الأحد ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠
بقلم محمد زكريا توفيق

اضراب العمال والعصيان المدني في مصر القديمة

ماعت، هي إلهة العدل والحق. إلهة الجودة والتوازن والانسجام والاتقان والسلوك القويم، الشخصي والمجتمعي في مصر القديمة. هي السلام الاجتماعي بين الأفراد، هي الوفاق بين الحاكم والمحكوم.

الحاكم وفقا لماعت، يجب أن يقوم بواجبه ويتأكد من أن المحكومين يتعاملون بالعدل والإنصاف وينالون حقوقهم غير منقوصة. الحاكم من واجبه أن يبذل قصارى جهده حتى تبقى حدود البلد آمنة، ولكي تظل الطقوس الدينية قائمة مرعية.

ماعت هي التي تضمن للشعب الخير، وللأرض الماء وللزرع النماء. هي التي توفر لكل فرد عمل ومكان مرموق في المجتمع، حتى يحيا الجميع حياة محترمة.

في أوقات معينة، تمر بالبلاد ظروف صعبة خارجة عن الإرادة. عندما يجد الحاكم صعوبة في الحفاظ على السلام الاجتماعي والانسجام الذي تمثله ماعت. حدث هذا خلال المملكة الجديدة (1570-1069 ق م)، عندها قام أول إضراب عمالي وعصيان مدني عرفه التاريخ.

رمسيس الثالث (1186-1155 ق م)، هو آخر الفراعنة العظام في المملكة الحديثة. دافع عن حدود مصر، وأقام العلاقات التجارية مع الدول الأجنبية، ورمم وجدد المعابد والآثار الهامة بالبلاد. أراد أن يذكر في التاريخ كملك عظيم مثل رمسيس الثاني (1279- 1213 ق م).

لقد نجح رمسيس الثالث في ذلك في بداية عهده. لكن الأمور لم تسر كما ينبغي ولم تكن على مرام. فقد قامت شعوب البحر بغزو واسع لمصر، مما تسبب في أزمة اقتصادية كبيرة.

لقد حاولت شعوب البحر عزو مصر مرتين من قبل، خلال فترة حكم رمسيس الثاني وخليفته ميرنبتاح (1213-1203 ق م)، لكنهم فشلوا في ذلك. هذه المرة، كان الغزاة أكثر عددا وعدة. جاءوا بعائلاتهم وثيرانهم بهدف الغزو والاستيطان. في وقت، كانت فيه موارد رمسيس الثالث الاقتصادية بسبب ظروف الري وشح المياه لم تكن كافية.

مع ذلك، قام ببسالة بالدفاع عن مصر، ببناء وتحصين القلاع على طول الحدود وفي المناطق الاستراتيجية الهامة داخل البلاد. وقامت قواته البحرية ببسالة بصد هجوم السفن الغازية.

لقد قام بالتجنيد الإجباري لكل القادرين على حمل السلاح في جميع أنحاء البلاد. ثم تشاور مع جنرالاته لاختيار أفضل الطرق لهزيمة العدو في البحر. انتظر حتى اقتربت سفن العدو وصارت في مرمى الرماة، وقبل أن تكون قادرة على إنزال الغزاة على الساحل.

نجحت خطة رمسيس الثالث وهزمت شعوب البحر في معركة بحرية. قتل الكثير من المهاجمين الذين كانوا تحت وابل من سهام الشاطئ، أو ماتوا غرقا عندما انقلبت بهم سفنهم.

لكن الخسائر المصرية في الاشتباك البري كانت باهظة. نقوش رمسيس الثالث تركز على المعركة البحرية عند مصب نهر النيل، لكنها تصمت عن المعركة البرية وخسائرها الكبيرة في الأرواح. لقد نتج عن هذه الحرب اقتصاد ضعيف بسبب نقص الأيدي العاملة من صناع وتجار ومزارعين.

مع ذلك، يعتبر انتصار رمسيس الثالث على شعوب البحر انتصارا مذهلا. يضاهي انتصار رمسيس الثاني في قادش عام 1274 ق م. تبعا لذلك، وتماشيا مع تعاليم ماعت، قام رمسيس الثالث بجولة شاملة من الجنوب إلى الشمال لتجديد وترميم المعابد. ثم قام أيضا بتعديل في قوانين الضرائب وحرص على أن يقوم كل مسؤول بعمله على أحسن وجه. بعد ذلك، أمر بإلغاء الطقوس التي لا تتوافق مع التقاليد.

كل هذا، لأن الفرعون من واجبه العمل على الارتقاء ببلده حتى تبقى في المكانة التي تليق بها في المملكة الحديثة. إلا أن كل هذه الجهود لم تكن كافية. فتكلفة الموكب المرافق للملك أثناء جولاته في مصر كانت كبيرة. استنزفت خزانة الدولة، كما أن التحسينات والترميمات للمعابد كانت أكبر من قدرة خزانة الدولة.

لذلك أرسل رمسيس الثالث عدة بعثات تجارية مع الدول المجاورة. منها رحلة استكشافية إلى أرض بنط (أريتريا أو الصومال)، وهي دولة غنية بالموارد، لم يزرها المصريون منذ عهد حتشبسوت (1479-1458 ق م). كان ينبغي لهذه الجهود أن تساهم في اصلاح الحالة المالية للدولة، وهو الأمر الذي لم يحدث. بسبب نفقات الحرب ونقص العمالة وضعف الإنتاج، وفساد بعض المسؤولين الحكوميين.

ظل رمسيس الثالث يخدم شعبه بإخلاص طوال مدة حكمه. مع اقتراب عامه الثلاثين في الحكم، أرادت الدولة إقامة مهرجانا كبيرا لتكريمه، كملك عظيم وبطل قومي حمى البلاد من غزو خارجي. لكن قرار إقامة مثل هذه الاحتفالات، باهظة التكاليف في ظروف اقتصادية صعبة، لهو قرار خطير حقا.

بدأت الاضطرابات عام 1159 ق م، قبل مهرجان التكريم بثلاث سنوات. عندما تأخرت الأجور الشهرية التي كانت تدفع للعمال والحرفيين العاملين في المقابر في دير المدينة في شكل حصص من الحبوب (جراية). الكاتب "أمين ناخت" قام بالتفاوض مع المسؤولين المحليين لتوزيع شيئا من الحبوب على العمال، ولكن هذا لم يكن سوى حل مؤقت لمشكلة الأجور المستحقة.

بدلا من حل مشكلة الأجور من جذورها، كرس المسؤولون جهودهم للتحضير للمهرجان الكبير. لذلك تأخر دفع أجور العمال العاملين في دير المدينة شهر آخر، ثم آخر، حتى انهار نظام دفع الأجور تماما. مما أدى إلى أول إضراب عمالي وعصيان مدني عرفه التاريخ.

عندما رفض العمال الانتظار أكثر مما يجب للحصول على أجورهم، ألقوا بأدواتهم وآلاتهم وساروا نحو المدينة وهم يهتفون "نحن جائعون". ثم توجهت المظاهرة إلى المعبد الجنائزي لرمسيس الثالث. بعد ذلك، ساروا واعتصموا بالقرب من معبد تحتمس الثالث.

لم يكن لدى المسؤولين المحليين أي فكرة عن كيفية التعامل مع هذه الحالة، التي لم يحدث شيء مثلها من قبل. لم يجد المسؤولون سوى تقديم الحلوى للعمال المضربين، على أمل نيل رضاهم واقناعهم بفض الاضراب والعودة لديارهم.

إلا أن الرشوة بالحلوى لم تكن كافية. في اليوم التالي، استولى العمال على البوابة الجنوبية للرمسيوم، وهو المخزن المركزي للحبوب في طيبة. ثم اقتحم بعضهم الغرف الداخلية مطالبين بأجورهم. هنا، اتصل مسؤولو المعبد برئيس الشرطة، وهو رجل يدعى منتومس.

طلب منتومس من المضربين مغادرة المعبد والعودة إلى عملهم، لكنهم رفضوا طلبه. انسحب منتومس عاجزا وترك المشكلة لكي يحلها كبار المسؤولين. أخيرا بعد مفاوضات بين الكاهن والمسؤولين والعمال المضربين، تقرر تسليم العمال رواتبهم المستحقة. عند عودة العمال إلى ديارهم، اكتشفوا أن رواتبهم التالية لن تصرف لهم في مواعيدها.

مرة أخرى أضرب العمال. هذه المرة، قاموا بالاستيلاء على وادي الملوك وقطعوا الطريق للوصول إليه. هذا يعني أن أي كاهن أو أي فرد لن يتمكن من تقديم قرابين الطعام والشراب للمتوفي.

هذه إهانة بالغة وخطيرة لذكرى الأموات المدفونين في وادي الملوك. عندما جاء المسؤولون مع شرطة مسلحة وهددوا باستخدام القوة لفض الاعتصام، هدد أحد المضربين بأنه سيلحق الضرر بالمقابر الملكية إن استخدمت الشرطة العنف.

ظلت الإضرابات مستمرة لمدة ثلاث سنوات متتالية. في كل مرة، لم يتغير الوضع. عندما لا يحصل العمال على أجورهم، يقومون بالإضراب عن العمل والعصيان المدني، فيجبروا المسؤولين على دفع أجورهم. يتكرر نفس السيناريو في كل مرة.

كانت إضرابات عمال المقابر والحرفيين مؤثرة بشكل خاص. لأن هؤلاء العمال هم من بين أعلى الأجور والأكثر احتراما في البلاد. كانوا جميعاً مدركين تماماً لمبدأ ماعت وواجبهم تجاهه. لذلك اختاروا الوقوف ضد ظلم السلطة. ما بدأ كشكوى من الأجور المتأخرة تحول إلى احتجاج على الفساد والظلم. قرب نهاية إضراباتهم لم يعد العمال يهتفون بالتعبير عن جوعهم بل عن القضية الأكبر:

"لقد أضربنا لا بسب الجوع، ولكن بسبب ظلم السلطة وعدم تطبيقها لمبدأ ماعت." أضربنا لكي نأخذ أجورنا وهذا حقنا.

لقد ألهم نجاح الإضرابات التي قام بها عمال القبور والحرفيون الآخرين على أن يفعلوا نفس الشيء. نجاح العمال، جعلهم يستمرون في الإضرابات والعصيان المدني طوال فترة حكم رمسيس الثالث. مما أجبر الحكومة أخيرا على الرضوخ وزيادة أجورهم من الأغذية والإمدادات.

صوت العمال بدأ يسمع. هذا التكتيك كان جديداً على جميع رموز السلطة في مصر القديمة. لم يكونوا مستعدين تماماً للتعامل مع الإضرابات والعصيان المدني بأي شكل من الأشكال. لذلك كانوا مجبرين على استرضاء العمال بأي شكل. إضراب العمال وعصيانهم المدني في مصر القديمة أيام رمسيس الثالث، هو الأول من نوعه في التاريخ المدون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى