيمة جمالية وغنىً وتنوعاً دلالياً مفتوحاً في رؤاه وخزائنه المعرفية، وهذا ما أكده حميد سعيد في قوله:" إن قصائد – أولئك أصحابي - في تعدد أساليبها وثراء قاموسها، حال لابد منه، لأن الأسلوب الواحد والقاموس الفقير، لا يتحقق من خلالهما التوازن بين الموضوع واللغة، كما أن الشاعر وهو يخوض في تجارب كل هؤلاء الأشخاص وكل هذه التجارب، لابد من أن يتوسع في قاموسه ويعدد في البنى اللغوية.ولو كانت القصائد غنائية أو وصفية، لما احتاج إلى هذا التوسع في القاموس وإلى هذا التعدد في البنى اللغوية "(20)

وبتقديرنا:إن شعرية قصائد ( أولئك أصحابي) لحميد سعيد تتأسس على حراك الشخصيات، وكثافة الأحداث والأدوار، والرؤى المتعلقة بها،وما تفيض به من رؤى اغترابية تؤكد صدامها مع عالمها واصطراعها معه،وهذا يدل أن غنى هذه الشخصيات وحراكها يعود إلى اغترابها الفني والوجودي، وما تنطوي عليه من سلوك،وتصرفات وآراء تبثها على لسان الشاعر بوصفها قناعاً له ولواقعه الاغترابي المعيش في مرحلته الراهنة،فليس من صديق أليف في الغربة إلا صداقة المبدعين والأبطال المخلصين في مجابهة واقعهم والتصدي له؛ وهؤلاء الأبطال هم أبطال روايات عظيمة،أي أنهم أبطال واقعيون في عالم روائي متخيل أو معيش،ولهذا؛ خصهم بتوجيه خطابه الشعري إليهم،وإلى اقترابهم من عالمه لدرجة الألفة والصحبة والالتصاق،وأشار إلى ذلك بصريح العبارة من خلال توقيعة العنوان: ( أولئك أصحابي)، ففي قصيدته(الشيخ يعود إلى البحر) لحميد سعيد يستحضر رواية(الشيخ والبحر) لهمنغواي،بوساطة الشخصية الروائية (شخصية سانتياغو) بطل رواية همنغواي،ولا يتمثل هذه الشخصية بواقعها الروائي،وإنما يعيش عالمها،ويلتصق بها،وهو إذ يقوم بذلك يغترب بالشخصية عن واقعها الروائي؛ ليعيش معها بواقع شعري جديد، معلناً من خلال شخصية (سانتياغو) مواجهته الواقع الاغترابي المرير الذي آل إليه،كما حال الشيخ الذي قاوم البحر،وأعلن ثبات موقفه،وفي النهاية انتصاره على واقعه بالإرادة، والعزيمة،والصمود، وثبات الموقف؛ولهذا، اعتمد الشاعر الاغتراب الرؤيوي بتراكم الأحداث، والرؤى، والاصطراعات الداخلية المتعلقة بهذه الشخصية،ليعلن في النهاية إصراره على كسر اغترابه الوجودي وتحقيق ما يبتغيه، وهذا ما نستدل عليه من خلال قوله:

كُلُّ سنيني..
تقفُ الآن على الساحلِ.. تسألُ عنّي
ودلافينٌ طيٍّبةٌ.. كانت تتبعني حيثُ أكونُ..
تُشاركُني أسئلتي..
تبحثُ عنّي..
الصيادون رفاقي.. سألوا صاحبة الحانةِ عنّي
أَتفادى ماكنتُ أرى..
تُقبِلُ سيِّدةُ الإقيانوس.. الطيِّبةُ الهادئة..
الفضِّيةُ..
تدخُلُ في حُلُمي.. فأفارقُها في الصحوِ
لتتركَ لي عندَ ضفافِ النومِ.. هداياها"(21).

هنا،تختلط الرؤى الواقعية بالأحداث المتخيلة،وتتراكم الرؤى، والأحاسيس، والمنظورات في احتدام الحبكة بالحدث الشعري،والشخصية الشعرية بالشخصية الروائية؛ وكلها ترتبط بشخصية الشاعر، فالشيخ يقف على ساحله ينتظر القوافل العابرة، وعالمه الضائع،يبحث عن سمكته الكبيرة(سيدة الأقيانوس)،ويحلم أن يستحوذها، وهذه العوالم يصورها بمشاهدها وحراكها كما هي عليه في الواقع الروائي،ثم تدخل حلم الشاعر،فكما يحلم الصياد العجوز أن يستحوذ على عالم البحار ويكسر اغترابه الوجودي يحلم الشاعر كذلك أن يكسر مرارة هذا الاغتراب،بكل ما يتضمنه من رؤى ومشاهدات حية في هذا الواقع، وبالتأكيد، فإن ما يثير الحركة الجمالية فيما يتعلق بالاغتراب الوجودي هو تغريب المشاهد الوصفية التي يجعلها الشاعر تسير تباعاً صوب الحدث وتصوير المشهد الشعري المتعلق ب(سانتياغو )؛وهذا ما يضفي عليها حركة جمالية وصفية في التصوير، والرسم التفصيلي للقطات والمشاهد التجسيدية العميقة،كما في قوله:
"هاهي..
أجمَلُ من كلِّ أميراتِ البحرِ
لها..ما ليسَ لكلِّ أميرات البحرِ من السحرِ
تناديني..
والأقراشُ تُحييّني..
وأَراني أصطحبُ البحرَ إلى الحانةِ..
في ليلٍ يفتحُ فيه القمرُ الطفلُ.. جميعَ الأبوابْ
لندخُلَ مملكةَ الصيدِ.. وفردوسَ الصيّادينْ
أنا والبحرُ ومانولينْ
تُغافلُني الريحُ..وتذهبُ بي حيثُ تشاءْ"(22).

إن تراكم الأحداث والمواقف واحتدامها في المشهد الشعري وتصوير الموقف بكل صخبه، وتعدد ملصقاته المشهدية،ولقطاته التصويرية المتتالية،لدليل اغتراب في تفعيل الشخصية، وتحميلها أدواراً ورؤىً جديدة عبر المشاهد العاصفة بالمسميات والشخوص التي تمثل الأرضية المشهدية للحدثين (الروائي/ والشعري) معاً،كما في هذا الدمج الفني( الأقراش تحييني- أراني اصطحب البحر على الحانة-أنا والبحر ومانولين)؛ وهذه الرؤى والمشاهد أدت دورها الشعري على امتداد الموقف التصويري الذي سجلته القصيدة بشكل تتابعي يتداخل فيه المنحنى الشعوري لشخصية الصياد العجوز (سانتياغو)؛والمشاهد والشخوص المحيطة به، كما في الرسم التفصيلي التالي لمنعرجات الذات وصراعها الداخلي الذي يعكس صراع الشاعر مع وجوده، بإحساس جمالي شاعري مرهف ممزوج بالاغتراب الوجودي،وهذا ما نتحثثه عبر محاورة الشخصية، ورسم منعكسها الشعوري من الأعماق،كما في قوله :

في عُزلَتهِ.. يسمعُ صوتاً يعرفهُ
سانتياغو
سانتياغو
سانتياغو
ويرى البحرَ قريباً منهُ.. وهذا زورقُهُ
تحرسُهُ سَيِّدةُ الإقيانوسْ
ويخرجُ من صمتِ الليلِ إلى فتنتهِ..
إذْ يسبحُ ضوءُ النجمةِ..
في تيّاراتٍ صاخبةٍ غير بعيدٍ عنهُ
يا أنتَ..
متى كُنتَ تهابُ نبوءات الأبراج؟
متى كنتَ تعود عن الصيدِ.. إذا خذلتكَ الأمواج؟"(23).

هنا،لا يعتمد الشاعر الاغتراب بتراكم اللقطات، والمشاهد،والأدوار الملصقة بالذات،ولهذا؛ يحادث الشخصية من الداخل، ويرصد نداءات البحر،كما في النداء المتكرر، الذي يحكي شوق المكان، وخوائه من الخصوبة، والحراك الوجودي المحيط بالشخصية؛وهذا ما جعل الشاعر يكرر النداءات والتساؤلات الاغترابية المريرة المتكررة التي تدفعه أو تحفزه للعودة إلى عالم البحار؛وكأن الأمواج من أعماقها تناديه،وتحثه للعودة إليها، فكما يرغب حميد سعيد العودة إلى الفضاءات العراقية وعوالمها الماضوية السالفة يحن الشيخ (سانتياغو)إلى العودة إلى عالم البحار؛ فكلاهما يبحثان عن العالم الضائع أو الحلم المفقود:

سانتياغو
سانتياغو
سانتياغو
يعقدُ صُلحاً مع تيارات الأعماق.. يكون أخاً للحيتانْ
للسمكِ الطائر والروبيانْ"(24).

هنا،يحاول الشاعر أن ينتصر على اغترابه،فكما انتصر الشيخ لنداءات البحر،ولبى النداء،إنه كذلك يحلم أن يلبي نداءات الأعماق والاحتراقات الاغترابية المريرة، ليعيش مع الأجواء العراقية،وذكرياتها، وعوالمها الوجودية الأثيرة لديه، وكأن الشخصية الروائية تتحرك بمشاعره، ورؤاه، وتطلعاته، وإصراره، ليعلن من خلالها صرخته الوجودية للملأ، قائلاً:
" في دفء الليل ينامُ.. وتحملُهُ الأحلامُ..
إلى.. ما سيكونْ
وليسَ إلى ما كانْ"(25).

وهذا الحلم هو أن يهيئ للمستقبل، وليس للماضي، أن يعلن وجوده الراهن، والثبات، والرسوخ بصلابة أمامه ليهيئ مستقبله الجميل، بالعودة إلى الفضاءات البغدادية، بكل ما تحمله من فيوضات عاطفية،ورؤى عميقة،تعود به إلى زهو الأيام الماضية، وما تحمله من دفء، ومودة، وأمان؛ ولهذا، احتفت هذه القصائد بالمداليل الاغترابية التي تعتمد تراكم الأحداث، والرؤى، والمشاهد الاغترابية،معلنة تكامل فضائها الشعري والروائي وتلاحمهما معاً في إظهار القيم الجمالية التي انطوت عليها تلك النصوص، وهذا ما يجعل هذه القصائد غنية بمثيراتها تنطوي على عدد لا متناهٍ من القراءات، والتأويلات المتعارضة، والمتداخلة؛ وهذا ما يهبها قيمتها الفنية، وحراكها الجمالي على الدوام.
ثالثاً-الاغتراب الرؤيوي بكثافة المسميات والأماكن،واصطراع الأحداث الروائية:

يعد الاغتراب الرؤيوي بكثافة المسميات، والأماكن، و اصطراع الأحداث الروائية من محركات البنى الفاعلة في قصائد(أولئك أصحابي)، هذه القصائد التي تغترب في رؤيتها، والأدوار المسندة بالشخصيات الروائية، لدرجة كبيرة،وهذا يعني أن فاعلية الاغتراب الرؤيوي تنشأ من الأدوار الجديدة المسندة إلى الشخصيات الروائية، والقيمة الرؤيوية التي تبثها هذه الشخصيات من اغتراب نفسي، أو شعوري، أو زماني، أو وجودي،وصراعها مع واقعها، وعالمها،وأحلامها، وتطلعاتها، ومنظوراتها المختلفة التي تجمع بين القوة والجسارة والإصرار والمجابهة من جهة،والضعف، والهشاشة، والانهيار،والانهزام من جهة ثانية؛ أي إن هذه الشخصيات ليست أسطورية،وإنما تحمل في ملامحها وإحساسها ما هو واقعي معيش تارة، ومحمل في بعض جوانبه ملامح أسطورية كالقوة، والصلابة، والجسارة في مواجهة واقعها تارة أخرى؛ ف( سانتياغو) الصياد العجوز لم يستسلم لواقعه، وإنما تحدى الظروف والصعوبات ولم يستسلم لهذا الواقع الصلد،وإنما قاومه حتى النهاية،معلناً رؤيته، وثبات موقفه،وهذا القول ينطوي على معظم شخصيات ( أولئك أصحابي) التي تجابه واقعها،وتنزع من خلاله إلى تأكيد بصمتها ورؤياها، لكن ما يجمع بين هذه الشخصيات روح المواجهة،والإصرار والعزيمة على مواجهة واقعها،والعيش فيه رغم مرارة الاغتراب،والحرقة الوجودية، وهذا ما صرح به(حميد سعيد)، إذ يقول:

"إن ما شغلني، لزمن طويل، وأنا أفكر بكيفية تمثل شخصيات روائية، تعايشتُ معها إلى حد أن أتخيَل إنني عرفتها في الواقع، وليس على صفحات رواية وفصول كتاب، هو الجمال الإبداعي، في هذا التمثُل،أكثر مما شغلني، ماذا أقول، أو ماذا تقول هذه الشخصية أو تلك، في النص الشعري الذي أكتبه، أو سأكتبه.لكن الشخصية ورمزيتها، لا بد أن تظهر في النص، بما هي فيه، أو بما تضيف إليها المخيلة، وحين تعددت الشخصيات بتعدد قصائد المجموعة، كانت الحياة، بتنوعها، وتعدديتها في الثقافة، والسلوك، ومكونات الإنسان الاجتماعية والنفسية، فالقارئ يلتقي وكما أشرت من قبل، بأنموذج إنساني إيجابي مثل الدكتور زيفاغو ويلتقي أيضاً بشخصية سلبية مثل الأب كرامازوف، ولكل منهما، حياته، ولكل منهما أثره الذي يبقى متفاعلاً مع فكر المتلقي، وما يصح على الشخصيتين المذكورتين، يصح على شخصيات أخرى، التقي بها في أولئك أصحابي"(26).

وهذا،يؤكد أن الجامع الذي يربط بين جميع الشخصيات الروائية، هو البعد الوجودي والقيم الجمالية التي تتخذها الشخصية الروائية في وجودها، وحراكها الفني، لكن الكثير من هذه الشخصيات طغى عليها إيقاع الاغتراب الوجودي المأزوم،كشخصية( آنا كارنينا) في قصيدة( جحيم أنا كارنينا.. وفردوسها) التي طغى عليها الاغتراب الرؤيوي الوجودي الزمني، لدرجة تعيش الشخصية الروائية(شخصية آنا) غربتين مريرتين،هما: غربة الجسد،وغربة الروح،وهي بهاتين الغربتين تعكس صدامها مع واقعها واصطراعها معه، ومن خلال هذا الاصطراع والصدام الوجودي أو الشعوري تحتدم الرؤى والمواقف، والأحداث الروائية المتخيلة، وأبرز ما نستدل عليه للتدليل على ذلك قوله:

" وبغُربتينْ..
في الروح والجسد المنافقِ..
لايُحيطُ بمائها المُرِّ المُرائي..غيرُ ما يهَبُ الخرابْ
تتوالدُ الظلماتُ في اللغة المُريبةِ..
كلُّ مَنْ فُتِنوا بها.. ندموا
ومن حاموا على لآلاء فضتها.. تَلَبَّسهم سُعارٌ
واستباحوا ليلَ فتنتِها.. كما تغدو الذئابُ
وبغربةٍ أخرى.. تُفارقها حرائقها..
ويجفوها الصحابُ"(27).

إن الاغتراب الوجودي الذي يبثه الشاعر في شخصية (آنا كارنينا)،يعكس غربتين:( غربة الروح/ وغربة الجسد)،وهذه الاغتراب انعكست مؤثراته على صيرورة الأحداث،وتوجهاتها،ومؤثراتها ضمن القصيدة،وهذا يؤكد أن الشاعر تحثث الجوانب الرمزية والروحية في هذه الشخصية؛ ليعكس من خلالها الصراع الوجودي الاغترابي بين (الخصوبة/ والنضارة / والإشراق في زمن(آنا) الماضوي القديم)، وواقعها الحالي(واقع الذبول، والقحط، واليباس، والشحوب، والعزلة)،فهي كانت مطمع الرجال، ونيران اصطلاء شهواتهم، وغليانها في تحثث جسدها البض الجميل، فما عادت تملك تلك الطاقة الحيوية والخصوبة والفتن والإغراء كسابق عهدها، لقد أصبح جسدها مغترباً عن روحها وشبقها الباطني المصطهج غنجاً وأنوثة وتدللاً وخيلاء، ولهذا، اغتربت الشخصية الروائية في واقعها، واغتربت معايير الحب والنوازع الرمزية الداخلية المقترنة بهذه الشخصية، لتثير المشاعر المصطرعة إزاء التوتر والاختلاف بين الواقعين التي آلت إليهما واقع الذكرى المريرة،والغربة المؤلمة عن عالمها الذي كان يضج بالعاشقين والأصدقاء والأحبة والخلان، إذ يقول:

المستحيلُ..
أن يسجُنَ الشهوات في ما تفتري..
جَسَدٌ جميلُ
أو يغلق الأبوابَ دون عواصفٍ.. وجعٌ نبيلُ
الحبُّ..
أن يقفَ الزمانُ..
وليس بعض الوقت.. يقصرُ أو يطولُ"(28).

إن الشاعر جمع في هذه الشخصية الروائية بين واقعين مريرين،واقع الغربة والاحتراق والقلق الوجودي،وواقع الغربة الداخلية والانسلاخ عن الجسد الذي ما عاد مثيراً بمفاتنه، ومكمن جاذبية الآخرين وإغوائهم،وبهذه الرؤى الاغترابية الاصطراعية يكثف الشاعر من حدة اصطراع الأحداث، والمواقف المحتدمة، ليخلص في النهاية، إلى محاولة استعادة زمانها، وذكراها المتألقة في النفوس التي مازالت تتشوف إلى زمنها وعالمها الحر الثائر على قيود الجسد، وقدسيته المحرمة(الممنوعة)،لتعيش حرية الجسد كما هي عليه حرية الروح وتشوفها الروحي المحموم إلى المتعة وممارسة هذه المتعة الجسدية بالشكل الذي تكسر روتين الألفة والعادة، إذ يقول:

أَنّا..
ذاكَ مقعدُكِ
انتظرنا شمسكِ البيضاءَ.. في المقهى القريبة من إقامتنا ببطرسبرغْ
قُلنا.. فليكن ما كانَ وهماً..
وليكن حلماً جحيماً
ولتكوني.. في مفاتنك الثريّةِ..
ما يُذَكِّرنا.. بأَنّأ"(29).

إن الاغتراب التي تحمله شخصية (آنا كارنينا) يعكس الصراع الدرامي الذي يقوم بين الأحداث، والمواقف، والرؤى الاغترابية، التي تبثها هذه الشخصية في حراكها الوجودي،ولعل أبرز ما يثير الحركة الجمالية في هذه الشخصية تلكم اللمسات الداخلية في استقراء ملامح هذه الشخصية من النبض الشعوري، والإحساس الداخلي الذي تحمله في واقعها وعالمها الروحي المتخيل،فالشاعر حرَّك هذه الشخصية من الداخل لتعلن اغترابها الرؤيوي الوجودي الصارخ، بالانفتاح على عوالمها، وفضائها الروحي المفتوح، متحدية جميع القوانين والأعراف؛ لتعلن وجودها، وتثبت كينونتها المتحررة من قيود الروتين، والعرف، والعادة، وهذا دليل أن لكل شخصية من الشخصيات الروائية عالمها الوجودي الخاص بها، وطريقتها في التفكير، والترميز، والحراك الوجودي،وهذا ما يجعل قصائد(أولئك أصحابي) تنفتح على الحياة باختلاف تجاربها، ورؤاها، ومنظوراتها المواربة التي تجمع بين (الإيجاب/ والسلب)، و(الخير/والشر)،و(المسموح/ والممنوع(المحرم)،و(الواقع/ والخيال)،باختصار، تنفتح هذه القصائد على عالم حر من الرؤى الوجودية المصطرعة بين طرفي الحياة بوجوهها المتناقضة،ورؤاها المختلفة؛وهذا ما يضمن غناها الفني والجمالي بالمحركات والمنعكسات الرؤيوية والوجودية المختلفة،ويدلل على مضاعفة القيمة الجمالية للشخصيات الروائية الموظفة ضمن الإطار النصي في قصائد( أولئك أصحابي) التي تتنوع بالقيم،والخبرات،والمعارف، والمثيرات، والرؤى الجمالية على المستويات كافة.
وقد كان الشاعر حميد سعيد مصيباً في قوله:"إن افتراض، قراءة أي من قصائد المجموعة مقترن بضرورة قراءة الرواية التي تمثلَت القصيدة أحداثها، أو تمثلت أحد شخصياتها، افتراض غير صحيح، فللقصيدة، أية قصيدة من قصائد المجموعة، مقوماتها ومفاتيحها، التي لم تكن نسخة مكررة من مقومات الرواية ومفاتيحها، أي، يمكن قراءة القصيدة وإدراك رسالتها، بالوعي أو بفضاء التأويل، بعيداً عن الرواية، حتى لو كان القارئ قد اطلع على الرواية وقرأها قراءة واعية عميقة.
وبالتالي يمكن للقارئ أن يقرأ القصيدة وهو لم يقرأ الرواية، فقصائد – أولئك أصحابي – كلها، تتوفر على رمزيتها الخاصة وتتوفر على مفاتيحها أيضاً، ثم أليس مما هو إيجابي، أن ينفتح النص الشعري المقروء على قراءة الرواية بدافع ثقافي محض، أو حتى بدافع حب الاستطلاع، بل أليس مما هو إيجابي أن يعود القارئ إلى قراءة رواية قرأها من قبل، بفعل ما يثير النص الشعري المقروء من قضايا وأسئلة.

نعم، أكثر من صديق، حدثني عن قراءة هذه الروايات أو عدد منها، بعد أن قرأ النص الشعري، ومن هؤلاء الأصدقاء القراء، من أعاد قراءة روايات، كان قد قرأها من قبل، وأنت تعلم إن النص الشعري، ينفتح على أكثر من قراءة نقدية، وينفتح كذلك على أكثر من قراءة في التلقي، فهو ليس مسألة رياضية ينبغي حلها بمنهجية واحدة، لتكون النتيجة واحدة، سواء جرى حلها في القطب الشمالي أو في غابات إفريقيا أو في جزيرة من جزر المحيط الهندي.
وإذا كان للنص الروائي، رؤاه ودلالاته، فليست هي رؤى ودلالات النص الشعري ذاتها، وإن كانت الرؤى والدلالات في النصين، تتكامل من خلال الحوار وليس من خلال تكرارها أو نقلها من النص الروائي إلى النص الشعري.
أما، ما يطرحه السؤال بشأن، النخبة أو نخبة النخبة، فإن القارئ الجاد، هو من النخبة، أو نخبة النخبة دائماً، والمقصود هنا، النخبة القارئة، وليس النخبة الاجتماعية او النخبة الأكاديمية، أو ما إلى ذلك من نخب.
إن القارئ هو الذي يفكر ويسأل ويستنبط الأسئلة، وليس القارئ الذي ينتظر معنى يعرفه، مثلاً سائراً او حكمة معروفة او قولاً شائعاً، ولو كان الأمر كذلك، لكان على العالم أن يمحو الكثير من الملاحم والقصائد ولرفض كل ما هو جديد ومضاف وغير مألوف، ولكان على العالم أن لا يعترف بالأعمال السمفونية وكذلك الأعمال التشكيلية العظيمة، السوريالية والانطباعية والتجريدية"(30).

وصفوة القول:

إن الاغتراب الوجودي – في قصائد( أولئك أصحابي)- يتأسس على وعي فني بالقيم الجمالية التي تتضمنها الشخصيات الروائية لتتحول إلى واقع شعري فاعل في إثارة الحركة الجمالية في هذه القصائد،وليست مجرد شخصيات روائية مائتة لا حراك لها،وإنما هي فواعل بؤرية محملة بكل ما يتغور باطن الذات الشاعرة من اغتراب وجودي وإحساس مأزوم يعكس صفحات الواقع المرير المحيط بالشخصيات الروائية، والذات الشاعرة في مرحلتها الراهنة،ولهذا، جاء إصدار هذه المجموعة في هذه المرحلة المهمة في حياة الشاعر لتؤكد تمسكه بالموقف، وثبات عزيمته، ومقاومته حتى في أضعف المراحل وأشدها قسوة على حياة شاعرنا العراقي الفذ حميد سعيد.

رابعاً- الاغتراب الرؤيوي بتوتر الأحداث والشخصيات الروائية،وتعدد الأصوات الشعرية:
يعد الاغتراب الرؤيوي-بتوتر الأحداث،والشخصيات الروائية،وتعدد الأصوات الشعرية- من مغريات قصائد (أولئك أصحابي)، التي أكدت شعريتها بتفعيل الأدوار، والرؤى، والأحداث، والمنظورات المرتبطة بهذه الشخصيات، فكان الاغتراب الرؤيوي محرقها الأساس في الدلالة على وجودها الفني ضمن قصائده؛ فهي لم تكن ساكنة، لتؤدي دورها الروائي الذي أدته من سابق،وإنما وظفها برؤى شعرية متخيلة،تحرك هذه الشخصية لتدلي بتجربتها، ورؤاها الجديدة المشبعة بتأملات الشاعر الوجودية؛ وهذا طبيعي أن يختلف دورها في مضمار القصيدة، أن تكون محملة برؤى ومنظورات مغايرة لما اقترنت به في أصل واقعها الروائي؛ وهذا يعني أن ثمة حراكاً متوهجاً في الرؤى، والأحداث، واصطراعها بين ما كانت عليه،وما تهيأت له في سياقها الجديد،لتضطلع بمهمات جديدة وإدوار أخرى لتؤديها ضمن المتن الشعري، وليس بغريب أن يشير الشاعر ذاته إلى دور هذه الشخصيات في وجوده وعالمه الشعري، الذي ظل يعاصر هذه الشخصيات في واقعه، يتحدث إليها،ويعيش معها،لتكون رفيقة دربه في عزلته، واغترابه الوجودي، وهمه القومي بعيداً عن بلده العراق، الذي حن إليه، ورسم صورته في منعرجات قصائده، ليحكي اغترابه في شكل الإبداع وجوهره عبر الشخصيات،واغترابها وتحميلها من الرؤى والمداليل الشعورية ما لم تحمله في سياقها الروائي الذي دخلته من سابق، يقول حميد سعيد في ذلك:" نعم، أنا أوظف ما أتوفر عليه من معرفة وما أمتلك من ثقافة، في كل ما أكتب، وبخاصة في ما أكتب من شعر، وقد عرفنا شعراء كثيرين موهوبين، وبداياتهم تفصح عن موهبتهم، لكنهم يظلون عند البدايات، يكررونها من دون تجديد، أو إضافة، لأنهم لا يمتلكون ثقافة عميقة، وجادة وحيوية، أو لأن ثقافتهم محدودة وهامشية، وأمثال هؤلاء، أما أن ينصرفوا عن الكتابة الشعرية فتضمر موهبتهم، أو أن يكون نتاجهم، مجرد كم يتكرر.وسواء في قصائد هذه المجموعة أو في سواها، أجد في الثقافة وفي القراءات، ما يغني تجربتي الشعرية ويعدد مساراتها، وينفتح بها على آفاق واسعة، وأمداء جديدة.أكان عليَ، أن أتنازل عن معارفي وثقافتي وتجاربي وقراءاتي، وأضعها في محيط معزول، لتبدو قصيدتي سطحية وباهتة، لا تقارب إلا ما هو شائع ومعروف ومكرر من الأفكار والصور، من أجل أن أتصالح مع ناقد كسول، وقارئ أكثر كسلاً،، أو مستمع يصفق لما يعرف، وينأى بنفسه عما لا يعرف "(31).

إذاً،حميد سعيد أراد لقصائد مجموعة( أولئك أصحابي) أن تخلق فضاءها الإبداعي الخاص،وتغترب به في فضاءات رؤيوية مفتوحة، ومداليل عميقة لا تكشف عنها القراءات السطحية أو البسيطة في مكتشفاتها،ومستخلصاتها الدلالية،لأن مثل هذه القصائد تبقى في خضم تناسل دلالي ورؤيوي على الدوام،وهذه القصائد الإبداعية هي التي تفتح باب الحوار، والمناقشة، والاختلاف على أشدها،وهذه هي الثمرة الإبداعية الحقة التي تجنيها النصوص الإبداعية في واقعها الفني، وحراكها الفكري والرؤيوي دوماً؛ ووفق هذا التصور، ترتقي النصوص الإبداعية،وتصل أعلى درجات الفن والمتعة والمجاذبة الجمالية المؤثرة بفعل اغترابها الفني والرؤيوي الخلاق.

وبتصورنا: إن الاغتراب الرؤيوي بتوتر الأحداث والشخصيات الروائية،وتعدد الأصوات الشعرية في قصائد حميد سعيد هو ما يهبها كثافة الرؤى، والأحداث، وتراكم المسميات والأمكنة،وتوتر المواقف، والمشاهد والصراع بين الشخصيات الروائية؛ ففي قصيدة( ملهاة الدكتور زيفاغو) لحميد سعيد يستحضر شخصية الدكتور (زيفاغو) بطل رواية(الدكتور زيفاغو)لباسترناك، وفيها تحتدم الرؤى، والصراعات،وتتعدد الأصوات والأحداث،وتتنوع الشخصيات،وتدخل معشوقته (لارا) حقل الرؤية الاغترابية العاطفية المحمومة، وأجمل ما في القصيدة الاغتراب الرؤيوي الدرامي على مستوى كثافة الأحداث، والرؤى المكثفة التي تبثها القصيدة على لسان شخصياتها بين الواقعين الروائي والشعري،ولهذا، تتنقل القصيدة من جو سردي إلى مشهد بانورامي ملحمي عاصف، لرصد تتابع الأحداث التي عاشها الدكتور(زيفاغو) بطل الرواية، ونقطة حراك الأحداث،وتنقلاتها الدرامية المكثفة ضمن الفضاء الشعري، كما في قوله:

"يُطاردُهُ الحُمرُ والبيضُ..
يطردهُ الملكيون والفوضويونْ
ويُشكِّكُ في ما يرى ويقول.. رجالُ الكنيسةِ والمُلحدونْ
كلُّ الذين أباحوا دمَ الآخرينْ
من كلِّ قومٍ ودينٍ.. وطائفةٍ..
يعدّون ضحكته خطراً.. يَتَهَدَّدهمْ
ويرونَ..
في ما يُفكِّر فيه.. خروجاً عن الصفِّ..
حيثُ يكونْ
ينصبونَ فِخاخاً لأحلامهِ..
وتَشُمُّ الذئابُ مواقِعَ أقدامِهِ..
وتتبَعُهُ.."(32).

إن القارئ هنا، يلحظ قوة جريان الحدث، وبراعة التنقل في الوصف،وهذا يتماشى مع فاعلية الاغتراب الرؤيوي، وتوجه الأحداث التي تبثها القصيدة،وهنا،يدمج ببراعة رؤيوية فائقة بين واقع شخصية الدكتور(زيفاغو)وواقعه الاغترابي قبل الرحيل، وتتبع الجنود الأمريكان لخطواته مع ذئاب الليل الشرسة التي تتحثث وقع خطاه، وآثار أقدامه أثناء مغادرته العراقن ورحيله عنها،مخلفاً وراءه إرثه وتاريخه وعمره الناصع الجميل،وهذا الالتحام بالشخصية وبث اغترابه الوجودي المأزوم على لسانها،لدليل خصوبة الرؤية الشعرية، وعمق تفعيل الشخصية الروائية في السياق الشعري من الداخل،من عمق التجربة وحراكها الشعوري الصادق.

وهنا، يتابع الشاعر سيرورة بث لواعجه الاغترابية،لتكون (لارا) محبوبة الدكتور(زيفاغو) موطن الدفء،والأمان والاستقرار الروحي،وهنا، يزداد توتر الأحداث،وتضج بالرؤى والمواقف المحتدمة،رغبة في التنفيس عن غربتيه( الوجودية/ والعاطفية)،كما في قوله:
" لارا.. هي الدفءُ والطمأنينةُ
لارا.. قصيدتهُ الأخيرةُ
كانتْ تلوحُ لهُ كلَّما فارقتهُ أصابعهُ..
فتعودُ إليهْ
وتذهَبُ لارا.. بعيداً
يُطاردهُ ما تخيَّلَ من صورةٍ للبلادِ
ويطردُهُ مَنْ تَخَيَّلَهم ْ أُمناءَ على ما تَخَيَّلَ..
من صورةٍ للبلادْ"(33).

هنا،يدمج الشاعر بمناورة فنية كاشفة بين واقعه الاغترابي، وواقع شخصيته الروائية،ليدمج الواقعين معاً،بحراك جمالي ينطلق من ذاته إلى شخصيته الروائية، ومن شخصيته الروائية إلى ذاته،وهذا ما يكسب المشهد الشعري توتراً في الحدثين(الشعري/ والروائي)،وفاعلية المشاهد المعبرة عن هذا الحراك الرؤيوي على المستويات كلها.
ويعد الاغتراب بتوتر الأحداث،وكثافة الرؤى المتعلقة بالشخصيات الروائية من مكامن شعرية القصيدة في مجموعة(أولئك أصحابي)،فكما توترت الأحداث وتعددت الرؤى في شخصية الدكتور(زيفاغو) تعددت الأحداث واحتدمت في شخصية الكولونيل في قصيدة(ثمَّ وجدَ الكولونيل من يُكاتبه)؛لحميد سعيد الذي تعايش مع الشخصية الروائية المقتنصة من رواية(ليس لكولونيل من يكاتبه) لغارسيا ماركيز، وفيها يحكي الشاعر قصة الكولونيل الذي ظل ينتظر راتبه التقاعدي بعدما قست عليه الحياة بفقرها،وضنكها،وعجافة الأيام،لكن بريده قد تعطل،ولم يصل راتبه التقاعدي بعد،وهنا،اعتمد الشاعر هذه الشخصية ليبث من خلالها صراع الأحداث وتوترها في فضاء شعري روائي متخيل،يشي بكثير من الرؤى والدلالات،والرموز،والمعاني المتناقضة عبر هذه الشخصية الروائية المأزومة في أحداثها، وواقعها الاغترابي الوجودي، والنفسي المأزوم،فحتى الديك الذي ورثه من ابنه، وكان يعقد عليه الآمال في كسب السباق والظفر بالجائزة،فقد خسره،وخسر الحلم بالجائزة، وفر الديك خارج القرية،وهكذا في ظل هذا التوتر في الأحداث،يبث اغترابه عبر شخصية الكولونيل،ويكاتبه، ليخفف من حدة بؤسه وأساه واغترابه الجارح،كما في قوله:

"ها أنذا التقي الكولونيل.. بعد غيابٍ طويلْ
أرى فيه..ما لمْ أَكُنْ قد رأيتُ من قبلُ..
هذا العزوفُ عن البحرِ..
لا الذكرياتُ التي ظلَّ يفتحُ فيها نوافذَ..
يدخلُ منها الذي كانَ.. يوقظهُ حين يغفو
ولا أحدٌ من سعاة البريد يعرفُهُ..
إذْ تلاشى النظامُ البريديُّ..
مُذْ صار لايتذكّرُ أنَّ له مَنْ يُكاتبُهُ"(34)

هنا،يحاول الشاعر أن يكسر حاجز الاغتراب الذي تعيشه شخصيته الروائية،عندما حاول أن يحطم هذا الاغتراب والانتظار المرير، بأن يبعث فيه الأمل ونبض الحياة من جديد، بعد أن تعطل النظام البريدي وخيوط الأمل لديه بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً،وقد اعتمد الشاعر توتر الحدث،وتكثيف إيحاءاته الشعورية المحتدمة،ليعيش نبض الأمل ودفق الحياة والوجود، وقد اندمج الشاعر بشخصيته الروائية واقعاً شعورياً اغترابياً يبث من خلاله المرارة والوجاعة الاغترابية المريرة من الصميم، إذ يقول:

"أَسكُنُ ذاكرتي.. وأراها بلاداً
وأبحثُ فيها عن الأصدقاء الذين توزَّعَهمْ.. كوكبٌ خشنٌ..
عناوينهم.. ومصائرهمْ
وكتبتُ إليه.. مثنىً.. وكرّرتُ..
ما جاءني منهُ ردٌ
تخيَّلتُهُ بانتظاري..
وكُنتُ سأسألُهُ عن بلادٍ جَفَتهُ
فبادرني بالسؤالِ
أأنت الذي لم يجد في البلاد.. بلاداً..
ففارقها؟
قُلتُ.. لا
لمْ أُفارقْ.. فقد سكَنَتْني بلادي"(35).

هنا،يعتمد الشاعر المحاورة الاغترابية الكاشفة المريرة عن اغتراب الكولونيل واغترابه الوجودي،فكما ارتحل الكولونيل عن أصدقائه وأيامه المزهوة بالمكارم والأماني البيضاء، ارتحل الشاعر عن بلاده العراق لتسكن في أعماقه، وتسكنه في الداخل، ويعيش الأمل من جديد بوميض جديد،وحس جمالي مزهو به،وهنا، يأتي الاغتراب فاعلاً بؤرياً عبر المحاورة الكاشفة مع الشخصية الروائية،لتحمل في طياتها حركة مدلولية كاشفة عن عمق الاغتراب الوجودي،والشجن الرؤيوي الجارح الممزوج بالحنين والنبض الدافق،وهكذا، جاءت قصائد حميد سعيد في مجموعته(أولئك أصحابي) غاية في الحراك الجمالي والفاعلية الرؤيوية،عبر ما تفيض به من دلالات اغترابية ممزوجة بالحنين الموجع والنبض الدافق، ولانبالغ في قولنا: إن هذه القصائد تحكي عالمها الفكري الرؤيوي الوجودي المفتوح،على أكثر من محور وأكثر من دلالة،وأكثر من رؤية،وهذا ما يجعلها حقلاً للمحاورة والكشف والارتياد الدائم لفضاءاتها الشعرية المراوغة والمبتكرة في معطياتها ومحفزاتها الشعرية.

ونخلص أخيراً بعد هذه الجولة المتأنية في أتون هذه القصائد إلى القول:
إن حراك المؤثرات الاغترابية الوجودية في هذه القصائد يأتي من حراك الرؤى والمنظورات إلى هذه الشخصيات؛ فالشاعر يعيش حالة من توهج الرؤى بعد هذه الخبرة الإبداعية الطويلة في التشكيل الإبداعي والتأمل الوجودي،فأتت هذه القصائد ذات ملامح فلسفية،ورؤى درامية تعكس قيمة اللمسات الجمالية المضافة إلى هذه الشخصيات،وهذا ما يكسبها غناها الوجودي، وتنوعها،وخصوبة مردودها الجمالي في المضمار النصي،وهذا يقودنا إلى حقيقة جوهرية: إن غنى هذه الشخصيات هو من غنى رؤاها، ومصادرها المختلفة ومرجعياتها الثقافية المتنوعة،وفاعلية اللمسات المضافة عليها في الباطن النصي. ولا عجب أن نجد الشخصية الروائية بملامح جديدة، ورؤى معاصرة مسقطة عليها من معاناته، ورؤاه، ومشاعره الاغترابية الوجودية؛ويعد هذا المبحث (الاغتراب الرؤيوي) من المفاتيح النصية الهامة في الدخول مضمار هذه القصائد التي تتنوع وتزدهي بالرؤى الجديدة كلما طالعها القارئ وعاد إليها بين الفينة والأخرى؛وهذا يؤكد غناها وتنوع مثيراتها على الدوام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى