الأحد ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم جميل حمداوي

الإرشادات المسرحية

تقديم:

تشتق كلمة الإرشادات المسرحية من الكلمة اليونانية، وتعني: التعليم، والتثقيف، والتكوين. ولم تكن الإشارت المسرحية معروفة في العصور الكلاسيكية، بل أصبحت ميزة أساسية للمسرح الحديث منذ منتصف القرن التاسع عشر. وبعد ذلك، تعاظم دورها فنيا وجماليا، إلى أن اصبحت تلك الإشارات الركحية (المسرحية) مكثفة تمطيطا وإسهابا وإطنابا، فلم تعد تلك الإشارات الخارجية أو الداخلية مفردة أو عبارة أو جملة فحسب، بل صارت فقرة ونصا كما في مجموعة من النصوص المسرحية التجريبية الحديثة والمعاصرة.إذا، ماهي الإشارات المسرحية؟ وماهي بنياتها ومكوناتها؟ وماهي وظائفها؟ وما هو تاريخها الفني والجمالي؟ وكيف يتم تشغيلها مسرحيا وسينمائيا؟ تلكم هي الاسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في موضوعنا هذا.

1- مفهوم الإشاردات المسرحية:

من يتصفح كتب النقد المسرحي والدرامي الغربية منها أو العربية، فسيجد مجموعة من التسميات تطلق على الإرشادات المسرحية، منها: ملاحظات الكاتب، والإشارات المسرحية، والإرشادات الإخراجية، والإرشادات المسرحية، والإرشادات الركحية، والتوجيهات المسرحية، والنص الثانوي، والنص الفرعي، والنص المرافق...

وغالبا ما توضع الإرشادات المسرحية بين قوسين في المسرح العربي، أو تطبع بأحرف طباعية مائلة في النص الدرامي الغربي، أو تكتب بخط رقيق كذلك في مقابل حوار مشبع بالسواد. وترد هذه الإرشادات في شكل ملاحظات أو مفردات أو عبارات أو جمل مركزة أو فقرة نصية أو نص فرعي للنص الرئيسي الحواري.

2- من يتكلف بالإرشادات المسرحية؟

من المعلوم أن الإرشادات المسرحية هي التي يكتبها المؤلف المسرحي للممثل أو المتلقي أو المخرج أو السينوغراف؛ لأن تلك الإرشادات تتضمن مجموعة من المعطيات التي تتعلق بحالة الشخصيات، وطبيعة التصويت، وتحديد الفضاء الدرامي، والتأشير على الإضاءة والمكونات السينوغرافية الأخرى التي تحيل على الموسيقى والإكسسوارات. وهذه الإرشادات مهمة بالنسبة للمتلقي ليتمثلها أثناء قراءة المسرحية، أو أثناء تحليل المسرحية فهما وتفسيرا، أو تفكيكا وتركيبا. كما أنها مهمة بالنسبة للممثل أثناء مرحلة قراءة الطاولة أو القراءة الإيطالية ؛ لأنها توجهه وتساعده على تمثل الدور، وتقمصه، واستيعابه لغويا وبصريا. وهي مهمة كذلك للسينوغراف ؛لأنها توجهه إلى مجموعة من السبل، لاختيار مجموعة من التقنيات المناسبة التي تصلح في بناء المشاهد المسرحية، وتجسيدها بصريا ومرئيا. علاوة على ذلك، فهي مهمة بالنسبة للمخرج الحرفي أوالمفسر؛ لأنها توجهه بناء وتركيبا وتخطيطا، وتسعفه في فهم المسرحية وتفسيرها. ومن جهة أخرى، يمكن للمخرج المجتهد المبدع أن يستغني عنها، ويبحث عن إرشادات أخرى يبدعها بطريقته الفنية والجمالية،تستلزمها طبيعة العرض المسرحي. ويرفض المخرج الإنجيليزي كوردون كريج رفضا مطلقا التعامل مع إرشادات المسرحية لدى المؤلف؛ لأنه يعتبر ذلك تطفلا من المؤلف على عمل المخرج:" والنص المرافق للنص الحواري ينطوي على مفارقة من المفارقات المميزة للنص المسرحي، فهو محض اقتراح من المؤلف للخشبة في وجه من أوجهه، إنه خطاب المؤلف المباشر للقارئ/ المخرج/ الممثل/ فناني العرض المسرحي كي يتم تحويله إلى علامات الخشبة، ولكنه في الوقت نفسه هو النص الشارح للشخصية، وهو الذي ينشىء الموقف خارج السياق اللغوي الذي يفسر الحوار. أي: إنه جهاز درامي كما هو جهاز مسرحي بالدرجة نفسها. وبالتالي، فإن المخرج المسرحي قد يرى حسب تفسيره حركة وانفعالا مختلفا عن الذي يقرره النص."#

ويقول في مكان آخر من كتابه:"في الفن المسرحي" أن المخرج المبدع عليه أن لا يأبه للتعليمات التي يكتبها المؤلف في نصه الدرامي:" إن عمل المخرج المسرحي للمسرحية التي كتبها المؤلف المسرحي هو شيء من قبيل ما يأتي: إنه يتناول المسرحية من يد المؤلف المسرحي، ويعد مخلصا أن ينقلها إلى منصة المسرح وفق ما هو منصوص عليه في هذه النسخة الأصلية، وعندئذ يقرأ المسرحية، وفي أثناء هذه القراءة الأولى تتضح ملء عينيه جميع الألوان واللهجات والحركات وضبط الإيقاع، وكل مالابد أن يسير عليه العمل في الإخراج، أما هذه التعليمات المسرحية، وأوصاف المناظر وما إلى ذلك كله مما يزحم به المؤلف نسخته فيجب على المخرج الفني ألا يأبه بها، لأنه إذا كان متمكنا من صنعته،فلن يستطيع أن ينتفع بشيء منها."#

وعليه، فالإرشادات المسرحية التي يكتبها المؤلف مهمة بالنسبة للممثل والمتلقي والمخرج والسينوغراف، مادامت تقوم بوظيفة التوجيه والإرشاد والتنبيه، وتحيل على وجهة نظر المؤلف.

3- أنواع الإرشادات المسرحية:

يمكن الحديث في النص الدرامي عن نوعين من الإرشادات المسرحية، ويمكن حصرها في ما يلي:

1- إرشادات مسرحية خارج الحوار، وهي مستقلة بنفسها، وترد في صدارة المسرحية في شكل تعليمات إخراجية وتوجيهات سينوغرافية، أو تأتي مباشرة بعد أطراف الحوار لتصوير الشخصية خارجيا وداخليا في شكل إشارات تداولية.

2- إرشادات مسرحية داخل الحوار، وهي تقع في وسط الحوار أو في نهايته.
وللتمثيل لهذين النوعين من الإشارات الركحية، أقدم لكم نصا مسرحيا من إنتاجنا الشخصي تحت عنوان:" هوميروس في زمن العولمة":

تقع الأحداث في أثينا، الدولة – المدينة، حاضرة الثقافة والحضارة الهيلينية الزاهرة. يدق هوميروس، الشاعر اليوناني الكبير، وهو حامل دواوينه الشعرية، باب الفيلسوف أفلاطون:( إرشاد مسرحي خارجي)

هوميروس: ( يطرق الباب ) طق…طق…طق….(إرشاد مسرحي تداولي)

أفلاطون: من الطارق؟

هوميروس:أنا يا سيدي أفلاطون! من فضلك افتح لي بابك، إنني في حاجة إليك!

أفلاطون: (يفتح الباب، ويخرج إليه في لباسه الحريري اليوناني الدال على الثراء والترف): من أنت لتزعجني في هذا الوقت المبكر، وتوقظني من نومي اللذيذ؟

هوميروس: أستسمحك يا سيدي! إنه منتصف النهار، وعفوا عن هذا الإزعاج غير المقصود!
أفلاطون:لا ضير، لندخل إلى غرفة الاستقبال لنرى أمرك!

هوميروس: شكرا جزيلا!( يدخلان إلى حجرة الاستقبال).

أفلاطون: قل لي من أنت؟ إني لا أعرفك. فهل أنت تعرفني يا هذا؟

هوميروس:كيف لا أعرفك، فأنت نار على علم في أثينا وفي كل أصقاع العالم، إني أعرفك جيدا، ألست فيلسوف اليونان الأعظم إلى جانب تلميذك أرسطو؟! ألست صاحب المحاورات والجمهورية الفاضلة، فضلا عن كونك التلميذ النجيب لفيلسوف الفلاسفة سقراط؟!

أفلاطون: ولكن لم تقل لي من أنت؟

هوميروس: أنا هوميروس. هو...مي...روس!!!

أفلاطون ( متعجبا): أنت هوميروس! أنت هوميروس بالذات! شاعر اليونان الأكبر، صاحب الإلياذة والأوديسة؟!هوميروس في منزلي!

هوميروس: نعم، أنا هوميروس بعينه ولحمه.

أفلاطون: هذا شرف كبيرأعتزبه أيما اعتزاز حينما يزورني شاعر أثينا العظيم الذي أتحفنا بملاحمه الرائعة.

هوميروس: أشكرك سيدي على حفاوتك وترحيبك بي.

أفلاطون: ما الأمر الذي قصدتني فيه يا شاعرنا الكبير؟

هوميروس: لقد ظلمتني يا أفلاطون، وظلمت كل شعراء اليونان وشعراء العالم قاطبة، وأغضبت الإله أبولو!إله الشعر طبعا كما تعرف،ويعرف ذلك فلاسفة أثينا وملوك اليونان!

أفلاطون( متعجبا): أنا... ( يضحك أفلاطون بصوته العالي) أنا... وكيف ذلك يا صديقي؟(إرشاد مسرحي داخلي).

هوميروس: لقد طردتنا يا أفلاطون من جمهوريتك الفاضلة، وهذا ليس عدلا في حقنا، ولا نرضى به نحن معشر الشعراء، وجمهرة المبدعين!

أفلاطون: إني أعتبر ذلك عين الصواب والحكمة، فأين المشكلة والعيب؟

هوميروس:( غاضبا) المشكلة أنك وضعت الفلاسفة والملوك في أعلى هرم جمهوريتك، واعتبرتهم من طبقة الذهب، لذلك يحق لهم أن يتقاسموا السلطة ونعيم الثراء والجاه، كما استعنت بالجنود ووضعتهم في وسط الهرم الاجتماعي، واعتبرتهم من طبقة الفضة لتحافظوا على مكانتكم وثرواتكم التي لاتعد ولا تحصى. أما العبيد فهم في أسفل السافلين وفي الدرك الحضيض، فاعتبرتهم من طبقة الحديد؛ لأنهم أداة الإنتاج الطيعة لكم تسخرونها لأغراضكم ومصالحكم الشخصية! ولكي يصفو الجو لك ولطبقتك أصدرت لعنتك القاسية على الشعراء، فطردتهم بدون رحمة من جنتك الحالمة، وحرمتنا من الدخول في مدينتك الفاضلة.
أفلاطون: الشعراء الحالمون لا يستحقون الدخول إلى مدينتي اليوطوبية الفاضلة؛ لأنهم ليسوا أهلا لذلك!

هوميروس: ما هذا الغرور الزائد يا أفلاطون؟ لماذا لا نستحق الدخول إلى مدينتكم؟
أفلاطون: أنتم معشر الشعراء تعيشون في الأحلام الكاذبة، والأوهام الضائعة، أنتم تقولون ما لا تفعلون، تهيمون في أودية الخيال، تبحثون عن الحقيقة في السراب.

هوميروس: وأين الحقيقة عندكم أيها الفلاسفة الحكماء؟

أفلاطون: إنها في عالم المثل، طبعا هذا العالم لا تدركونه أنتم أيها الشعراء؛ لأنكم مرتبطون بعالم الحس والأشياء، أنتم تعيشون في عالم متغير نسبي وغير حقيقي مثل: أهل الكهف.
هوميروس: وأين هذا العالم الذي تتحدث عنه يا فيلسوف العقلاء إذا كان عالمنا غير حقيقي وزائل؟

أفلاطون: هذا عالم المثل أيها الخياليون السطحيون، لا يدرك إلا بالعقل والتأمل الذاتي، ولا يصل إليه إلا الفلاسفة الحاذقون في المعرفة والاستطلاع، فالمعرفة تذكر، والجهل نسيان.

هوميروس: يالها من أسطورة كاذبة! ومن خرافة ساذجة لا يقبلها العقل والمنطق اللذان تتبجح بهما في محاوراتك العقيمة مع قارئك الوهمي!

أفلاطون: أنتم يا شعراء الخيال و مبدعي الخبال لا تحاكون إلا القشور من الأشياء، تعيشون بأقنعة الزيف والهراء، تقتلون الحقيقة بأخطاء المجاز واستعارة الأوهام. تكثرون من التهويل والتعظيم، تجعلون الجبان شجاعا، والبخيل كريما، وعند العطاء تحولون الهجاء مدحا، وعند الامتناع تحولون المدح هجاء. أتسمي هذا شعرا وفنا وإبداعا يا هوميروس الملاحم؟!

هوميروس: الشعر يا أفلاطون، يا صديقي العظيم، موهبة إبداعية يهبها إله الشعر أبولو لمن يستحقها عن طبع ودراية، يهبها لمن يمتلك ناصية البلاغة والفن. الشعر إحساس ووجدان، عاطفة وإنسانية، حب وعطاء، سلم وخيال، بناء ونماء، حياة وسعادة.

أفلاطون: كفاكم من العواطف الزائدة والأخيلة الواهمة! عليكم بالعقل وحكمة المنطق لتفوزوا بكرسيكم في برلمان جمهوريتي الفاضلة، ومدينتي السامية!

هوميروس: طز!طز!طز في جمهوريتك الحمقاء التي لم يجتمع فيها إلا المجانين أمثالك، وكذلك الحثالة من الناس الذين يفسدون عقول الشباب و المجتمع بالشك والخرافات السوفسطائية والجدل العقيم على غرار أستاذك سقراط!

أفلاطون: أنتم هم المجانين حقا، تجعلون السراب حقيقة، تنساقون وراء الأهواء وعواطف الذات، تستبدلون الحكمة باللاعقل، والمنطق باللاوعي.

هوميروس: كفانا من منطقكم يا فلاسفة النظريات بلا ممارسة، والاستدلال واللوغوس! كفانا من عقلكم الذي استلب الإنسان، وحوله إلى أعداد وأرقام وآلات ممسوخة مستهجنة. بآليات العقل والعلم، أشعلتم أيها الفلاسفة الحروب والنيران في قلوب الأطفال والكبار، ولدتم الحقد والإرهاب باسم الحضارة والثقافة و قواعد القانون، بمنطقكم قتلتم الشعر والانزياح، وحنطتم الغاب والطبيعة بالإسمنت والفولاذ، وأدميتم البراءة، وجرحتم الحب والحياة.

أفلاطون: الشعر جنون وحمق بلا رسالة ولا هدف، ولن نعترف بهذيانكم حتى تعودوا إلى الصواب ومنطق الرشد، آنذاك سأدخلكم إلى جمهوريتي الفاضلة وجنة السعداء، حيث الخير الأسمى والنعيم الخالد بين العقل المطلق والمنطق الأكمل. وإذا أصررتم على الرفض، فسنحاربكم بشراسة وبدون هوادة يا شعراء الضلال والسراب والترهات، حتى ينتصر العقل على الخيال، والمنطق على الأوهام.

هوميروس: أعتقد أننا لن نتفاهم، ولن نتفاهم أبدا وأبدا، وأنا مضطر لأتركك الآن تكمل نومك يا أفلاطون، يا نديم الملوك والحكماء!أيها المثالي الحالم في سماء الميتافيزيقا والكوسمولوجيا وعالم الأوهام الضائعة! وأقول لك نيابة عن شعراء العالم: لن نرضى بمنطقك ولا بمساوماتك الرخيصة، لن نرضى بمنطق العنف ولا بحرب طروادة، و لن نسمح بحرب البسوس أو حرب داحس والغبراء وحرب الخليج، لن نترك العقل يستبيح الأطفال، ويقتل الأبرياء باسم اللوغوس ومنطق الأرقام، لن نرضى بعولمة الحب، ومكننة القلب، ولن نتاجر في العواطف والأحاسيس، سنعيش من أجل الشعر وجنون الشعر، وحب الشعر، لن نخون بودلير ولا إليوت، لن نخون السياب ولا نازك، لن نتساهل في موت لوركا و نيرودا، ولن نبيع الشعر في سوق العولمة، لن نبيع الشعر في معارض الغات، ولا في حانات الخمور، ولا في مواخير هز الأرداف و الأعجاز، ولا في أسواق النخاسة، ( يخرج هوميروس، وهو يردد مرارا وتكرارا)، سنعيش من أجل الشعر، سنعيش من أجل الحب، سنعيش من أجل الشعر، سنعيش من أجل الحب...(يرفع دواوينه الشعرية إلى الأعلى كـأنه يظهر العناوين للجمهور، وينزل إليهم مرددا عباراته المسكوكة في حماس وهذيان شاعري، يقدم لهم تلك الدواوين الشعرية )، آه، آه...آه، آه أينك يا أبولو، أينك ياأبولو!آه، آه...آه أينك ياأدونيس، أينك يا أدونيس!( موسيقى مصاحبة لهذه الحرقة الدرامية، والممثل منطو على نفسه يحضن في صمت ديوانا شعريا، يتفجع حسرة في جو رهيب من التأثر والحزن على مآل الشعر في زمن العولمة والتغريب، والغشعاع النووي، والحصار الإسمنتي...)#.

ويتبين لنا، مما سبق ذكره، أن الإرشادات المسرحية تستعمل غالبا بين قوسين، ويخصص لها مكان خارج الحوار، وذلك إما في صدارة المسرحية (يدخل عبد البصير الأعمى، وهو ممتلىء فرحا ونشوة. يضع على عينيه نظارات سوداء، ويمسك بعصا بيضاء يتلمس بها الطريق، ويتأبط حزمة من الكتب)#، ثم يعقبها الحوار المتدرج،أو تكون بموازاة أطراف التواصل وأفعاله التداولية، مثل:

"النمس:(لصديقه) صاحبي..

القنفود: أم؟

النمس: أسمعت؟خونا كيتكلم على المقاومة وعلى النضال..

عبد البصير: وكان الضوء الذي في قلبي أكبر وأقوى، ولذلك انتصرت، لقد رأيت، وأبصرت، وما نريده لابد أن يكون.."#

أو قد تستعمل داخل الحوار، مثل:

" عبد البصير: من يكون هذا الرجل؟ما أظنه إلا أحد الأغنياء، وقد جاء ليحرق ماله في الملاهي...(وهو يخرج، يلقى في طريقه عبد الله المجذوب داخلا)"#.

وقد ترد هذه الإرشادات مستقلة ومنفصلة خارجيا عن النص في شكل مفردة أو جملة أو عبارة وجيزة مثلما يلي:

" عبد البصير: (يكتب) قالت هي أقنعة، ومضت تبحث عن وجهها بين الوجوه..."#

" الصافية: إنه مظلم مثل سواد قلبي، وطويل طويل كشقائي وعذابي(تكلم ابنتها التي هي في العربة) أنت على الأقل لديك هذه العربة، وهي شبه بيت، أو هي بيت صغير في حجم الحلم الهارب، أما أنا فلابيت لي، وإنني أنتظر حتى يأتي أبوك، ليشتري لنا بيتا في هذا الحي.."#

أو ترد في شكل فقرة كما في مسرحية :"ياليل ياعين" لعبد الكريم برشيد:" ساحة فارغة، هي جزء من جسد مدينة راقية، وعند هذه الساحة تلتقي مجموعة من الطرق، والتي تأتي من أحياء سكنية مختلفة من المدينة في الخلف، وعلى بعد بعيد جدا، تلمع أضواء باهتة تمثل أحياء صفيحية فقيرة، غارقة في الصمت والظلام.

تطوق الساحة أشكال هندسية متداخلة تمثل أبواب الفنادق الفاخرة، وتشير إلى أبواب النوادي الليلية وإلى المطاعم، وإلى الواجهات الزجاجية اللامعة...على هذه الأبواب تلمع كتابات ضوئية، يمكن أن نقرأ منها: مقهى النور، حانة الوجود، فندق الهناء، مطعم الذوق الرفيع، كشك الجرائد والهدايا، نادي خاص...

الوقت: ماقبل منتصف ليلة ربيع.

أما الزمن، فهو هذه الأيام، أو ما يمكن أن يشبه هذه الأيام، أو ما يمكن أن تأتي به الأيام في يوم من الأيام.

أعمدة الإنارة العمومية ترسم بقعا ضوئية هنا وهناك.

(يسمع جرس يرن، يدخل درهمان الشحاذ، وهو يسوق دراجة هوائية)"#.
وهكذا، تكتب الإرشادات المسرحية الداخلية والخارجية بموازاة الحوار لرسم فرجة درامية أساسها الصراع الدرامي والتوتر المشحون بالتأزم والانفجار.

4- مكونات الإرشادات المسرحية:

تتضمن الإرشادات المسرحية مجموعة من العناصر التي تشكل العمل الدرامي، وتؤثثه بشكل لغوي وبصري سيميائي. ومن بين هذه العناصر، نستحضر هذه المكونات:

u أسماء الشخصيات، والتي يتم تحديدها في شكل لائحة في بداية المسرحية أو داخل الحوارات.

vمؤشرات الفضاء الدرامي سواء أكانت دالة على الزمان أو المكان، حيث تجيب عن أسئلة محورية، مثل: متى؟ ومن؟ وأين؟ ويعني هذا أن هذه الإرشادات تحدد سياق التواصل أو الإبلاغ، وتحدد البعد التداولي أو الشروط الملموسة لفعل الكلام.

w مؤشرات دالة على الشخصية الدرامية، وذلك من حيث استعراض أسمائها، والتركيز على وظيفتها الاجتماعية، وتحديد هيئتها الخارجية، وتبيان موقعها وعددها، وتصوير حالتها وملامحها الفيزيولوجية، ورصد شيمها وسجاياها الأخلاقية، واستقراء أبعادها الاجتماعية والنفسية إن شعوريا وإن لاشعوريا، ورصد وظائفها وأفعالها داخل النص الدرامي.

x مؤشرات سينوغرافية تتعلق بالديكور والأثاث، فضلا عن معطيات ترصد طبيعة الإضاءة، والماكياج، والملابس، والموسيقى، والإكسسوارات.

yمؤشرات دالة على عمليات النطق والتصويت والتهجي والقراءة والغناء والإنشاد والصراخ.
z معطيات ترتبط بالكوريغرافيا والحركة والرقص الجسدي.

6- وظائف الإرشادات المسرحية:

من المعروف أن للإرشادات المسرحية داخل النص الدرامي وظائف عدة، يمكن حصرها في ما يلي:

 u تقرب هذه الإرشادات المسرحية النص الدرامي من عالم السينما والكتابة السينارستية.
v تحول النص المسرحي اللغوي إلى نص بصري مرئي حركي.

w تحمل وظائف دلالية وسيميائية، حيث تتحول تلك الإرشادات إلى رموز وعلامات وأيقونات لغوية أو بصرية دالة، تتضمن في طياتهارسائل ومقاصد مباشرة وغير مباشرة سواء أكانت تلك الرسائل لغوية أومرئية.

x تميز بين الروائي والدرامي، كما تميز بين السمعي والبصري. ويعني هذا أن" الإرشادات المسرحية، أو ملاحظات الكاتب، تنطوي على نظم دلالية، تجلو صورة العرض المسرحي، حتى ولو رفضها المخرج، أو وقف منها موقفا انتقائيا، فهي مادة للتفكير، معطى قابل للنقاش، احتمال يفتح أفق احتمالات أخرى، قد تلتقي مع هذا المعطى، وقد تفترق عنه.

ويحدث أحيانا أن يكتشف الكاتب، لدى عرض مسرحيته، بعض نقاط ضعف، أو فجوات، ماكان ليتسنى له ترميمها أو تصويبها، لو لم تظهر في مرآة العرض، وهي ليست تناقضا أساسيا، داخل النص، كما يرى فلتروسكي، ولا هي تخرق وحدته العضوية، لأنها إضافة إلى وظيفتها الدلالية، كما أسلفنا، والتي لاتزيح الدلالات اللغوية السمعية، تعمق تمايز الدرامي من الروائي، والبصري من السمعي البحت، لعلها –إذاً- إعلان عن هوية النص المسرحي، حتى وإن اختفت في العرض."#

y ترد هذه الإرشادات المسرحية باعتبارها اقتراحات واحتمالات ومعطيات، وذلك لتوجيه العرض المسرحي، وتأطير العملية الميزانسينية (الإخراج) بشكل من الأشكال. وبالتالي، فهي ليست ملزمة للمخرج أو السينوغراف أو الممثل أو المتلقي.

zتقدم الإرشادات المسرحية معلومات عن الشخصية وحركاتها وملامحها ونبرات صوتها وملابسها وماكياجها. كما تعطي صورة عامة أو مفصلة حول الديكور والسينوغرافيا والموسيقى والإضاءة.

تسعف هذه الإرشادات المتلقي على فهم الحوارات وتفسيرها، واستيعابها تفكيكا وتركيبا، كما تسعف الممثل أو المخرج أو السينوغراف على تشخيص النص الدرامي، وتحويله إلى عرض أو فرجة بصرية يتداخل فيها اللغوي والبصري، ويتقاطع فيها اللساني والسيميائي.

| تقوم بعملية التعليق على الحوار وتوضيحه، وفي هذا الصدد يقول مشيل عيسى شاروف (Michael Issacharoff) : " وللإرشادات المسرحية أيضا وظيفة أخرى: إنها وظيفة الميتانص.فبما أنها متوقفة عادة على الحوار، فإن دورها يكمن في التعليق عليه وتوضيحه."#

تجعل هذه الإرشادات الركحية المسرح أب الفنون كلها، مادام تجمع بين العلامات اللغوية والبصرية. وفي هذا السياق يقول الدكتور يونس لوليدي:" ودور الإرشادات المسرحية لايقف عند حد التعليق على الحوار وشرحه، أو عند تقديم المساعدات للمخرج والتقنيين والممثلين لإنجاز العرض، وإنما يتجاوز كل هذا ليثبت أن المسرح هو أكثر الفنون ثراء وتعقيدا؛ لأنه نقطة التقاء كل وسائل التعبير، ولأن جوهره يقوم على الجمع بين كل الفنون.والهدف هنا من جمع هذه الفنون هو خلق عمل درامي يقلد خلق العالم.عمل يستطيع من خلال لعب الممثلين، ونبرات أصواتهم، وملابسهم، والديكور، والإنارة، أن يقود الجمهور إلى حالة من الهوس الجماعي.
ولايكفي المؤلف الدرامي أن يجمع بين مختلف عناصر هذه الإرشادات، وإنما عليه أن يخلق بينها مجموعة من العلاقات حيث يصبح من الممكن أن يكرر بعضها البعض، أو يوضح بعضها البعض، أو يحذف بعضها البعض، أو يصحح بعضها البعض، أو يناقض بعضها البعض."#

| تؤدي هذه الإرشادات الوظيفة الميتامسرحية، ويعني هذا أنها تفضح لعبة الفعل المسرحي، وتكشف أسراره عن طريق التوضيح والتفسير والنقد والتعليق، كما نجد ذلك واضحا في مسرحية " كل على طريقته" لبيراندللو:" في هذا المشهد الذي يدور في ساحة المسرح الخارجية أثناء خروج المتفرجين سوف ندرك أن ما قدم على المسرح على أنه واقع لم يكن سوى اختلاق فني نتيجة لظهور الشخصيتين الرئيسيتين في المسرحية وسط الجمهور فجأة في ساحة المسرح الخارجية في الاستراحة، وسوف ينتج عن هذا أن المتفرجين المنهمكين في مناقشة الواقع الوهمي للمسرحية سوف يجدون أنفسهم فجأة على مستوى آخر من مستويات الواقع. أما في الاستراحة التالية، بعد الفصل الثاني، فسوف ينشب الصراع بين تلك المستويات الثلاثة للواقع: شخصيات المسرحية والأشخاص الذين تصور المسرحية حياتهم والمتفرجين.وسيتولد الصراع حين يهاجم أبطال القصة الحقيقيون الممثلين، ويحاول المتفرجون التدخل بينهم."#

هذه هي مجمل الوظائف التي تؤديها الإرشادات المسرحية في النص الدرامي الحديث والمعاصر، ولما لانقول: إن ذلك ينطبق أيضا على المسرح الكلاسيكي؟!!

5- تاريخ الإرشادات المسرحية:

لم تكن الإرشادات المسرحية من الناحية الإبداعية معروفة في المسرح اليوناني أو في العصر الإليزابيثي. لأن المؤلف في المسرح اليوناني مثلا هو الذي كان يتولى إنتاج أعماله وإخراجها، ولم يكن المخرج معروفا في تلك الفترة كما هو الحال اليوم. ومن ثم، فقد كانت تلك الإرشادات متضمنة داخل النص المسرحي. أي: ليست مستقلة أو منفصلة أو منعزلة عن الحوار، بل كانت ملاحظات الكاتب واردة داخل النص الحواري بشكل يصعب فصلها عن نسيج العمل ككل. والدليل على ذلك مسرحية:" أوديب" لسوفكلوس، حيث يقول أدويب يخاطب شعبه:" مالكم تبحثون هكذا وتحملون هذه الأغصان، وقد توجت بهذه الشرائط، في الوقت الذي امتلأت المدينة بدخان البخور، وارتفعت الأصوات منشدة، وراح الناس يثنون"#.

وفي مكان آخر يقول سوفوكلوس:" وهنا أولئك الشباب والشعب كله، اتخذوا أكاليل غار، وتجمعوا حول معبد بلاس قرب الرماد المقدس لموقد الإله أبوللون"#.
ويتبين لنا، من هذين المثالين، أن المسرحية تحوي داخلها مجموعة من المعطيات الإخراجية، كالإشارة إلى مجموعة من الإكسسوارات، مثل:الأغصان، الشرائط، وأكاليل غار...،والإشارة كذلك إلى فضاء الأحداث كالمدينة، والمعبد...، وتبيان كذلك عمليات التصويت: ارتفاع الأصوات، والنشيد، والأنين...

هذا، ولم تهتم المسرحيات الإليزابيثية (مسرحيات شكسبير) بالإرشادات المسرحية بشكل كبير، ولكن نجد بعضا منها كما في مسرحية " تاجر البندقية"، ومسرحية " حلم منتصف ليلة صيف"، ومسرحية" الملك لير"#، و مسرحية " مكبث" مثلا#. وإن كان كوردون كريج ينفي أن يكون شكسبير قد كتب تعليمات لمسرحياته:"كلا...إن شكسبير لم يكتب من ذلك كلمة واحدة، بل كل هذه التعليمات المسرحية، من أولها إلى آخرها هي من المبتكرات الغثة التي وضعها محررو النشر المختلفون...كالمستر مالون والمستر كابل والمستر ثيوبولد وغيرهم، ولقد كان تلاعبهم بالرواية على هذا النحو قلة بصر منهم، كان علينا- نحن رجال المسرح- أن ندفع ثمنه."#

لكن منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، بدأت المسرحيات الغربية الحديثة تسرف في استخدام الإرشادات المسرحية، ولاسيما مع المسرح الواقعي والطبيعي، فصارت ترى الإرشادات منفصلة ومستقلة عن الحوار إما في الصدارة، وإما بعد أفعال القول، وإما بعد أطراف التواصل مباشرة، وإما داخل الحوار.

وبعد ذلك، حافظ المؤلفون والمخرجون المسرحيون على تشغيل الإرشادات الدرامية كما فعل أنطوان تشيخوف، وماييرخولد، وبريشت، ومسرح اللامعقول كما عند صمويل بيكيت وآداموف،...بل نجد كاتبا مثل: لويجي براندللو يحول تلك الإرشادات إلى نص إخراجي ميزانسيني كما فعل في مسرحيته:"ست شخصيات تبحث عن مؤلف".

وعليه، فيلاحظ أن الإرشادات المسرحية مرت بمراحل تاريخية متعددة: مرحلة الغياب الكلي، ومرحلة شبه الغياب، ومرحلة التوظيف في العصر الحديث بشكل مقنن أو مسهب كما عند أداموف، وجيني، وصمويل بيكيت، حيث تتحول الإشارات المسرحية إلى نصوص مفعمة بالدلالة، وطاغية بالفنيات الجمالية القصوى.

ولم يتم الاهتمام نقديا بالإرشادات المسرحية إلا حديثا، وذلك من قبل رومان إنغاردان( Roman Ingarden)الذي ميز داخل النص الدرامي بين النص الرئيس (الحوارات) والنص الفرعي الثانوي(الإرشادات المسرحية)، قائلا:"إن الكلام الذي تنطق به الشخصيات يشكل النص الرئيس لمسرحية ما، وتشكل الإرشادات المسرحية التي يعطيها المؤلف، النص الثانوي.هذه الإرشادات المسرحية تختفي عندما تعرض المسرحية، فهي لاتظهر إلا أثناء قراءة المسرحية حيث تمارس وظيفة العرض".#

ومن ثم، فالنص الأول هو نص لغوي، والنص الثاني نص بصري مرئي. أما آن أوبيرسفيلد (Anne Ubersfeld)في كتابها " قراءة المسرح"#، فتشير إلى أن النص الدرامي يتكون من نصين مختلفين ومنفصلين، ولكنهما متكاملان: الحوار (dialogue)والإرشادات المسرحية(didascalies).ومن هنا، فالتمييز اللساني الجوهري بين الحوار والإرشادات المسرحية تستوجب الحديث عن المتلفظ أو المتكلم أو من يتكلم؟ وبتعبير آخر، حينما نتحدث عن الإرشادات المسرحية، فإننا نستحضر المؤلف، وحينما نتحدث عن الحوار، فنحن نستحضر الشخصيات. ومن ثم، فوظائف الإرشادات المسرحية لدى آن أوبيرسفيلد تكمن في شيئين:

1- تسمية الشخصيات، وتحديد موقعها التلفظي، مع استعراض جزء من حوارها.

2- تعيين حركات وأفعال الشخصيات باستقلال عن الخطاب ككل.#

وقد حاول مارتن إيسلن كذلك أن يدرس الإرشادات المسرحية معتقدا:" أن النص الفرعي الذي يفسره عادة المخرج والسينوغراف والممثلون، وبقية الطاقم التقني، يقرأ من زوايا مختلفة، وتتراوح القراءة بين التجاهل أو عدم الاكتراث، والالتزام به.

ويضيف إيسلن في كتابه:" مجال الدراما"، وهنا بيت القصيد، أن الدراما أساسا فعل، حدث، محاكى، وإيسلن، الذي لايستطيع إخفاء حماسته لكل ماهو عملي في المسرح، ولكل ما هو بصري نتيجة لذلك، يؤثر النص الفرعي، ويعطيه الأولوية. أليس المسرح فنا يعرض، يشاهد؟ ولكنه ليس مع إلغاء الحوار أو تهميشه، على الرغم من قناعته بأولوية الفعل ومركزيته.إيمائية الفعل وقدرته على إنتاج الدلالة، لا تلغي الحوار لأن له وظيفته أيضا، وفي المسرح الطليعي أو الراديكالي، قد تنزلق الإرشادات من نص إلى آخر، معلنة عن وجودها في المكانين، وهي مكملة هنا وهناك."#

وعليه، فالنص المرافق :" أداة من أدوات الكاتب المسرحي، ولكنه لم يحظ بالدراسة اللازمة. والدراسة الوحيدة التي اهتمت به هي دراسة أستون وسافونا، ولكنه اهتمام بالإرشادات المسرحية بوصفها عنصرا من عناصر النص وليس بوصفها أداة، وتسمية الإرشادات المسرحية تسمية محدودة، ولا تفي بالدور المهم الذي يقوم به هذا النص في عمليات القراءة"#.
ومن هنا، يتبين لنا أن أستون إليان وجورج سافونا قد صنفا ست مجموعات من أنواع الإرشادات المسرحية #:

1- تمييز الشخصية.

2- الوصف الفيزيقي للشخصية.

3- التمييز الصوتي للشخصية.

4- أشكال الكلام.

5- عناصر التصميم، وموقع الشخصية منها.

6- العناصر التقنية.

ونلاحظ أن أغلب الإرشادات المسرحية تنصب على الشخصية الدرامية. ومن ثم، يقوم المؤلفان باستقصاء هذه الوظائف في عشر مسرحيات تنتمي إلى مدارس وعصور مختلفة من سوفكلوس من خلال مسرحيته :"أوديب ملكا"، وذلك حتى الكاتبة البريطانية المعاصرة تشرشل في مسرحيتها :"بنات القمة"، فتصل الوظائف المسرحية للإرشادات المسرحية في هذه المجموعات الست إلى سبع وخمسين وظيفة.#

ويذهب تصنيف أستون وسافونا إلى أن المسرحيات الكلاسيكية تعتمد على الإرشادات المسرحية داخل الحوار، بينما تعتمد النصوص الواقعية على إرشادات خارج الحوار، والتي نسميها هنا بالنص المرافق.

وقد سار المسرح العربي على غرار المسرح الغربي استنباتا وتقليدا ومحاكاة واحتذاء، فوظف الكتاب والمخرجون الإرشادات المسرحية، وذلك كما تم توظيفها في المسرح الغربي للدلالة على الشخصيات والفضاء والسينوغرافيا.

وما يلاحظ اليوم أن ثمة نصوص مسرحية تغيب فيها الإرشادات المسرحية كليا، وهناك نصوص أخرى تقتصد في استعمالها إلى درجة التقليل والتقتير، وهناك من الكتاب من يعتدل في توظيفها، وهناك من يسهب فيها إلى درجة الإسراف والإطناب، والغرض من كل ذلك هو التوضيح والتأكيد والتنبيه. ويلاحظ كذلك أن تلك الإرشادات المسرحية لايمكن رصدها إلا في النص الدراتمي المقروء. أما أثناء العرض المسرحي أو الفيلم السينمائي، فتذوب تلك الإرشادات داخل الفرجة البصرية المرئية.

8- السيناريو والإرشادات المسرحية:

من المعروف أن كاتب السيناريو في حاجة ماسة إلى تشغيل الإرشادات الإخراجية أو الميزانسينية أثناء كتابة المشاهد السينارستية لمشروع فيلم ما. ويعني هذا أنه لابد أن يكون له اطلاع كبير على مجال الكتابة المسرحية وتقنياتها. ومن هنا، تحضر هذه الإرشادات بشكل لافت في السيناريوهات السينمائية. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تداخل المسرح مع السينما، في حين يشكل السيناريو ممرا وسيطا بين هذين الفنين ليس إلا.
ومن يتتبع النصوص المسرحية التي كتبها المسرحيون المستقبليون منذ سنة 1909م، فإنه سيجد بلا ريب أنها قد وردت في شكل إرشادات ركحية تشبه إلى حد كبير مشاهد فيلمية وسينارستية. ويصف أنجلو رونيوني مسرحيته:" الملل" بأنها " النص المكتوب لحالة جسمانية" وهذا النص كاملا لايتعدى بضعة سطور هي:

"المسرح: خلفية رمادية

يدخل رجل. واضح أنه متعب. يجلس ويتمطى على مقعد وثير. يغمض عينيه.. يسمع صوت كمان، موسيقى جنائزية غير منغمة.

من بعيد يسمع طنينا.

تنزل ستارة شفافة في الخلفية من أعلى، تعتم المكان.

فحيح ملح متواصل يسمع من بعيد..

يتوقف صوت الكمان.

تتدلى من أعلى المسرح على اليسار علامة تعجب سوداء.

يتحول الفحيح إلى عواء مخيف.

أضواء زرقاء

تزداد حدة الطنين.

في الوسط تتدلى من أعلى علامة تعجب أخرى بالغة الطول.

تتوقف جميع الأضواء.

صمت تام.

تميل رأس الرجل(استغرق في النوم)

ظلام.

ستار."#

ومن الكتاب المسرحيين المستقبليين الذين كتبوا نصوصا درامية في شكل إرشادات مسرحية تشبه المشهد السينارستي نستحضر كلا من برونو كورا وإميليو ستيميللي في مسرحيتهما" عمل سلبي" كما في هذا النص:

" يدخل رجل، يبدو مشغولا مهموما يخلع معطفه وقبعته، ويمشي في حالة هياج شدي،د وهو يردد عبارة:

شيء عجيب! غير معقول!

يستدير ناحية المتفرجين، يبدو عليه الضيق لوجودهم، يتقدم إلى مقدمة المسرح، ويقول بلهجة قاطعة:

لا...ليس عندي ما أقول لكم على الإطلاق.

انزلوا الستار...

ستار"#

ونجد هذا النوع من الكتابة الإرشادية في مسرحية " تركيب التركيب" التي اشترك في كتابتها كل من جوجليلمو جانيللي ولوسيانو نيكاسترو، وهذا نصها:

" مسرح خال، ممر طويل مظلم في آخره مصباح أحمر يضيء ويطفىء من بعيد جدا.
ويظهر شعاع أبيض يفرش الممر كما لو كان بساطا بطول الممر.

تمر خمس ثوان.

عيار ناري من مسدس، صرخة.

أصوات.

صيحات متداخلة.

وقفة...

ضحكات امرأة تتردد.

وفي نفس الوقت نسمع صوت باب يفتح بعنف ويظهر ضوء قوي باهر يخطف أابصار المتفرجين.
تنفصل الستارة الأمامية عن المسرح وتسقط."#

وإليكم مشهدين من مشاهد سيناريو للناقد السينمائي المغربي عزالدين الوافي يخطو فيه طريقة الكتابة المسرحية في إثبات الإرشادات المسرحية، وهو مقتطف من قصة للكاتب البرازيلي أنيبال مونتيرو ماشادو بعنوان" البيانو":

المشهد الأول: داخلي- بهو منزل- مساء

بهو منزل به أريكة على سجاد.مجموعة من اللوحات على الجدران. على سور منحن مزهريات وقطع ديكور.

جمال 55 سنة بسروال جين وقميص داخلي.مناديا زوجته روزا في الطابق العلوي.
جمال: طردته، قليل الحياء!

جمال وكأنه يكلم نفسه من الغضب:إنه يلعب دور البليد.

يحرك رأسه ساخرا: الغبي يقول: إن ثمنه لايساوي حتى خمس مائة درهم.
نسمع صوت الزوجة:هذه لعبة قديمة يريد أن يأخذه بثمن بخس ثم يعيد بيعه ليربح في العملية.

المشهد الثاني: داخلي- أدراج الطبقين ومدخل غرفة – مساء

روزا 40 سنة وابنتها سارة 25 سنة تنزلان الأدراج وتتجهان جهة غرفة بيانو في ركن من أركان البهو. تقتربان من البيانو وتلمسه الأم، وكأنه تواسيه.

جمال: سوف ترون سنبيعه بالثمن الذي نريد. مثل هذه التحفة لاتوجد.

روزا: لماذا لاتضع إعلانا في الجرائد ويقدم الناس بكثرة. في الحقيقة يصعب التخلي عنه.
جمال يتجه نحو البيانو: هذا هو الحب الذي نكنه لهذا البيانو.

يربت على جسد البيانو البلوطي، ويقول:

بمجرد ما تنظر له تفكر في الموسيقى.

روزا: لنعلن عن ذلك.قد يسهل الله، ونبني البيت لسارة، ثم نجهزه قبل حفل الزفاف."#

ونقدم لكم مثالين من سيناريو آخر للباحث السينمائي المغربي خالد دقي، وهو يستثمر مجموعة من الإرشادات المسرحية في مشهديه الفيلميين:

المشهد الأول- الوقت الحاضر- داخلي- نهار

مصطفى رجل في الأربعينيات بعض الشيب في شعر رأسه، يرتدي بذلة، وينتعل حذاء جلديا، يتمشى منفعلا في البيت، من الغرفة إلى البهو، ومن البهو إلى الغرفة، تبدو عليه ملامح القلق والانفعال ينظر إلى الساعة المعلقة على جدران الصالون تحتها طاولة، وكرسي الطاولة مستندة على الجدار ثم إلى ساعة معصمه، يزداد انفعاله.

الساعة11/30: الغرفة التي يتواجد فيها عبارة عن قاعة فسيحة مفروشة بكنبات تقليدية في الجانب الأيسر من الغرفة وأمام النافذة المطلة على الشارع، مائدة أكل، حولها أربعة كراسي، وفوق المائدة جريدة مفتوحة.

على الجدار المقابل للمائدة ساعة حائطية مستديرة الشكل في عمق البيت، البهو الذي يمتد حتى الباب.

المشهد الثاني- الوقت الحاضر- خارجي- البوابة الخارجية لسوق الخضر- نهار

نجاة امرأة في الثلاثينيات ترتدي لباسا عصريا، تجمع شعرها في منديل أزرق تخرج من السوق تحمل في يمناها قفة مليئة بالخضر. على كتفها الأيسر حقيبة يدوية سوداء من الجلد، تشير إلى سيارة أجرة، تضع القفة في صندوق السيارة الخلفي، تركب في الخلف،
تنطلق السيارة.

/قطع المشهد /"#

ويتبين لنا من كل هذا أن السينما تستعين بدورها بتقنيات المسرح، وذلك في كتابة الإرشادات المسرحية في شكل لقطات ومشاهد فيلمية من أجل تأطير الحوارات، وتجسيد الحركات.

خلاصات ونتائـــج:

تلكم – إذاً- نظرة مقتضبة عامة وموجزة حول الإرشادات المسرحية، وذلك من حيث مكوناتها وبنياتها وأنواعها ووظائفها وتاريخها. وهذه الإرشادات هي التي تقوم بدور هام في تحويل النص الدرامي اللغوي إلى فرجة بصرية ميزانسينية مرئية. ومن ثم، فالسيناريو الفيلمي والسينمائي يعتمد كثيرا على تقنيات المسرح، وخاصة الاستعانة بالحوار الدرامي، وتشغيل الإرشادات الركحية في بناء المشهد واحدا تلو الآخر، ونسجه داخل تنغيم إيقاعي متسلسل، مع تصوير اللقطات تقطيعا وتركيبا.

الهوامش:

 د.نديم المعلا: لغة العرض المسرحي، دار المدى للثقافة والنشر، دمشقن سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م، ص:107؛

2- حازم شحاتة: الفعل المسرحي في نصوص ميخائيل رومان، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 2005م، ص:46؛

3- حازم شحاتة: الفعل المسرحي في نصوص ميخائيل رومان،ص:45؛

4 - كوردون كريج:في الفن المسرحي، ترجمة: دريني خشبة، الدار المصرية اللبنانية،القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1999م، ص:186-187؛

5 - د.جميل حمداوي: نصوص مسرحية، مطبعة الجسور، وجدة، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:2-8؛

6- د.عبد الكريم برشيد: ياليل ياعين،مطبعة إديسوفت، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص:23؛

7- د.عبد الكريم برشيد: ياليل ياعين، ص:46؛

8 - د.عبد الكريم برشيد: ياليل ياعين، ص:50؛

9- د.عبد الكريم برشيد: ياليل ياعين، ص:25؛

10- د.عبد الكريم برشيد: ياليل ياعين، ص:24؛

11- د.عبد الكريم برشيد: ياليل ياعين، ص:13؛

12- د.نديم المعلا: لغة العرض المسرحي، ص:108؛

13- نقلا عن د.يونس لوليدي: الميثولوجيا الإغريقية في المسرح العربي المعاصر،مطبعة إنفوبرانت، فاس، الطبعة الأولى سنة 1998م، ص:196؛

14- د.يونس لوليدي: الميثولوجيا الإغريقية في المسرح العربي المعاصر، ص:196-197؛

15- نقلا عن د.نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى سنة 1986م، ص:114؛

16- نقلا عن نديم معلا: لغة العرض المسرحي، ص:111؛

17- نقلا عن نديم معلا: لغة العرض المسرحي، ص:111؛

18- شكسبير: الملك لير، من المسرح العالمي، الكويت، الطبعة الثانية، العدد الثالث، يوليو 2008م؛

19- شكسبير: مكبث، ترجمة: خليل مطران، دار المعارف، مصر، الطبعة الثامنة، بدون تحديد لتاريخ الطبعة؛

20- كوردون كريج:في الفن المسرحي، ص:181-182؛

 Roman Ingarden: Les fonctions du langage au théâtre,Poétique,No8,2ème année1971,Seuil,Paris;
21- Anne Ubersfeld:Lire le théatre, éditions sociales, 4éditions; Messidor, Paris, 1982, p:22;

22-Anne Ubersfeld:Lire le théatre,p:21-22;

23 - د.نديم المعلا: لغة العرض المسرحي، ص:109-110؛

24- حازم شحاتة: الفعل المسرحي في نصوص ميخائيل رومان، ص:45؛

25 - Aston, Elaine and Savona, George: Theatre as sign system, a semiotics of text and performance, Routledge,New york,1991,

26 - Aston, Elaine and Savona, George: Theatre as sign system, a semiotics of text and performance, pp.82-90,

27 - نقلا عن د.نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، ص:35-36؛

28- نقلا عن د.نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، ص:37؛

29 - نقلا عن د.نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، ص:38-39؛

30 - عزالدين الوافي: بنية اللغة السينمائية، مطبعة اقرأ- الناظور، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:49؛

31- خالد دقي: السيناريو السينمائي من الفكرة إلى الشاشة، شركة مطابع الأنوار المغربية، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2008م، ص:58-59.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى