الخميس ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥
بقلم عبد الجبار الحمدي

إنهم يغتالون الثقافة...

رتابة الأيام جعلت منه شخصا منطويا في صومعته التي ركن إليها لإكمال مخطوطه الذي طالما كان خائفا من رسم حروفه إلا بالحبر السري الذي خزنه في ذاكرته وتلك السنين المنقرمة عنوة أظافرها تعذيبا لكتابة حقيقة ايامها البغيضة التي دُسترت لتكون بطانة (عاش الوالي... قال الوالي) مصحوبة بالتهليل حتى بات نسقا يوميا يمجد به الاطفال في الرياض، المدارس، الجامعات، وحتى الدوائر الرسمية ترديد السلام والعهد للوالي الباقي اطال الله بقاءه...

وبين دوران عجلة وانبطاح جثث، تطايرت الاقنعة وتغيرت الوجوه الكالحة والقيم كلية، عكفت تلك التي اتت ان تعطي حرية للثقافة وحق القلم بتعبيره ليخط العذابات كما هي بلونها الاحمر و أنين المتعذبين بسياط الجلاد...

الجلاد... هو ذاك ما كان يتوجس منه خيفة حين جلس على احد المقاهي وبيده نسخة من مطبوعه الاول الذي يأمل، الذي صهر نفسه داة وقلم وورق خلجات معاناة ايام بساعات في زنازين مقيتة حدباء عفنة، رمق وهو خير من يميز ذلك الشخص الذي يتحسس خصره بين فينة وأخرى على المسدس الذي كان يحمله كوليد لا يرغب به، تذكر ان الفزع الذي كان يشعر حين ينتابه متى ما شعر بخنازير الوالي التي كانت ترقبه كلما كانت يتحدث عن أهمية الكلمة ونشر الثقافة وعيا بين شعب تدحرج من علو الى هاوية جحيم عبارات عاش الملك ... مات الملك..

قالت نفسه لا أصدق!! أتراني اعيش المرحلة مرتين، كيف لهذا الخنزير من عِلم بما احمل بعد ان تغير لون العباءة التي ارتداه الولاة الجدد.... لا عجب!!! بعد هز رأسه كأنه يرد عليها ليقول: كلهم سواء دعاة الى السياط والزنازين فما بقي حكم ولاة دون عصبة من ضباع او خنازير فكلهم يعتاشون على الجيف .... ابتسم الى نفسه حين ذكر كلمة الجيف وهمس.... هذا يعني نحن الجيف او الرمم التي كانت وستكون القرابين التي يغرز الولاة مخالبهم فيها لتمزيق وجوه ترى وتشاهد من بعيد ليكونوا عِبرة ...

رمى بقطعة النقود على الطاولة حساب الشاي الذي لم يشربه وغمس نفسه بين موجة الزحام التي كانت كموجة قوية الغرض منها الهروب من دوي انفجار بعيد كان او قريب، شاعت الفوضى وغط في مضيق ودهاليز البيوتات التي نسيها الوقت والتغيير فكانت شاهد احداث ميتة بعيارات نارية وشظايا طائشة اصيبت بها جراء قصف جوي وحروب شوارع...
وصل الى باب الخان القديم... لكنه مقفل!!!

تساءل ترى اين انت يا كريم؟ لقد وعدت بأنك ستكون في الخان تماما في العاشرة... وهاهي الساعة قد تجاوزتها بربع آخر لا أدري ماذا أقول ربما ثملت هي الأخرى معي ليلة الامس فترنحت عقاربها ومالت الى الزوال ظنا أننا نعيش وقت الضياع دون حساب زمن.....

لم يشعر إلا ويد على كتفه مصحوبة بصوت

كريم: إني اعتذر عن التأخير لقد كان الزحام شديدا والطرق اغلبها مغلقة بعد الإنفجارات التي حصلت، لقد كان منظرا رغم تكراره إلا أنه مخيف ورهيب فالشوارع والارصفة وحتى واجهات المحال قد اصطبغت باللون الاحمر والاسود ....
أما فضول المارة فهو الطامة الكبرى التي تسبغ على طرح الكثير من التساؤلات، هل اعتادت الناس ان يكون الموت بينها يعتاش في اي لحظة على من تسقط ورقته قبل ان تتيبس اياما وسنين..

جنون يا نجاح ...جنون الواقع الذي نعيش كم حلمت وإياك بعالم جديد يتأزرنا بخضار يانع يطلق للعصافير جرية التغريد بعناوين غير تلك التي كنا نسمع ، ونشيدا وطنيا خال من التبعية والربق والقيود المدفوعةهى الثمن بدماء الفقراء...
قاطعه نجاح قائلا: كريم توقف عن الحديث وافتح باب الخان فيبدو أني ملاحق ... هيا بسرعة
لحظات كانا في الخان معا فأكمل نجاح... شعرت أن هناك من يرقبني ويتبعني، إن شعر جسمي يقف حين اخبرك بالأمر وهو نفس الاحساس الذي كان ينتابني من قبل حين كنت مطاردا ومطلوبا... لا اخفيك شعرت بالفزع حتى تملكني الهلع وفررت... فأنا لا أريد ان اعود الى تلك القبور المظلمة مرة أخرى...

كريم: لا أدري ما هو سبب شعورك بذلك لكن الأمور قد تغيرت وحرية التعبير والكتابة باتت رائجة، خاصة بعد انتشار النافذة والشبكة الألكترونية مع تعدد الوسائل الاعلامية، حتى بات كل من يريد يمكنه ان ينشر ويكتب ما يشاء بأسم وهمي او حقيقي فلا خوف بعد ولا وجل ... لعلك تتخيل ما رأيت!!؟

نجاح: لا يا كريم... لم اتخيل وانت تعلم جيدا مدى قدرتي على التمييز بين الاشياء ومما خبرت بت كالكلب البوليسي أشم رائحة الخنازير المنتنة التابعة للوالي عن بعد...

ضحك كريم وهو يقول ضاحكا: كلب بوليسي ... أجزم أنك تمتلك الصفات الحسنة كلها التي يملك، هيا اطلعني على ما لديك فأنا كلي شغف لقراءة مخطوطك الذي ززجت بسببه سراديب معتمة...
ترى هل اكملته؟؟؟

نجاح: لقد فعلت وها هي الأحداث كما توقعتها حين ذكرت لك ما سيكون وما تؤول إليه الأمور، فقد كان تحليلي للأمور بشكل حسابي ومنطقي، مرت العديد من الاعوام ولا زلنا رغم التصريحات الرنانة في المربع الاول ولكن التغيير هو الأضلاع فبين فترة وأخرى يلتف الامر على الشعب ليشاهدوا ضلعا جديدا وعناوين مختلفة لكن الضلع هو نفس ضلع المربع الذي لا يمكنك الخروج عنه، تماما كصندوق الاحاجي او مكعب الالوان المختلفة حين يُرمى بين يديك لإلهائك بتشكيل ألوانه... أما صناع وانتهازي الفرص والمربعات يعبثون بمقدراتنا بأيادينا واصواتنا شأننا كالأغبياء، نتلقى الصفعة وما ان نتحسس مكانها لتبرد حتى نغصب لوهلة ونعود لتلقي الأخرى بمحسوبيات... وهذا يا صديقي ما دمر الوطن فئات جاءت بتعددية الى جانب المفسدين الذي تغيرت ملابسهم وهم اتباع الوالي القديم ليتنصبوا من جديد تحت متغيرات بلهاء لا تخطو بنفسها قيد أنملة..

أما هذه المخطوطة كانت سبب عزلي عن العالم، فكرة احملها عن الحرية في زمن الجلاد... أي جلاد وكيف يمكن الخلاص من سياطه، إننا يا كريم بحاجة للقلم والفكر مدعوما بوعي والثقافة، فالزمن رغم اغتيال حريات التعبير بوجوه مغايرة للماضي لكنها لا زالت تترصد من يكتب ويثير ولو زوبعة صغيرة، فلا لاتنسى أننا في وقت ضربت اليد الغربية على جحور كانت تخفي الكثير من العقارب والثعابين التي نامت في جحورها اعوام طوال مدعية أنها تصارع الجبت والطاغوت من ظلمة موحشة، رغم انها ترتاد ليالي الأنس في فينا كما تقول اسمهان هههههه... اعتذر لقد جرني الحديث بعيدا، ثق يا كريم ان هذه المخطوطة مهمة لما تحمل فيه من اسماء ايضا تبرثنت في ذلك العهد الأغبر ومتبرثنة حتى هذا الوقت .. إقرأه بعيدا عن عيون الأخرين وإذا اقتنعت لك حرية النشر إن رأيت انه لا يؤثر عليك او يهدد حياتك...
كريم: ضاحكا يا لك من مجنون... اقول لك لقد تغير الزمن لكنك مصر على خوفك
نجاح: كأنه لم يسمع عبارة كريم الأخيرة فقال سأذهب الآن ، سأأخذ هذا الكتاب معي لقرائته...

كريم: حسنا كما تشاء الى اللقاء

خرج نجاح وهو يتلفت بسرعة يبحث بغريزة الكلب عن خنزيز يتبعه، صخب واصوات باعة وحديث جانبي وملاعق تتراقص في بطن كاسات الشاي، ودخان متصاعد لا يمكن تمييز شكله أو لونه وحتى رائحته بعد إن أنغمس بين مشويات لحوم حيوانية وبشرية، أدخنة مقاهي وانفاس بشر وحياطين ضاقت بكل ذلك لكنها تدعو الله ان يصبرها على بشر يتناسون أن الحياة ابعد من جلوس على مقاهي او اكل بضحكات كاذبة ولعب الدومينو والطاولي لتسلية فكوك بأضراس ربما هرمت هي ايضا من كثرة عك بفك...

شاح بنظره بعيدا الى تلك البقعة الميتة.. رصده مختلسا النظر وهو يقول : ها هنا انت يا ابن الخنزيز .. تراك ماذا عازم عليه لتلحق بي؟! زج بنفسه بين صفوف متراصة وتارة يدخل محال مدعيا الشراء، لكنه تعب من هذه اللعبة، جلس على احد المقاهي وهو ينادي شاي دون سكر... فالحياة حلوة خاصة ان التغيير قد اسبغ علينا الكثير من العسل فما عدنا نشرب الشاي بالسكر... ووضع الكتاب الذي أخذه من كريم على الطاولة وهو يتلمسه
استغرب من كانوا جالسين بقربه لكنهم لم يعلقوا على ما سمعوا...

أما ذلك المترصد فقد جلس الى خلفه ولا زال يتحسس خاصرته التي حملت مسدسه الذي يريد ان يغتال كل مفردة يمكنها ان تثير تساؤل في أدمغة شاردة...

شرب نجاح الشاي ووضع قيمته على الطاولة...وما ان قام أمسكت يد بعنوة به وسط زحام وهي تقول له: لعلك حسبت انك ستهرب بما تفكر به وتعرف... لا أظنك ستستطيع لقد صدر الامر بشأنك

سقط نجاح دون الكتاب الى الارض دون ان يصرخ ... لكن من سمع دوي اطلاق النار بفضوله المعتاد جاء ليصبغ وجهه بالدم والدخان الذي اعتاد ان يفعل كلما سمع او شاهد نفس الحادث حين يتكرر بشكل أو بآخر...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى