الخميس ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

اعتذار إلى فيروز

تلفظ سيارات الأجرة ما في جوفها من مسافرين عند أقرب مكان يمكن الوصول إليه قبل أول نقطة تفتيش. قبل أن تفكر بتجاوز الحاجز عليك أن تمارس اللعبة ذاتها، تقف في ظل شجرة يتيمة، تراقب المشهد بكل تفاصيله، تقرأ الوجوه بنظرات سريعة لتقدر خطورة الطريق. تفضل هذه الطريقة على غيرها لأنها أسرع طريقة تتيح لك النجاة من موت جائع ينطلق من إحدى نقاط المراقبة وما أكثرها. تهمس:"عليك أن تسبق الموت بخطوة لتنجو، النظرة تسبق الكلمة وبينهما صراع بقاء..."

وجوه مشدودة متوترة تعبر الطريق الترابي، نهار حار تتحول فيه الطريق إلى سيجارة يتصاعد غبارها كلما ازدادت الشمس سطوعا. خلفك تماما فتى يافع يدفع عربة تحمل امرأة عجوز، يسرع حينا كلما تذكر الأخطار المحيطة، ويقلل من سرعته عندما يتناهى إلى مسامعه تأوهات العجوز حينا اخر... أمامك على بعد أمتار تجلس أم تلتقط أنفاسها، ترفع بيد طرف ثوبها لتحمي طفلها من شمس حارقة، وبيدها الأخرى تحاول أن ترشي بكاءه بمسح وجهه المغبر. تتابع الوجوه حضورها، تحاصر روحك المتعبة، تشعرك بالعجز التام، تبتلع الهواء المغبر بحثا عن نقطة حياة، لا تلبث أن تلفظه ألما وحزنا.

تواصل سيرك تحت غيمة ثقيلة، تزاحُم الوجوه يعيد تشكيلها بطريقة عجيبة، اهات العجوز تصنع الذيل، وبكاء أطفال يواصل ضغطه على الوسط فينبعج جناحان أسودان، تنظر إلى السماء فتشاهد الغيمة غرابا أسود يطارد ظلك...

على حين غرة، وأنت تتقلب بين اليقظة والهذيان، تنساب إلى مسامعك موسيقى هادئة، تنتابك رجفة راعشة، تتوقف لعلك تهتدي إلى مصدرها، تزداد الموسيقى وضوحا محملة بكلمات "يا راعي القصب مبحوح جايي على بالي شروقي، قله للقصب ما يبوح بالسر اللي بعروقي...." تحس بخرير الماء ينساب في صحراء روحك، الطائر الأسود يتحول إلى فينيق يبحث عن لحظة الميلاد، فيروز تقترب أكثر فأكثر، تشاهد حصانا أبيض قويا يجر عربة مظللة تحوي صفين من المقاعد، والحوذي شاب في مقتبل العمر، يعتمر قبعة عريضة تقيه حر الشمس، يحث حصانه على العدو بهمة ونشاط قبل حلول خطر داهم.

العربة تمر بقربك، الأغنية لاتزال تمارس تأثيرها السحري، تلمح مسجلا يصدح بصوت فيروز من إحدى جرابين يتدليان على جانبي الحصان... تتساءل: فيروز هنا، لماذا لا تهدأ الحرب قليلاً إذن؟! يتناهى إلى مسامعك أصوات الجنود، وهم يصرخون بأصوات لغة غريبة، تصلك الإجابة بقسوة، تنظر إلى السماء مرة أخرى فترى الفينيق يبتعد مع فيروز بحثا عن لحظة الميلاد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى