السبت ٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٠

إنـــه... قريب

جابري عبد العالي

زحف على جل أحياء قريتنا من حيث لم نحتسب، وسلط مردته في كل مكان للبطش بمن أراد الاستهتار بقوته، أو الاستخفاف بصنعته، أو كل من سولت له نفسه استفزازه أو تحديه؛ وكنا حينها منهمكين في فك رموز الحياة لتلبية متطلباتها. وبين زحف العدو ومعترك الحياة وجدنا أنفسنا تحت المطرقة وفوق السندان، فدب الرعب فينا فصار هو الآمر الناهي في كل ما نفعل... فنسينا عقبات الحياة وانشغلنا بألغاز العدو لنجد أنفسنا قد أُكْرهنا على التحلي بالخوف، فأصبح يجري فينا مجرى الدم؛ ثم علت أعيننا غشاوة حجبت عنا رؤية حقيقة ما يجري حولنا. وبعد ذلك ألقى علينا طلاسم غريبة ليحكم قبضته، ولنتبع طقوسا لا قبل لنا بها، فتمكن من الإمساك بكل خيوط حركاتنا وسكناتنا، فما كان منا إلا أن قدمنا له الولاء والطاعة قهرا. ودون تردد حذونا حذو أصحاب الكهف، فأوينا إلى "كهوفنا" آملين أن ينشر لنا ربنا ما نشره لهم من رحمة؛ ثم دعونا بدعائهم تيمنا بصلاحهم، لأن ما ألقي علينا مجهول وما نكابده معلوم ونحن الآن في انتظار.. شيء ما.

ملَّ صبري من الانتظار، فدلني على فضولي الذي زين لي الخروج من كهفي بحجة: "ليس من رأى كمن سمع"، فاستجبت له متحديا بعض خوفي، ومشيت متنكرا كأمثالي من الفضوليين من حائط إلى آخر بخطى سمتها الحذر تفاديا لأي خطر. ما رأيته هالني، فالمشهد مشهد الفناء، فقلت أَوَ هكذا سيكون الفناء؟ أم هذه بدايته... والباقي آت؟ ماذا حدث لبلدتي وأهلها؟ وكأن الزمن قد توقف وأصابه ما أصابنا. لقد نفضت بلدتي عنها كل أصناف الصخب الذي كانت تتميز به، وضم الصمت الرهيب كل أرجائها بين أحضانه، وتقابلت الحيطان تقص لبعضها حكايات العاطلين الذين كانوا يستندونها باستمرار وتحمل ثقل مآسيهم. وكنت أرى من حين لآخر أشباحا مهرولة وقد طمست ملامح وجوهها عدا عيونها الجاحظة من شدة الخوف. عجبا كيف تنكرت بعضها لبعض... فتباعدت وتنافرت في ما بينها كالأعداء. وفي هذه اللحظة أدركت أن حجة فضولي واهية، فعدت أدراجي بخطوات زاد هول ما رأيته في سرعتها، وتساءلت: كيف سأحكي عن ما أجهل كنهه وسره؟ هل ما آلت إليه قريتنا مسحة طائف طاف عليها بقدر؟ فلا اعتراض على قضائك يا رب؛ أو ربما حِيك داخل عقول لا ترى النور إلا في ظلام الآخرين؟ أفلا يحيق المكر السيئ إلا بأهله؟ ولما حاولت لمَّ شتات بعض الكلمات لوصف ما رأيت، انهالت على رأسي أسئلة شتى كادت تهشمه ولاحقتني إلى بيتي فأوصدت الباب في وجهها. وكيف لا أفعل وأنا لا أجد لها أي جواب!!! وأخيرا لم أكسب من هذه المغامرة سوى ما زاد من رصيد الحيرة في نفسي... وكنت في غنى عنه.

في بهو البيت استقبلني أحد أبنائي وقد برع الخوف في رسم كل تفاصيل الدهشة على وجهه، وزاد أيضا في صفرة لونه ثم وضع على لسانه سؤالا من العيار الثقيل:

 لقد تعودنا على زيارته لنا كل سنة ولم نكن نجزع منه، بل لا نأبه بقدومه، لكن ما حدث هذه المرة؟ فأجبته:

 لا أدري بالضبط، لكني شاهدت على عدة قنوات من يتهم بعض المتطفلين الذين استباحوا وكره وعبثوا بمكنوناته وخبايا أسراره، فثار وألقى شرارات غضبه على الجميع فوقعت على أنفسنا قبل أجسادنا فاحترقت طمأنينتنا وسكينتنا و... وهكذا ضاقت الأرض بما رحبت على من عليها؛ فصار خوفنا شجاعة علينا أن نبديه ولم يعد ذعرنا عيبا علينا أن نخفيه. وكيف لا... ونحن نجهل من المتربص بنا، أهو؟ أم من هتك عرضه؟ وماذا ينتظرنا؟ ثم نظر إلي وقد خاف صمته من صوته وقال:

 إلى أين بنا؟ وكم سنلبث في بيوتنا؟

انطلق صوت أخيه من أمام الكمبيوتر من الغرفة المجاورة ليرسو على آذاننا:

 لم تعد قريتنا آمنة مطمئنة، ألا ترون أنها طوقت من كل الجهات؟ أتدريان أن كل من وقع في شباك عدونا يساق إلى إسطبلات ميدانية أقيمت خصيصا لهم؛ فمنهم من يقص على الآخرين كربه إلى أن يلقى ربه، ومنهم من يُغسل دماغه حتى تبْيضَّ مادته الرمادية لكي تعشعش فيها كل الأسقام، ويصبح عبرة لمن كان يخوض مع الخائضين المشككين في وجوده. هذه الكلمات أغرقتنا في صمت كاد أن يخنق أفكارنا، فبادرته قائلا:

 "من منا ينكر أنه استرهب عقولنا وسيطر على أدوات تفكيرنا، فأصبحت كل تصرفاتنا لا كما نشاء نحن بل كما يشاء هو، وهذا ما سهَّل على إبليس أن يبث على كل قنوات أدمغتنا وبكل الموجات ما يشاء من ذعر وهول ليأخذ هو أيضا نصيبه من الغنيمة، فزرع بمكره ألغاما فجرت العديد من الصراعات بين المرء وزوجه والابن وأبيه. وكأن هذا لم يكفينا... اقتطعنا لأنفسنا قدرا لا يستهان به من الاكتئاب أفقدنا طعم الحياة وبهجتها فنسينا كيف كانت... هذا حالنا. فرد علي:

 "يعني أن بعد هذا لم يبق من بهجة الحياة وزينتها إلا بعض الألوان الباهتة هنا وهناك نستجدي منها بقايا سعادة وحرية زائفتين"!!! فقاطعه أخوه ليقول:

 " لا يا أخي رغم كل هذا، منا من وجد سعادته في هواتفه الذكية حيث أصبحت شريان حياته؛ فشحنها بشتى ألوان التطبيقات وصعد على منصاتها يلوح للمعجبين والمعجبات، وبفضل هذه التطبيقات بُنيت علاقات افتراضية منها ما يجمع وكذلك ما يفرق بين نشطائها في انتظار الفرج. ثم كثرت تغاريد لا تسمع ترانيمها بتاتا. ثم نظر إلينا وأضاف:

 "وبفضل التكنولوجيا خضنا حربا افتراضية مع عدونا، لكنها مع الأسف لم تزده إلا نصرا وفوزا ولم نكسب منها إلا هزيمة وإحباطا، لأن الخوف منه استوطن نفوسنا وجعلها مقرا له. أليس كذلك؟" وشعرت أن السؤال موجه لي فأجبته:

 أجل ورغم هذا الصراع فقد تجددت بين العديد من الناس علاقات كنا نعتقد أنها بادت بفعل الهواتف فأصبحت أكثر حميمية، ولكن تزايد إدماننا على هواتفنا فأصبحت سمعنا وبصرنا، بل وأيقظت فينا نوازع الطفولة التي حسبناها قد فطمت إلى الأبد، فطفت من جديد على صفحات حياتنا لتستمتع هي أيضا بهواتفنا. كم هو مدهش أن يستوي الجميع أمام هذا الجهاز الذي نعتقد أننا نملكه وننسى أنه هو من يملكنا !!! فأصبح جزءا منا، أما أنتم فقد أصبح هو كل شيء في حياتكم. وهكذا هُيئنا لنبلع أي ترياق يعرض علينا عبر هواتفنا وشاشاتنا علنا نجد الخلاص. وخرج علينا "خبراء" من مطابخ بيوتهم بوصفات سحرية من خضر طرية وأعشاب بيولوجية، ويقسمون على نجاعتها في قتل عدونا، ثم جاء دور علماء كنا نجهل ميادينهم بل حتى وجودهم ليقدموا لنا تفسيرات متباينة؛ وكذلك ظهر في الساحة أخصائيون، كنا لا نعرف مهنهم وتفننوا في انتقاد نظريات بعضهم بعضا فزرعوا بيننا أجود أنواع الحيرة بسبب أطروحاتهم المتناقضة ففتكت بنا لا بعدونا الذي يحصد أرواحنا"

بعد ذلك جلسنا معا نشاهد آخر الأخبار حيث عرض التلفزيون صورا مفصلة لعدونا، فارتفعت درجات دهشتنا وأصبنا بالذهول بسبب بشاعة سحنته، هر وعلى رأسه تاجا مرصعا بحجارة بنفسجية وكأن لسان حاله يقول: "أنا من "يملك" زمام الأمور". وبعد صمت مزقته زفرة انطلقت من أعماق ابني الأكبر فقال:

 لم نعد نطيق دفع ثمن حجارة تاجه بأرواحنا !!! ثم لقد صار الحديث عما أصابنا من فيروسيَته ضربا من الهلوسة والإدمان بل أصبح وسواسا قهريا، وهذا يضمن بقاءه في عقولنا ووجداننا ويضعف من إرادتنا ومناعتنا وهو سر انتصاره علينا. وأين المخرج؟ فرد عليه:

 رغم كل هذا فقد ظهر أصحاب العزائم القوية يحملون أفكارا فيها من النور ما يبدد ظلمة ما نحن فيه، فنشروا وسم # أليس الصبح بقريب # فشاع نوره على كثير من المنصات بين الشباب ليبثوا الأمل ويزرعوا فسيلة الحياة بين الناس من جديد. نحن نرفض تسليم عقولنا لكل ما يشاع حتى لا تكون قوالب جاهزة تردد ما يُراد لها أن تردده. "أليس الصبح بقريب؟" هذه الآية بعثت في نفسي الأمل بقرب الفرج وكأني أسمعها لأول مرة.

 وبهذه البشارة الملفوفة في الآية ختمنا حديثنا وتوجهت إلى غرفتي وضبطت بوصلة عقلي قبلة الصبح القريب. وبدقتين متتاليتين أعلنت الساعة الثانية صباحا، ثم استمرت تلقي الثانية تلو الأخرى في عداد الزمن الماضي فعلمت أن الأرق من نصيبي هذه الليلة، إنه لا يزعجني فقد تعودت على وفائه لي ولست وحيدا فقد جادت علي الساعة بصوت دقاتها الذي ملأ علي غرفتي. غريب كيف أن تلك التكات بدأ يعلو صداها في أذني ثم يتسرب إلى قلبي لينسجم مع نبضاته؛ ومعا وعلى وتيرة واحدة يعدان وقع خطوات الصبح الآتي وصرت أردد معهما وفي كل دقة "أليس الصبح بقريب "؟، "أليس الصبح بقريب؟..." أكررها كتسبيحة الخلاص. وبعد عدة دقائق استوقفني السؤال لا ليطالبني بالإجابة عنه، فالجواب الوحيد له وبالصيغة التي جاء بها هو " بلى ". وهذا الجواب أبعد عني كل تردد وحيرة قد يعكران علي صفو انتظار صبح الفرج الآتي، لذلك لم أكلف نفسي عناء البحث عن جواب غيره بل تفرغت لتلك الكلمة التي توسطته "الصبح"، إنها هي شفرة الخلاص مما أصابنا. الصبح، هو ذلك الأمل الذي ينتظره الجميع والذي تصاحبه صفة القرب...قريب... أجل قريب. ألا يلفظ الليل أنفاسه الأخيرة على عتبات الصبح؟ ألا يخترق ضياء الشمس رقعة الظلام فيدمغه؟

 الصبح آت لا محالة رغم أنف ظلام الليل أو ظلام القهر، أو ظلمة الكوفيد مهما كان رقمه، وكيفما كان تاجه، أو حمضه النووي. قد يكون الصبح سراجا يوقد في الظلام، أو فرحا يُنسي الآلام، أو توبة تمحي الآثام، كما أنه قد يكون فرجا من كل الجائحات والأسقام.

أليس الصبح بقريب؟ بلى، لأن دوام الحال من المحال. ثم غادرت الغرفة للقاء صبحي وأنا أكرر: "بلى إنه قريب يا رب".

جابري عبد العالي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى