الأربعاء ١٦ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

إحباط

صار من المألوف أن ترى الوجوه ذات السحنة الترابية أنّى نظرت، كآبة مُسيطرة على الخلْق، وكأنّ زمن السعادة قد ولّى، والابتسامات الوقتية إنْ رأيتَها، فتكون مُصطَنعة أو قسريّة يفرضها الموقف واللحظة وطبيعة العمل أو التّرحاب الزّائف. أما الحقيقة المُرّة، فهي إحباطٌ قائمٌ ومقيم ومتجذّر، وإحباطٌ تجاوز مرحلة الأمل بالانفراج إلى مرحلة اليقين بالغد البائس.

مع أنّ ذلك الصباح كان جميلاً مبتسماً في سمائه وسيمائه، لكنّه على جماله الواعد لم يستطع فرض إيقاع الجمال على الخلق المُحبَطين حتى الثمالة، فالمثل القائل، كن جميلاً ترى الوجود جميلا، أصبح معكوساً!
يومها خرجتُ مبكّراً في السابعة بلباس الرياضة لأعدو حول الحديقة، أنا أيضاً كنت مُحبَطاً من برنامج يومي القادم الذي تبيّنته من مخطّطي الذي أرسمُه مع فنجان قهوتي، ومحبطاً من نشرة الأخبار العالمية التي سمعت عناوينها فقط، ومحبطاً من النشرة الاقتصادية والجوية والرياضية، وحتى الفنية.

ثم أطفِئ تلفازي كارهاً كمَن يقلب الصفحة، وأخرج كالعادة وأركض، كمن يهرب من واقعه، وأعود سعيداً بالعادة، سعيداً لأنّي ما زلت قادراً على الجري بنفس المسافة التي كانت تتعِبُني منذ عقدين ونيّف، وها أنا أعدوها وقد قاربت الستين، وأعود متعرّقاً وقد نلْتُ بعض الرضى عن نفسي، وحمّامي السّاخن يجلو صفحتي ليبدأ نهاري بابتسامةٍ حقيقيّة، وكأنّ برنامجي المعقّد غداً أكثر يُسْراً.

ينكِرها البعض ممّن أواجهُهم، ابتسامتي تلك، ويعتبرونها كذبة لا داع لها، وقناعاً لا يقي من المرض المُستشري، فلا شيء يدعو للابتسام والرضى والقبول بواقعك إلا كنتَ مجنوناً أو منفصلاً عن واقعك، والأفضل، ينصحني البعض، أن أخفيها بكمامة كي لا تنتقل ابتسامتي بالعدوى.

هذا اليوم بالذات صادَفَني وجهان بائسان لطفلين ذاهبَين إلى المدرسة متنكّبين حقيبتين ثقيلتين، قلت لأحدهما وأنا أهرول مسايراً لمشيتهما السريعة المتمايلة:

 من المؤكّد أنّه امتحانٌ صعب في هذا اليوم؟

ولم يجبْني ذلك الطالب المقطّب على وجهه الطفوليّ، بل أعرَضَ بوجهه عنّي وكأني بعيدٌ كلّ البعد عن مستوى تفكيره، لكنّ رفيقَه أجابني:

 مجرّد الذهاب إلى المدرسة هو البؤس بعينه!

واستغربْتُ ذاك الجواب من طالبٍ في مرحلة إبتدائية، وبدا لي أكبر من عمره، فقلت لهما وأنا أسايرهما بالمشي:
 معناها أستاذ اليوم صعب المراس؟

وقال الطالب وما زال يوحي لي بأنه أكبر من عمره:

 الأستاذ صعب، والمدرسة، وأبي وأمي، والبيت، كله صعب!

لماذا يكون طالبٌ في عمر الورود مُحبَطاً بهذا الشكل، والمفترض أن يكون مقبلاً على الحياة التي لم يعترك تعقيداتها بعد؟

طبعاً لأنه كسول، ولم يحضّر دروسَه كما يجب، ولم يكتب وظائفه. هذا هو الجوابُ المنطقيّ، ولذلك يكره الأستاذ ويستثقل المدرسة، ولكن لماذا يذكر صعوبة أباه؟ وأمه؟

طبعاً لأنه يتلقّى التقريع منهما بسبب سوء تحصيله وإضاعة وقته. وإلا لَمَا أضافَهما إلى قائمة الأستاذ والمدرسة، والأستاذ سيتّهمه بالغباء، والأهل يصادقون على ذلك، فهو إذن غبيٌّ بلا شك، فما فائدة المدرسة؟

هو ليس متفوّقاً مثل فلان، ولن يكون، لأنه غبيّ وفاشل منذ الآن، فلماذا يتعذّب في تلك المدرسة التي ليست لأمثاله؟

لستُ مصلحاً اجتماعياً، ولم أكتشفْ جديداً بسردي قصة ولدين مُحبَطين، لكنّ مواجهتي اليومية للإحباط الصباحيّ السائد غدت أكثر تعميماً، وما زلت أواجه نظرات الاستخفاف برياضتي الصباحية، من الذاهبين لأعمالهم في الصباح طلاباً وموظّفين، خاصة عندما صار يرافقني كلبي في دورتي حول الحديقة يتنطّط حولي سعيداً برياضته.

معتادٌ أنا على مواجهة المحبَطين في تعاملي اليوميّ مع المرضى، وذلك أمرٌ طبيعيّ طبعاً، والمحبطين أيضاً من مرافقيهم لأن الأمراض المزمنة لن تشفى وستتعايش معها تستنزف عمرك كشرٍّ لابدّ منه، وابتسامتُكَ لن تخفّف عنهم ولو ردّ البعض عليك بابتسامة مؤقّتة، زائفة، غبيّة، فلماذا يبتسم ذاك المريض المُدنَف؟ أقولها أنا أيضاً، ما دام واقعاً في شرَك المرض الذي يدنيه من موته المحتّم؟

ووسّعت جولاتي بين أفراد المدينة الفاضلة، ولم تبقَ صباحية، بل صارت نهاريّة كمتسكّعٍ مستكشف، فاصطدمْتُ بالمُحبَط العائد من يومٍ قضاه في الطابور ليحصل على مادة مقنّنة، بلا جدوى، لأن البعض يتجاوزه ويأخذ دوره ويأخذ حصّته. وكذا المحبط العامل الدؤوب الذي لم يحصل على الترقية التي كان يأملها، لأن غيره قد أخذها بطريقة ما، فلماذا يكدح في وظيفته؟

وكذا الزوجة المتفانية في خدمتها لبيتها، لكن زوجها يرذلها.

وكذا الشاب خريج الجامعة، فيرى نفسه بلا فرصة عمل.

وعلى أبواب المحاكم هناك ترى المحبطين متراكمين كالهموم، حيث لا حقّ يُسترَدّ، ولا مادة قانونية منصفة.
وعندما أعلنوا عن انتخابات في البلدية، كان الناخبون محبطين لأنّ النتائج معروفة، والمنتَخَبون محبطين أيضاً لأنهم غير قادرين على التغيير.

ووصلتُ في تجوالي نحو حدود المدينة الفاضلة، فوجدْتُ جنوداً محبطين من حروب عشوائية داخلية أكثر منها خارجية، ومسافرين محبطين إذ لا يقبلونهم في بلاد الاغتراب إلا كلاجئين.

وطرْتُ برحلاتي خارجاً عن المدينة الفاضلة حتى وصلت إلى الأمم المتحدة، فوجدت مندوبنا محبطاً إذ لا يطبّقون القانون الدوليّ فيما يخصّ بلاده، ويتكلّم بلا مستمعين.

وطلبوا مني أخيراً أن أتخلّى عن كلبي في جولاتي، لأنّ نباحه قد علا وأصبح مزعجاً، مقلقاً، ولم يكن كلبي ينبح عن جوع، لكنه كان محبطاً أيضاً، لماذا؟

لأن كلبَته التي عشِقَها قد صارت لكلبٍ غيره!

كان كلبي الذي غدا حزيناً فجأة، يتساءل في قرارة نفسه، كيف فاز صديقه الكلب بتلك الكلبة؟ ولماذا فضّلته عليه؟ وهو بالنهاية مثله كلب وابن كلب؟ ولم يجد عندي تفسيراً.

لكنه عندما غادرني في النهاية ملوّحاً لي بذيله، وجدتُ نظرة استخفاف بي كصاحبه وسيّده، يبدو أنه اكتشف السبب، أو أن صديقته فسّرت له الأمر عندما قالت له، بأنها تبادله الحبّ أيضاً، وبأنها تشعر بالإحباط مثله، لا بل ستعيش حياتها كلّها محبَطة، لأنها مضطرّة للزواج بكلبٍ آخر لا تحبّه، لكنه زمن الإحباط الذي يفرض عليها أن تختار اختياراتٍ خاطئة، لا لشيء إلا لكي تندم لاحقاً وتندب حظها العاثر، وتتابع ما تبقى من حياتها، محبطة، كباقي خلق الله.


مشاركة منتدى

  • لديك أسلوب ممتع جدآ في الكتابة وبلاغة لغوية جيدة أحببت عفويتك البحته في طرح المواضيع المختلفة من مُعجبينك الُجدد حيث أنني اليوم وجدت مقالك المذهل عن طبيب القرية عندما كتبت في البحث عواء الريح ٠٠

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى