الخميس ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم صبحي غندور

الأمَّة الأميركية التي يحبّها العرب

التجربة التاريخية للأمّة الأميركية لديها الكثير من الإيجابيات التي تحتاجها الآن الأمّة العربية. وقد أخذت الدول الأوروبية بالنموذجيِّ منها فعلاً حينما تحرّرت من المرحلة العنصرية النازية/الفاشية، ثمّ حين اتّجهت إلى التعاون والتكامل والاتحاد أملاً منها بالوصول إلى حالة «النموذج الأميركي»، كأمّةٍ موحّدة قائمة على ولاياتٍ متعدّدة ونظام دستوريّ ديمقراطي يحفظ اتحادها.

العرب، أكثر من الأوروبيين، هم الآن بحاجة إلى هذا «النموذج» للأمّة الأميركية، وإلى خلاصات تجربتها التاريخية. فالأمّة الأميركية لم تكن موجودة أصلاً كأمّة، قبل تحرّرها من التاج البريطاني ثمّ قيام الاتحاد الدستوري بين ولاياتها الثلاث عشرة التي شكّلت انطلاقة الولايات المتحدة الأميركية.

وإذا كان بعض العرب لا يقبلون بمنطق وجود (أمّة عربية)، فليأخذوا العبرة من نشوء الأمّة الأمريكية وتحوّلها إلى أقوى وأعظم أمم العالم المعاصر.

في التجربة "النموذجية" الأميركية محطات وخلاصات وأولويات، من المهمّ التوقف عندها:
 أولاً – مرحلة التحرّر: إذ قبل أن تكون "أمّة أميركية" كانت مستعمراتٍ يُشرف عليها التاج البريطاني ويعيش فيها مزيج من المهاجرين الأوروبيين، وخاصّة أتباع الإمبراطورية البريطانية الناطقين باللغة الإنجليزية. وكان هؤلاء المهاجرون يدفعون الضرائب للتاج البريطاني ويخضعون لهيمنة وسلطة عسكره وممثّليه على الأراضي الأميركية. فكان التحرّر من التاج البريطاني والدعوة للاستقلال عنه (4 يوليو 1776)، بقيادة جورج واشنطن وبمساعدة من الفرنسيين، هو البداية العملية لنشوء الأمّة الأميركية، حيث اختار المستوطنون في المستعمرات الاستقلال عن بريطانيا وخاضوا حرباً شرسة من أجل انتزاع حرّيتهم، تحت شعار: (عش حرّاً أو مت).

إذن الأساس في النموذج التاريخي الأميركي هو الحرّية بالتخلّص من الاحتلال ومن الهيمنة الخارجية، وبأنّ مقاومة الاحتلال من أجل الاستقلال هي حقّ مشروع لبناء أمّة حرّة.

 ثانياً – مرحلة البناء الدستوري: صحيحٌ أنّ التحرّر من الهيمنة البريطانية صنع "أمّة أميركية"، لكنّه لم يكن كافياً ليصنع "أمّة عظيمة" قادرة على النموّ والاستمرار والتقدّم. وصحيحٌ أنّ الثوار المستوطنين قد قاوموا معاً جنود التاج البريطاني، ونجحوا معاً في حرب الاستقلال الأميركي، واتفقوا معاً على العيش المشترك على الأرض الجديدة، في إطار اتحادي جمع ثلاث عشرة ولاية، لكن الصراعات سرعان ما ظهرت بين بعض الولايات، وجرى التنافس على الحدود والمياه والأراضي والثروات الطبيعية.. إلى أن حصل صيف عام 1787 مؤتمر فيلادلفيا الذي جمع بين الممثلين المنتخبين عن الولايات من أجل بحث الخلافات والحدّ من الصراعات، فإذا به كمؤتمر يتحوّل، حسب الوصف التاريخي الأميركي، إلى "معجزة" لأنّه أنتج الدستور الأميركي وما فيه من رؤى ثاقبة لكيفيّة الجمع بين الحفاظ على الاتحاد وبين البناء الديمقراطي السليم. وقد تمكّن الآباء الدستوريون الأميركيون في مؤتمر فيلادلفيا، ليس فقط من حلّ الخلافات بين الولايات، بل من ضمان استمرار اتحادها لاستيعاب ولايات أخرى مختلفة الموقع والأحجام، إلى أن أصبحت الأمّة الأميركية مؤلّفةً من خمسين ولاية تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي. وهي ولاياتٌ غير متساوية في المساحات وعدد السكّان والثروات، لكنّها متساوية تحت مظلّة الدستور بالحقوق والواجبات، ولا يخاف الصغير منها من الكبير المجاور.

ورغم النواقص الكثيرة – بمعيار الحاضر- بما كان عليه الدستور عند إقراره، لكنّه ترك المجال مفتوحاً للتطوّر مع مرور الزمن وحدوث المتغيّرات، حيث خضع الدستور لعدّة تعديلات ضمنت مشاركة المرأة والحقوق المدنية والحرّيات العامّة للأميركيين عموماً. وأصبح حكّام الولايات الأميركية منشغلين حصراً بأمور ولاياتهم، وتولّت الدولة الفيدرالية أمور الخارجية والدفاع وغير ذلك من الأمور التي تدخل في نطاق مسؤولية المؤسسات الاتحادية، مع مشاركة كلّ ولاية في هذه المسؤوليات من خلال مندوبين عنها في مجلسيْ الشيوخ والنواب.

وممّا يلفت الانتباه أنّ الدستور الأميركي يمنع الحكومة الاتحادية المركزية من التدخّل في صلاحيات الولايات الخمسين التي يتألف منها "الاتحاد الأميركي"، لكن هذا الدستور لا يمنع إطلاقاً الحكومة المركزية (الإدارة) من التدخّل في شؤون الدول الأخرى!.

 ثالثاً – مرحلة الدفاع عن وحدة الأمّة: لم يكن البناء الدستوري السليم كافياً وحده لضمان وحدة الأمّة الأميركية. فعلى الرغم من عدم وجود "مؤامرات خارجية" أو "أجهزة أمنية أجنبية"، فإنّ الاتحاد الأميركي هددّه خطر انفصال الجنوب عن الشمال، وحصلت عام 1864 الحرب الأهلية الأميركية التي استمرّت لسنوات وسقط فيها مئات الألوف من القتلى والجرحى، وبعد حوالي قرن من الزمن على الاستقلال وعلى "المعجزة الدستورية" في فيلادلفيا.

وكما كان جورج واشنطن هو رمز معركة الاستقلال، كان أبراهام لنكولن هو رمز المحافظة على الاتحاد الأميركي. فلم يسمح الجيش الاتحادي بانفصال الجنوب، وقاوم ذلك بالقوة العسكرية في حربٍ أهلية مدمّرة لمّا تندمل بعدُ كلّ جروحها. ولولا هذه الحرب لكانت أميركا الآن "أميركيات" متصارعة، ولانتهت "الأمّة الأميركية" وهي في المهد.

أين العرب من خلاصات هذه التجربة الأميركية الزاخرة بالدروس والعبَر؟ ولِمَ يحقّ لأميركا ما لا يحقّ لغيرها؟

لِمَ لا تقوم الولايات المتحدة الأميركية بحملة ثقافية وإعلامية في المنطقة العربية للتمثّل بإيجابيات "النموذج الأميركي"، من حيث التلازم بين التحرّر والاتحاد والبناء الدستوريّ السليم، بدلاً من دعم الأحتلال الإسرائيلي والتشجيع على تفكّك أوطانٍ عربية؟

لِمَ يأخذ بعض العرب بمطالب واشنطن السياسية فقط ولا يأخذون منها خلاصات تجربتها التاريخية العظيمة؟؟

لِمَ تحرّم واشنطن أيّة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، وهي عاصمة تحمل اسم من قاد معركة المقاومة والاستقلال الأميركي ضدّ الهيمنة البريطانية؟

لِمَ هدّدت واشنطن عام 1961 القاهرة، إنْ هي استخدمت القوّة للحفاظ على وحدة الإقليم الشمالي السوري مع الإقليم الجنوبي المصري في الجمهورية العربية المتحدة، بينما كانت الحرب الأهلية الأميركية مشروعةً حفاظاً على الاتحاد الأميركي؟!

إنَّ العرب يريدون لأوطانهم ولأمَّتهم العربية ما أراده الأميركيون لولاياتهم التأسيسية التي شكّلت نواة الأمَّة الأميركية:
 مقاومة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي وكافّة أنواع الهيمنة الأجنبية من أجل التحرّر الوطني والقومي الشامل، كما فعل الأميركيون ضدّ هيمنة التاج البريطاني.
 البناء الدستوري السليم المتلائم مع ثقافة الأمَّة العربية وحضارتها، والذي يكفل أيضاً بناء المواطنة السليمة ويضمن حرّيات المواطنين وحقوقهم في المشاركة بصنع القرار الوطني دون أيِّ تمييز.
 تكامل بين أوطان الأمَّة العربية الواحدة وتطوير صيغ العمل العربي المشترك وصولاً إلى النموذج الاتحادي الأوروبي، إن تعذّر الوصول في المستقبل القريب إلى النموذج الفيدرالي الأميركي الذي يجمع بين الولايات الخمسين المؤلفة الآن للولايات المتحدة الأميركية.
 حقّ رفض أيّة دعواتٍ انفصالية أو تقسيمية في كلِّ بلدٍ عربي، وتثبيت وحدة الكيانات ووحدة الأوطان ووحدة المواطنين.

إنّ مضامين الحرّية والعدالة والتكامل، والبناء الدستوري السليم القائم على المساواة بين المواطنين، هي مضامين موجودة أصلاً في تجارب إنسانية عديدة، وهي في تراثنا الفكري العربي الحضاري الذي غاب عن التطبيق منذ قرونٍ عديدة. وقد يكون أجدى للعرب، ما دامت "الحلول" الآن لا تأتي إلا "معلّبةً" من الخارج، أن يطالبوا واشنطن بالعمل على تطبيق "النموذج الأميركي" نفسه في المنطقة العربية.

لكن المحزن أنّ العرب لم يستفيدوا من دروس تجاربهم التاريخية، فكيف بهم وتجارب الآخرين؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى