السبت ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

إغواء المشاهدة

قراءة في رواية دق الطبول للبساطي

في نصه الروائي " دق الطبول " ، الصادر عن دار الهلال – في أكتوبر 2005 – يكسر محمد البساطي أفق التوقعات التأويلية المرحلية التي يبنيها القارئ وفقا لتطور النص السردي في تقديم وحداته ، ووظائفه ؛ فالسطور الأولى من دق الطبول توحي برصد الراوي للعبث الملازم لعلاقات رأس المال ، كما توحي الإشارات التي يقدمها ببداية تكوين أزمة وجودية للبطل نتيجة لوقوعه في فخ التشيؤ . و لكننا نكتشف أن هذه الوحدات السردية رغم بساطتها الشديدة ، تحمل بداخلها طاقة تصويرية مجردة من أي إطار و لو كان الوعي المبدع نفسه .

إن سارد البساطي يكتفي برصد الحدث في بكارته المشرقة ، و حضوره كصورة شديدة التكثيف و الإيحائية ، و الإغواء المباشر بسحر المشاهدة ، ومن ثم إيغال الشخوص في لذة الرؤية و توليدها اللامتناهي عن طريق الحكي ، فنحن في نص البساطي نعايش ما يرصده الرواة من صور عن الآخرين ذوي الوجود الملتبس بالشعرية كبديل عن الحضور الدرامي المباشر ، وما فيه من شمولية لا تتوافق مع تلك المساحة التي تمنح الشخص وجودا طيفيا بالتداعي مع الصورة التي يرصدها في فعل يشبه لذة الكتابة الأولى خارج مقولات النوع .

هكذا يرصد السارد الانحرافات المجازية لسطوة رأس المال كبنية استبدالية لحضوره كمفهوم مركزي ، فقد اختار حدث اللعب ليؤجل وجوده كمستخدم أو سائق في الإمارة ويقصي أعراف رأس المال لحين عودة أبي عامر ورفاقه / السكان الأصليين من رحلة تشجيع منتخبهم في كأس العالم ، فقد تحولت صور قهره الجنسي في الإمارة و اكتفائه بالأحلام المشروعة خوفا من الطرد و العقاب الشديد إلي لذة تصويرية فائقة ، عندما أسهم في لقاء مستخدمة باكستانية بزوجها على فراش أم عامر في احتفالية ثقافية تضم هنودا و فلبينيين و باكستانيين . فهل كانت احتفالية نصية بقتل الأب الأسطوري الكامن في رموز رأس المال؟

أم أنها عملية إحلال ثقافي أنثوي الطابع يؤكد سيولة الممارسات الحضارية في مقابل مراكزها المتصارعة من قبل ؟

و لكن عمليات التحول المصاحبة لحدث اللعب تؤكد درجة عالية من خروج أهل الإمارة أيضا عن مركزهم الوجودي في اتجاه مشاهدة تدمر الإنتاجية المالية و تفتتها في اتجاه تصوير شديد الفخامة لمباريات الفريق رغم توقعات بعدم تأهله للأدوار الأعلى في الكأس ، وبهذا الصدد يؤكد فريدريك جيمسون سمة التشظي المتجاوزة لذاتية رأس المال فيما بعد الحداثة حيث يولد رأس المال كيانات لا تحتاج الإنتاج ولا الاستهلاك و إنما توجه الاهتمام في اتجاه آخر خارج أي مرجعية قديمة ( راجع – جيمسون – التحول الثقافي – ت- محمد الجندي/أكاديمية الفنون ص 139 و ما بعدها) لقد انحرف فعل استغلال الثقافات الأضعف إلى مبدأ يتعارض مع الإنتاجية الآلية التي اتسم بها أبو عامر و رفاقه ، يؤكد هذا المعنى دورانهم الطيفي في حلقات النصر الفارغة عقب عودة الفريق بعد خروجه من البطولة . دقات طبول النصر هنا قاسية و لكنها حية و قادرة على استعادة نظائرها اللاواعية حيث تفلت الحلقة من المركز و تنقسم في جمال يصلح للرؤية المجردة من استاتيكية المضمون ؛ حيث الصوت وحده طليق في الفضاء تتشكل منه مادة الحياة الأولى خارج نطاق رأس المال و إن جاء ذلك من كمون عنصر اللعب فيه و قد رصده البساطي بعناية فائقة .

و يمتد فعل المشاهدة إلى طاقة الإيروس عند البطل ؛ فالحواجز التي يضعها المجتمع ضدها تتحول إلى استعادة إبداعية لمشهد آخر في ذاكرة البطل إذ كان أهالي قريته يقومون بخصي الثور ذي الغريزة المتوهجة .

إن شبح القطع المفاجئ للرغبة يهيمن عليه فيؤول الواقع من خلاله و يتخذ استجابة مضادة فيمتنع عن الممارسة ، و لكن عملية الاستعادة المكررة لوهج الثور توحي بتبديل غير واع للخصي ، فصورة الثور المشرقة مازالت كامنة يعاينها البطل في ذاته و يصنع منها حلقة متخيلة ممتدة من أحلام اليقظة و فيها يتحرر الإيروس من خلال لذة المشاهدة وحدها .

إن كثرة عمليات الاستبدال في نص ( دق الطبول ) أدت إلى زوال الحواجز البنيوية في عملية التبئير السردي أو وجهة النظر ؛ فالسارد يرتكز على تبئير داخلي متنوع – وفق مصطلح جينيت – حيث ترتكز وجهة النظر على شخص ثم تنتقل إلى آخر و إن جاء هذا عن طريق الحوار هنا . ولكن ما يلفت النظر أن محتوى العالم الداخلي للشخص / السارد يرصد صورة الآخر و تاريخه ليعبر عن حالة إبداعية من الإحلال إذ تشكل الصور الافتراضية للآخر وجود الأنا و رؤيته للعالم . هل كان هذا إمعانا في التشيؤ ؟ أم أن الصوت مختلط دائما فيظل النقاء الذاتي مؤجلا ؟

إن الأحاديث المطولة بين السارد و زاهية خادمة أبي سالم تؤكد ذلك ؛ فقد جاءت زاهية إلى الإمارة لتسلية أم سالم و خدمتها نظرا لمرضها الشديد ، ولكنها بعد ذلك أصبحت موضوعا للإحلال و المشاهدة الجنسية من قبل أم سالم ، فعندما علمت الأخيرة أن أبا سالم مضطر لخيانتها ، بدأت عملية توحد افتراضي بزاهية ، فأفرغتها من تاريخها الخاص و مضمونها الاجتماعي كي تضع ذاتها الافتراضية في هذا الجسد الذي يشبهها ، وتحقق من خلاله خيالاتها الجنسية ، إن لذة الإيروس عند أم سالم لا يمكن تحقيقها إلا من خلال المشاهدة وحدها ؛ فقد دفعت زاهية إلى زوجها لتقص عليها ما يجري بينهما لتستعيد ما كان يفعله الرجل تماما من خلال الوسيط التصويري / زاهية ، هل استبدلت تلك العوالم المتخيلة شبح العدم ؟ أم أن اللذة كامنة في الصورة بالأساس ؟ أم أن الطاقة الغريزية اللا واعية تستدعي محوا لمدلول الذات فيصير تاريخها أشبه بالأسطورة ؟

و تستمر التداخلات بين المشاهدة و الواقع حتى تبلغ ذروتها عند قدوم الطفل سالم من زاهية التي هي خديجة الافتراضية فتنسبه الأخيرة لها و لأبي سالم بعدما عاشت لحظات حمل متخيلة .

هذا الطفل يذكرنا بالخبرات النصية العبثية في عوالم بيكيت ثم كونديرا و على الأخص بنص من الذي لا يخاف فرجينيا وولف لإدوارد أولبي ، إنه الوجود الواقعي في صورة لعبية / نصية يحرص عليها البساطي من بداية الرواية ، حيث يظل التساؤل قائما حول ما نظنه واقعيا و مؤثرا من خلال رصد تبدلات رأس المال الحلمية و انعزال قضيب الرجل الإفريقي عن مضمونه حين يدور في حلقة تشبه الحكايات النسوية الطويلة و التحولات الداخلية العميقة للسارد عقب استماعه لزاهية فقد كان يقوم بعمليات إحلال مضادة لما تحكيه إذ أعاد إنتاجها كأنما صارت ملكة أسطورية وحيدة في القصر يقول السارد " تمشي ، تظل تمشي في ممرات الحديقة حتى ينالها التعب و ربما تكتفي بأروقة القصر ، أتخيلها في القاعات الواسعة ... تدخل و تخرج ، لا أحد غيرها " ص 94 . لقد صارت زاهية مادة منتجة للحكي ، معزولة عن المادة و الأثاث ، صوتا مجردا من الهوية . إنها المكان نفسه حين يحول فعل المشاهدة الفراغ إلى مادة مقدسة .

قراءة في رواية دق الطبول للبساطي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى