السبت ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم ميمون حرش

افتحـوا صدوركم لطلقاته الشعرية..

من مسدس مسموع صوتُه يضغط شاعر شاب تمسماني على الزناد، فتخرج طلقات ليست من نار، لكن من كلمات، كل واحدة بحجم رصاصة، لا تردي الآخر/ القارئ قتيلا بل تسعفه على ولوج عوالم شعرية من طراز ريفي رفيع، تهبه ،بدل الموت، العيش ضمن كوكتيل من البداعة، والروعة، وتمنحه تأشيرة الدخول لجنة من الكلمات الأثيرية لا يجف جوانبها أبدا لأن الاخضرار هو ديدبانها تهبه ألفاظ ينتقيها الشاعر دوما بلسان فرنسي فصيح، تصبح فيها كل كلمة شرطية تعمل على إشاعة النظام بين تراكيب من نوع خاص تستمد تربتها من تمسمان حيث الخبز والأمان ،أما سمادها فمبدع يأبى إلا أن يمنح الخصوبة للمعاني من أجل أن تنداح، ولكي تمر من القلب لتستقر في العقل.

من جبال أنوال، ومن تربة "إشنيون" بإقليم الناظور، فوق أشجار باسقة في كرونة، التف الفنن، كبر،واشتد وهيأ لنفسه أيكة خاصة، من داخلها تعلم كيف يغرف من أوراقها المعنى الجميل ،يغلفه في ألفاظ فرنسية مولييرية؛ عشقه للكلمات لا يوازيه سوى عشق آخر لرائحة الأرض التي تغزو القلوب، شكل منها مسدسا اختار لطلقاته حطبا من نوع آخر، إنه الشعر الذي يغرف من كرونة في بهجتها، وصفاء سريرة ناسها كل المعاني الجميلة، ينتقي كلماته كما يفعل فلاح ريفي مع نباتاته في ضيعته.

في تمسمان الخبز و الأمان، وفي تمسمان ولد الرجال ليس من باب الذكورة، لكن بمعنى الأريحية، والشهامة، والإيثار.

أرض تمسمان ولادة،أرض تمسمان ليست حقيبة، أهلها يسافرون كأيها الناس، يضربون في الأرض نعم، لكنهم لأصلهم يخلصون ،وللجذر يعودون، وفي الحقيبة حفنة تراب،وغصن زيتون، و إبالة من تبن.

وفي تربة تمسمان تربى أطفال من طينة شكّلها هوى الريف، وجباله الوعرة لتنبت رجالا تركوا بصماتهم على مر التاريخ، تركوا الأثر في الغــرس، العطاء، والبناء، وأعطوا المثال على أن الريف الذي كان يُــعـد من المغرب غير النافع في تقسيم استعماري فج،والذي رفع أنصاره الأجلاف راية الطوق على كل ما هو ريفي أما زيغي، وفي هذا الريف الذي وُصف أبناؤه بالأوباش .. هذا الريف برهن على أنه ليس نافعا فقط، إنما هو "دولاب" حرص زمنه على تخطي الصعاب،بعد أن تعلم أولاده درسا مهما وهو أن مثل هذه العقليات لا ينفع معها سوى الاقتحام، وهذا ما وقع بالفعل؛ لقد اقتحم أبناء الريف عوالم كثيرة كانت موصدة، فضوا بكارتها، لإثبات فحولة في الزرع ليحصدوا بعد كل جفاف، ومحول كل ما هو جميل رغم الداء والأعداء.

ولنا في الريف شهود كثيرون، العريس فيهم متوج لأنه تعلم من أجداده أن أرض الريف، وتمسمان منها،في القلب،فما أكثر عرساننا، اقتحموا المستحيل، ناضلوا من أجل عروس مخضبة بحناء عبد الكريمي اللون،و كرمى لمدام ريف، منحوا لها نبتة الخلود بعد مغامرات سندبادية البحر،وجلجامشية الفيافي دون أن تضيع كما حصل مع جلجامش، إنما حرصوا على بقاء فتيل شمعة الريف منيرا ، يرسل ضوء قد لا يكون كاشفا في كل الأحوال، لكنه يمنح الرؤية مع ذلك.

هل أحتاج لهذه المقدمة الطللية لأتحدث عن شاعر تمسماني شاب، آثر اللغة الفرنسية وسيلة للإبداع؟

لقد برهن الشاعر التمسماني محمد الروجي في إنتاجاته أنه أحد أبناء موليير رغم أنه ولد في قلب إيشنيون بتمسمان، وبهذا يكون قد كسر- ومعه آخرون- قاعدة أن أهل الريف لا يجيدون الفرنسية، إنه رأي أرعن، أصحابه لا يقرؤون التاريخ حتما.

صدر للشاعر التمسماني محمد الروجي ديوانه الأول ، آثر أن يسميه " طلقات شعرية " ،من دار نشر فرنسية.. ، يتضمن بين دفتيه خمسة وثمانين قصيدة نسجت بلغة موليير المخملية، أغلبها يراهن على موضوعات معيشة، وقضايا مطروحة بشكل صحيح دون مواربة، ودون ماكياج، خص شاعرنا الشاب قصائده لموضوعات شتى لها صلة بالمهاجرين ، ومشاكل الأمازيغ، فلسطين ،السلام، الحرب، الحب،الطفولة، المرأة، الطبيعة، الجمال، ظاهرة تغير المناخ وتألم الأرض، علاقة الآباء بأبنائهم... كلها موضوعات لا أقول جديدة، ولكنها مُعالجة بنفس جديد، من شاب تشغله أسئلة كثيرة، ويطرح القضايا لنفكر معه.

القارئ حين يمتح من عيون قصائد محمد الروجي ، تنال منه بعض الطلقات، ترميه بضوء كاشف لتزيل عن العيون ما يعلق بها من شوائب، والرؤية الضبابية للأشياء، تحتاج فعلا لطلقات من كلمات قوية، والطلقة/ الكلمة التي لا تردينا قتلى تعمل على تكريس فعل الأمر فينا وهو " عيشوا".

نعيش حتى نرى الأشياء على حقيقتها، نعيش في الدنيا ليس كمستأجرين إنما كما لوكانت دار أبينا كما يقول الشاعر المناضل ناظم حكمت ؛ الشعر يوقظ الحس الوجداني فينا،نتحرر بسببه، ويكبر شيء ما فينا، في دواخلنا نحرص على أن يبقى كبيرا كما الوطن فينا، نعم، إن الشعر يفعل ذلك، وإن لم يكن فهو ليس كذلك، بل يجب ألا يكون.

ماذا في دواوين شعرائنا غير الكلمات؟

كلمات، كلمات، وكلمات، ينثرها الشعراء في كتب عصية على النسيان، تنوب عنهم ،هم تفنى دهورهم وهي بواق ،والكلمات التي لا تخزنا كما الإبر، لا تشكل سوى عبء ننوء بسببها. الكاتب فرانز كافكا آمن بقوة الكلمات، واعتبرها إبرا، إن لم تقم بفعل الوخز فهي موات، ولن نكون نحن تاليا سوى جثث محنطة إن لم نتفاعل مع قوتها وهيمنتها.
تساءل الروائي الكبير عبد الرحمان منيف بلسان أحد أبطاله في رائعته " الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" قائلا:

" هل الكلمة يمكن أن تواجه الرصاصة؟ وهل تستطيع الأوراق الهشة أن تحرر سجينا واحدا أو أن تفتح كوة في أصغر سجن من هذه السجون العربية؟" ص 14- 15.

إن الكلمة الصادقة قد لا تظهر نتائجها بسرعة، ولكن حين تستعير قوة الكلاشينكوف مثلا فلا بد أن تتحول إلى قوة، وتكون قادرة على فعل ما لا تقدر عليه الألغام المزروعة، وإذا كانت هذه تصنع العاهات، فإن الكلمات تصنع الإرادة في أبهى صورها، وتعمل على التصدي لفيروس الخوف الذي يعشعش في العقول.

محمد الروجي كان يعي قوة الكلمات في منح أشياء كثيرة يعدمها المرء، لذلك اختار حتما قرن كلماته بمعنى الطلقات في ديوانه الشعري.

ملايين الرصاصات التي ملأت الدنيا ضجيجا وعجيجا انتهت إلى الصمت المطبق، وملايين الأسلحة الفتاكة، صنعت العاهات صحيح، وتركت أثرها السيء نعم، لكن وقع طلقات الكلمات حين تكون صادقة تصبح أقوى من كل الأسلحة مجتمعة،تغدو ترياقا لكل سموم الفوهات في كل زمان، وفي كل مكان ،وإلا كيف نفسر همجية الصهاينة، وكل أعداء الكلمة الحرة النزيهة على اغتيال حَمَلة الأقلام على مر التاريخ إن لم تكن كلماتهم هي السبب، لماذا يحرصون على إخراس أصواتهم؟. إنها تمنح الرؤية يا سادة، والعدو يكرس العمى، وبون كبير بين عاشق للنور، وبين من يشبه دراكولا عاشق الظلام.. يموت صاحب القلم، ولكن كلماته باقية، محتفظة بنفس القوة.

وأنا أقرأ بعض قصائد شاعرنا محمد الروجي استحضرت كل هذه المعاني السامية للكلمات، ولا سيما التي تركز على الريف، كلماتها ليست إبرا فقط ، بل طلقات كما أحبَّ أن يسميها.

لا زلت أتذكر كل شيء عن محمد الروجي حين قمت بزيارة قرية "إشنيون" ذات شهر من عام 1992 نزولا عند دعوة حبيب، قضيت فيها ثلاثة أيام ضيفا مكرما، حينها كنت ألتقي بشاعرنا وهو مراهق بعد، وفي كل الأوقات أألفه منهمكا في ضيعته، إما يحفر أو يغرف ماء، أو يحمل على ظهره إبالة/ كومة من الحطب... في مخيلتي هكذا كان يتشكل، بهذا الشكل كنت أتخيله،وقد كبر الآن وحط ثقل ما كان يحمل لينضج في أتون كلمات بديعة بلغة فرنسية جميلة كما روحه التي تعشق الجمال في كل شيء وتنتصر له.

جميل أن نتحدث الفرنسية، وجميل أكثر أن نبدع بها، ما أكثر الشعراء الذين اختاروا لشعرهم شيطانا فرنسيا، وبالنسبة لي أشهر هؤلاء هو محمد خير الدين، الشاعر المتمرد الذي شغلنا بإبداعه ، وكان بحق الرجل المغربي الذي استعار لسانا موليير للتعبير عن تمرده، وجمال ما كان يؤمن به من قضايا إنسانية بتوقيع إلهام فرنسي.. لكن من يتحدث الريفية ، ويستعير لسان موليير فهم قلة مثل ضغث على إبالة، وها هو محمد الروجي الشاعر الريفي التمسماني يملأ الفراغ ويثبت بأن مدام ريف ولادة، ومن بين أولادها من يستعير صوت موليير ليثبت أن الإبداع لا عنوان له محدد، إنما حادِيه هو الإبداع في أبهى صوره.

لا زلت أتذكر محمد الروجي وهو طفل بعد، كيف كان يجلس في الفصل بين تلامذتي بهدوء صاخب في الإعدادية الثانوية ابن بطوطة بكرونة في تمسمان، كان ينذر بولادة ما،لم يكن يتكلم كثيرا، وحين كان يحس باهتمامي به، ويحس بالطمأنينة لم يكن يتكلم حين يتحرر وجدانيا سوى ليقول أمورا ذكية، ولافتة. أما حماسه في إنجاز ملف ثقافي كنت أكلف تلامذتي بإنجازه، لم يكن يثنيه شيء أبدا، كان يقبل على عمله بحماس عجيب، ولاسيما الملف الخاص بالقضية الفلسطينية..بكلمة كان مرشحا لأن يكون ماليس هو في ذلك الوقت، والغريب أنه قد خدعنا بهدوئه ، أعترف أنه خدعنا من هذه الناحية.. تراه كان يتمخض، وكنا ننظر إليه وهو يرمقنا بعينيه الزرقاوين متحديا ما ندري، وما لا ندري... تمخض فولد لسان موليير ومده ساخرا لمن يدعي قصور أهل الريف في الإنتاج بهذه اللغة.

خمسة وثمانون قصيدة في ديوان " طلقات شعرية" خصني الشاعر محمد الروجي بأن أهدى لي واحدة باسمي، وهذا أمدني بالطاقة حقا، ومنحني قوة الشعر في الفرح كما الأطفال في الأعياد.

خمسة وثمانون قصيدة رقم ليس سهلا أبدا حين يتعلق الأمر بمنح الرؤية عن طريق الكلمات، والقارئ لهذه القصائد لن يخرج سوى بنتيجة واحدة وهي أن محمد الروجي يحمل هما حقيقيا، له صلة بجذوره خاصة، أقصد القضايا المتعلقة بالريف، وأهله.. إنه هم يثقل كاهله، ويريد عبر قصائده أن يشركنا معه.
ومن بين أجمل القصائد التي خص به الريف هي : " أيها الريف" و "عودة إلى أرض أجدادي"، و مْحمَّد ، أبي، وأمي...في هذه القصائد ترتفع جذوة الإيقاع، وتتوزع الموسيقى في سيمفونية بديعة تـُدخل القارئ في رفق وإثارة إلى جو القصيدة في أرقى المعاني حول ما يشغل أهل الريف من قضايا؛ وقصائد شاعرنا عن الريف تحيل مجتمعة على المفهوم الذي يريده، وهو ترديد لما هو قار في الذاكرة الجماعية عند أهل الأمازيغ لأحداث لا يمكن التغاضي عنها.

ورغم إيمانه بالقضية التي يكتب من أجلها فهو لا يقترح حلولا لمشاكل الريف، إنما يطرح قضاياه عبر لفت القارئ إلى الأشياء من حوله، إنه يطرح أسئلة، الجواب عنها متروك للقراء حتى يتنصروا للحق، وللجمال، وللحرية.

شاعري،

صدرونا مكشوفة وما عليك سوى أن تضغط أكثر على مسدسك، فالطلقات التي تأتينا من تمسمان حيث الخبز والألمان لن تردينا قتلى لأنها لن تصيبنا في مقتل، بل العكس هو الذي سيحصل حين ستكرس فينا كل الأشعار فعل الحياة لا فعل الموت.

سنحيى لنعيد قراءة أوراقنا نحن الأمازيغ، والشعر وسيلة ستمنحنا المعرفة والمتعة، ومنّا نحن بذل الجهد، ومنا الغرس كما أجدادنا كانوا يفعلون.

الشعر سيفتح عيوننا، ويلفتنا إلى الأشياء من حول ريفنا، ومن حول الدنيا كلها، سيجعلنا نفكر في تقييم حيواتنا ليس كيف كانت فقط بل كيف يصح أن تكون غدا في أبهى صورة.

شاعري،

بكلمة: أمتعتنا بديوانك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى