الأحد ٢٣ تموز (يوليو) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

أين الحقيقة؟

نستمع أحيانًا إلى تصريحات سياسية تدين الضحية، ولا أنسى في ذلك تصريحًا لغولدا مئير (رئيسة حكومة إسرائيلية سابقة)، وهي تندب بجدّية متناهية وحزينة، لأن الفلسطينيين يلزمون "جيش الطهارة والنقاء" أن يقتل أطفالاً فلسطينيين، فيا حرام!

ذكرني هذا الموقف -وكم يتكرر بصورة أو بأخرى- بقصة الصياد والعصافير:

"كان صياد يصطاد العصافير في يوم ريح، فجعلت الرياح تدخل في عينيه الغبار، فتقطران بعض الدموع. وكان كلما صاد عصفورًا كسر جناحه، وألقاه في ناموسه.

فقال عصفور لصاحبه: مَا أرقَّه علينا! ألا ترى إلى دموع عينيه، وكيف يبدو حزينًا!

فقال له الآخر: لا تنظر إلى دموع عينيه، ولكن انظر إلى عمل يديه"!

(ابن حبّان: روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 67)

كنت قرأت هذه الحكاية في حكايات إيسوب اليوناني، وفوجئت أن مجنون ليلى قد أوردها وهو يشكو لواعجه لليلى:

وكنتُ كذبّاح العصافير دائبًا
وعيناه من وجدٍ عليهن تَهْمُل
فلا تنظري ليلى إلى العين وانظري
إلى الكفّ ماذا بالعصافير تفعلُ

من الطريف أن المجنون أورد في القصيدة نفسها قصة الذئب الذي حاسب الجدي لأنه شتمه قبل سنة (قبل أن يولد)، وهي من حكايات لافونتين.

يقول المجنون:

وكنتُ كذئب السَّوء إذ قال مرة
لبَهْمٍ رعتْ والذئب غرثانُ مُرْملُ
ألستِ التي من غير شيءٍ شتمتني
فقالت: متى؟ قال: ذا عامُ أوّلُ

فهذا الذي يقوم بالشر كثيرًا ما يتجمّل، وما أحرانا بألا تُحجب عيوننا عن رؤية الحقيقة التي أمامنا، فالمظهر حتى في الزي والشكل لا يعني شيئًا.

الحكم هو على الجوهر لا على المظهر، فالمسوح لا تصنع الراهب، واللحية لا تجعل من صاحبها شيخًا، والذئب ذئب ولو في ثوب حمل، أو في ثياب الجدة في قصة "ليلى والذئب".

صحيح أن لنا الظاهر، ولكن لا تحكم حكمًا جازمًا بناء عليه، وصدق من قال:

" ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخْل"!

وقصة هذا المثل أوردها الميداني في (مجمع الأمثال- رقم 685)، والدخل= العيب الباطن.
يضرب لذي المنظر لا خير عنده.

قال المفضل الضَّبّي: أول من قال ذلك عَثمة بنت مطرود البجيلية، وكانت ذات عقل ورأي مستمَع في قومها.

خطب أحد بني الأزْد فتاة، وقد حضر مع إخوته ليطلبوا يدها.

فقالت أختها عثمة: "ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل.

اسمعي مني كلمة أن شر الغريبة يعلن، وخيرها يدفن. أنكحي في قومك، ولا تغررك الأجسام". فلم تقبل منها، وبعثت إلى أبيها، وقالت: أنكحني مدرِكًا.

فلم تلبث عنده إلا قليلاً حتى صبحهم فوارس من بني مالك بن كنانة، فاقتتلوا ساعة، ثم أن زوجها وأخوته وبني عامر انكشفوا، فسبَوها فيمن سبَوا، فبينا هي تسير بكت. فقالوا ما يبكيك؟ أعلى فراق زوجك. قالت: قبحه الله. قالوا: لقد كان جميلاً. قالت: قبح الله جمالاً لا نفع معه.

إنما أبكي على عصياني أختي وقولها: "ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل". ... (للقصة تتمة).

وأخيرًا وفي هذا السياق، ثمة بيت من الشعر لم أنجح في التوصل لمعرفة صاحبه، مع أنه مشهور:

لا تحسبوا أنْ رَقَصْنا بينكم طربًا
فالطير يرقص مذبوحًا من الالم

وهو تشبيه ضمني جميل، فلا يغرنكم الشكل والمظهر، فالطير لا يرقص حقيقة، وإنما هي رقصة الذبح الذي أصابه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى