الثلاثاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٠
بقلم آمال عواد رضوان

أوّلُ شعلةٍ أولمبيّةٍ كانتْ غصنَ زيتونٍ مشتعلٍ!

جماعاتٌ وأسَرٌ مِنَ القرويّينَ يتوافدونَ إلى الجبالِ والسّهولِ وأحضانِ الطّبيعةِ هذهِ الأيّام بلهفةٍ، بملابسَ متواضعةٍ تليقُ بالأرضِ وبأشجارِها المباركةِ، محتفلينَ بعيدٍ ليسَ ككلِّ الأعيادِ، في احتفالٍ سنويٍّ بموسمِ جنْيِ الزّيتونِ والبَرَكة!

ما أجملَ السّياراتِ الخاصّةَ تتزيّنُ بغلالٍ مِن أكياسِ الزّيتونِ عندَ الغروب، كأنّما تزفُّ عروسًا إلى بيتِ الزّوجيّة، وعيني القابضةُ أهدابُها على هذا المشهدِ الرّائع، يجولُ في أفقِها دبيبُ دمعةٍ، كأنّما تغسلُ غبارَ الاحتلالِ عن لوحةٍ تركنُ في ذاكرةٍ مألومةٍ، تلكَ المُسنّةُ الّتي تحتضنُ جذعَ زيتونةٍ بصرخةِ رعبٍ وباستماتةِ دفاعٍ مدوٍّ، ومِن خلفِها الجرّافاتُ تقتلعُ أشجارَ كرْمِها، كوسيلةٍ أخيرةٍ مُعبّرةٍ بقسوةٍ، اِقلعوني مِن الحياةِ كما تقتلعونَ زيتونَ كرمي مِن الوجود!

كم مِن آلافِ كرومِكِ بلادي اقتُلِعتْ دون أن يرتعشَ قلبُ جرّافة، أو يرتدعُ آثِمٌ عن إثمِهِ؟
كم مِن عائلاتٍ هُجّرتْ مِن بلادِها وكرومِها، وحُرمَتْ مِن أن تلتئمَ في احتفالِها الغضّ لتتباركَ بزيتِكِ؟

أيُّ طوفانٍ حلَّ بكَ يا الشّرقُ، وما عادتْ بعْدُ إلى سفينةِ نوح حمامةُ سلام، تحملُ في منقارِها غصنَ زيتونٍ تنبئُ مهدَ الحربِ بالسّلام؟

يا الحوضُ الأبيضُ المتوسّط، يا موطنَ الزّيتونِ والمُلوكِ الممسوحينَ بزيتِكَ المقدّس، أشجارُ زيتونِكَ الخالدة رفضتْ أن تكونَ ملكاتٌ تحكُمُ الأشجارَ، كي لا ينضبَ عطاؤُها وزيتُها الّذي باركَهُ الرّبُّ، بل تألّقتْ في خُضرتِها المُعمّرةِ أكثرَ مِن خمسةِ آلاف عام، وأثمرتْ أكثرَ مِن ألفَيْ عام، وما عاثَ بأخشابِها التّلفُ والسّوسُ وأعداؤُها مِنَ النّملِ والحشراتِ، بل احتملتِ الجحودَ والإذلالَ في قرانا المُهجّرةِ دونَ رعايةِ مالِكيها المهجّرين، لكنّها ما خذلتْ إيمانَهم بصمودِها، فتلألأتْ حبّاتُها مُشرقةً تندَهُ قلوبَهم إلى شموخِها.

ها النّبيُّ موسى شدّتهُ التّسابيحُ الملائكيّةُ عندَ الشّجرةِ المشتعلة، الّتي لم تكن الخضرةُ تُطفئُ نارَها، ولا النّارُ تحرقُ خضرتَها في جبل طورسيناء، وعندَ اقترابِهِ منها سمعَ صوتًا يقولُ: "إنّي أنا ربّك.. فاخلعْ نعلَيْكَ، إنّكَ بالوادي المقدّس طوى" سورة طه 12.

هل هذا يؤكّدُ أنّ منطقةَ طورسيناء هي الموطنُ الأصليُّ لأشجارِ الزّيتون، الّتي تمّ انتشارُها في منطقةِ البحرِ المتوسّط، استئناسًا بقولِهِ تعالى: "وشجرة تخرجُ مِن طورسيناء تنبتُ بالدّهن وصبغ للآكلين"؟

أم أنّ المقصودَ هو طورزيتا (جبل الزيتون) في القدس بجوار بيت المقدس، حيثُ لا زالت هناكَ أشجارٌ مِن زمنِ السّيّد المسيح؟

أم أنّ بلادَ الشّام زرعَها السّاميّون بالزّيتون قبلَ خمسة آلاف عام ق. م، وفي العهودِ اليونانيّة والرّومانيّةِ والبيزنطيّة، ومن ثمّ استمرّت في العهودِ الإسلاميّة والعثمانيّة؟
إنّ منشأ شجرة الزّيتون عبْرَ التّاريخ لا زال يتراوحُ ما بينَ الاحتمالاتِ والثّقافاتِ والدّياناتِ والبلدان الأولى، الّتي عرفتها كرمزٍ للخصوبةِ والسّلام والحياةِ والأبديّة، وكمؤشّرٍ حضاريٍّ في العالم!

هناكَ مَن يُثبتُ أنّ آثارَ ووثائقَ وجرارَ إيبلا في الموقع الأثريّ في سوريا منذ 4000 سنة ق.م، تدلُّ على أنّها أوّلُ حضارةٍ عرفتْ زيتَ الزّيتون، حينَ قدّمتْهُ سائلاً ذهبيًّا للآلهة!
لكن ظهرَ فريقٌ فرنسيٌّ يؤكّدُ أنّ هضيب الرّيح في منطقة رم جنوب الأردن، هي أقدمُ منطقةٍ في العالم زرعتْ أشجارَ الزّيتون منذ 5400 سنة ق .م في العصرِ النّحاسيّ، وذلك، مِن خلال تحليلِ رمادِ المواقد واستخدامِ خشب الزّيتون في الطبخ والإنارة!
أمّا الكتاب المقدس فيؤكّدُ أنّ شجرةَ الزّيتون عُرفتْ في فلسطين منذ القِدم، قربَ حبرون والسّامرة وتابور، وجاءَ ذِكرُها في سفر (اشعياء النبي 41: 19):

"أجعلُ في البرّيّة الأرزَ والسّنطَ والآس وشجرَ الزّيت، وأجعلُ في الصّحراءِ السّروَ والسّنديانَ والشّربين جميعًا". ووردَ ذِكرُها أيضًا في سِفر (يشوع 24: 13):
"وأعطيتُكم أرضًا لم تتعبوا فيها، ومدنًا لم تبنوها لتسكنوها، وكرومًا وزيتونًا لم تغرسوها لتأكلوها".

عُرفتْ شجرةُ الزّيتونِ في بلادِ آشور حيثُ وَرَدَ ذِكرُها في (2 ملوك 18: 32)، في حديثِ ربشاقا قائد جيش ملك آشور، عندما أرسلَهُ إلى حزقيا ملكِ اليهود حيثُ قالَ مِن فم الملك الآشوري:

"حتّى آتيكم وآخذكُم إلى أرضٍ تُشابهُ أرضَكم، أرضٌ كثيرةُ الحنطةِ وكثيرةُ الخمر، أرضُ الخبز والكروم، أرضُ الزّيتون والعسل".

وقد انتشرتْ فنونُ زراعةِ أشجار الزّيتون في مصر بواسطةِ الإلهة آيزيس، ومِن ثمّ انتقلتْ مِنَ الأراضي الفينيقيّةِ إلى اليونان، ثمّ روما ودول العالم الغربي، وفي القرونِ القليلةِ الماضية وصلتْ إلى الأمريكيّتيْنِ وأستراليا وجنوب إفريقيا.
استخداماتُ الزّيتِ عبْرَ الحضاراتِ والثّقافاتِ:
استُخدِمَ الزّيتُ لدى المصريّينَ في بناءِ الاهرامات، ووُجدَتْ عبواتٌ منهُ في القبورِ القديمةِ.

أمّا اليونانيّون فقد استخدموه في تدليكِ الأجسام والرّياضيّينَ خاصّة.
وفي التبادلِ التّجاريِّ بينَ ميناء أوغاريت - سوريا ودول حوض المتوسط.
أمّا الإغريقُ فاعتقدوا أنّ أثينا الإلهة فازتْ على كلّ الآلهة، لأنّها قدّمتْ شجرةَ الزّيتون أكثر الهدايا فائدة للإنسان، كما كانوا يجدلونَ أغصانَ الزّيتونِ الغضّة، أكاليل يزينون بها هاماتهم كرمز للقوّةِ الأبديّة.

واليومَ عالميًّا، فإنَّ منظّمةَ الفاو للأغذيةِ والزّراعةِ الدّوليّةِ التّابعةِ للأممِ المتّحدةِ والمجلس الدّوليّ لزيتِ الزّيتون، جعلتْ منذُ ثلاثةَ عقودٍ تتابعُ إصدارَ كلّ ما يتعلّقُ بالزّيت والزّيتون، مِن حيث الجودة، النّوعيّة، الكمّيّة، التّحاليل الكيماويّة، الإكثار، التّسميدِ، الوقاية، الرّيّ، عمليّات القطاف وأبحاث الزّيت، كي تُسهمَ في زيادةِ الزّراعةِ والإنتاج، وذلكَ للأهمّيّةِ الصّحّيّة والاقتصاديّة والبيئيّةِ والاجتماعيّة، فهناك 400 صنفٍ مختلفٍ مِن أشجارِ الزّيتونِ في أنحاءِ العالم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى