الأحد ١٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٧
بقلم مادونا عسكر

الإنسانيّة ومرحلة العبوديّة الخاضعة

تأصّلت العبوديّة في الشّعوب القديمة وامتُلك الإنسان من قبل الإنسان، وسُخّر لأجل غايات عديدة كالأشغال الشّاقة، والحروب، والزّراعة وسواها. والعبد مسلوب الحرّيّة شكّل ملكيّة خاصّة لسيّده ضمن ممتلكات عديدة. ولا ريب في أنّ السّعي للقضاء على الرّقّ مرّ بمراحل عديدة حتّى وصلت الإنسانيّة إلى مرحلة التّخلص من هذه الخطيئة الشّنيعة ضدّ الإنسانيّة، أي العبوديّة، الّتي تجرّد الإنسان من إنسانيّته ومن قيمته المقدّسة الّتي منحه إيّاها الله. إلّا أنّ العصر الحديث يشهد عبوديّة من نوع آخر، اتّخذت شكلاً مغايراً لمفهوم العبوديّة كما عرفته الشّعوب.
في بحثه عن الحرّيّة، لم يتنبّه الإنسان بشكل عامّ إلى شكل الحرّيّة الّتي يسعى إليها. فالتمس حرّيّة مرادفة للفعل الإراديّ الحرّ، الّذي قد يكون غالباً مقيّداً بالظّروف الاجتماعيّة، والسّياسيّة. وبالتّالي فهو فعل حرّ ظاهريّاً، إلّا أنّه في العمق يخضع لظروف عدّة تؤسّس لخبرات عديدة تؤكّد للإنسان لاحقاً أنّ هذا الفعل الإراديّ خلا من التّجربة. فالثّورات الّتي اندلعت على مرّ التّاريخ حتّى يومنا هذا لم تحقّق الحرّيّة للإنسان كما يُظنّ. ولم تؤدِّ إلى نتائج يستطيع من خلالها الإنسان الاعتراف بأنّه حصل على حرّيّته وتخلّص من العبوديّة. لقد انتقلت العبوديّة من مرحلة إلى مرحلة وتطوّرت إن جاز التّعبير. فمن عبوديّة الإنسان للإنسان، وشراء حرّيّته بالمال، إلى عبوديّة أشدّ فتكاً في الإنسانيّة، وأخطر من تلك الّتي يذكرها التّاريخ على أنّها منتهى الانحطاط الإنسانيّ.
في زمن الحرّيّات المختلفة الأشكال، كحرّيّة الفكر والتعبير، والحرّيّة الشّخصيّة وما إلى ذلك، يخضع الإنسان إراديّاً إلى عبوديّة مرَضيّة. وبقدر ما يسعى إلى حرّيّته المزيّفة يتوغّل في العبوديّة.
إنّه زمن العبوديّة بامتياز.
لقد اختار الإنسان عن وعي أو غير وعي أن يقيّد ذاته بسلاسل من ذهب ظنّاً منه أنّه تحرّر من قيود عدّة. في حين أنّه سجن نفسه بنفسه وكبّل شخصه في ثلاثة عناصر أساسيّة: الأنا، والوقت والآلة.
 عبوديّة الأنا:
من المهمّ أن نفهم أنّ الإنسان كائن يولد حرّاً بمعنى أنّه يولد متفلّتاً من مجتمعه وتأثيراته، وتقاليده ومميّزاته الخاصّة. لكنّه ما يلبث أن يلبسها وتلبسه ويتأثّر بها، وإمّا ينغمس فيها أو يسعى إلى التّحرّر منها. ومع الاختبارات الشّخصيّة تتكوّن أناه منطبعة بالمحيط والاكتساب المعرفيّ والتّجربة الشّخصيّة. بيد أنّ إنسان اليوم مسجون بأناه حدّ الانعزال الضّمنيّ عن العالم حتّى وإن بدا لنا اجتماعيّاً. فالتّمحور حول الذّات والولع بها يسهم في بناء سجن عميق شئنا أم أبينا يدخله الإنسان إراديّاً حتّى يموت فيه.
تسيطر الأنا اليوم على الشّخص بما يفوق قدرته على تبيّن الصّواب من الخطأ. فيركّز على شكله الخارجيّ، وتحقيق رغباته بغضّ النّظر عمّا إذا ما كانت تساهم في بناء إنسانيّته أم لا. فينحصر تركيزه على تحسين شكله الخارجيّ مستعيناً بكلّ ما أمكن للظّهور بصورة أفضل. في حين أنّ الدّاخل يهترئ ويتلاشى. وتحت شعار الحرّيّة الشّخصيّة الملتبس، ينتهك قيمة إنسانيّته ليكون حرّاً. تحتاج ممارسة الحرّيّة الشّخصيّة إلى عقل اختزن ما يكفي من المعرفة حتّى يتبيّن الصّواب من الخطأ، كما يعوزها روح حرّة تفلّتت من الأغلال الدّنيويّة بمعنى أنّها تأخذ منها كفايتها دون أن تتحوّل الحاجة إلى سيّد مستبدّ. والرّوح الحرّة تميّز بين الرّغبة والانحلال، وبين الحاجة والفوضى الغرائزيّة. وتتبيّن أنّ الحرّيّة الشّخصيّة تمتاز أوّلاً وآخراً باحترام الأنا كقيمة مقدّسة غاية وجودها البحث عن الجمال واكتشافه.
يمارس إنسان اليوم حرّيّته الشّخصيّة بجهل مقيت. وكلّما أراد أحدهم أن يظهر ذاته حرّاً يجنح إلى تبرير السّلوكيّات الإنسانيّة الّذاتيّة على أنّها حرّيّة شخصيّة. فيدافع عن الإجهاض والمثليّة الجنسيّة ومحاربة الآخر وغيرها من السّلوكيّات الّتي لا تمتّ إلى الحرّيّة بأيّ صلة. فتبقى حرّيّته الفكريّة مجرّد نظريّة يتباهى بها أمام المجتمع العارف بواقعه التّعيس. ومن ناحية أخرى، تشكّل هذه الأنا عبئاً على الإنسان لأنّ متطلّباتها الظّاهريّة إلى ازدياد، كعمليّات التّجميل ومتابعة الموضة بشغف وامتلاك ما يمتلك الآخر، إلى ما هنالك من منافسات على المستوى الظّاهريّ تبني الأنا الخارجيّة بمعزل عن العمق الشّخصيّ. لقد ضيّع الإنسان بوصلته وغرق في مستنقع الأنا الجائعة إلى الظّاهر فاهترأ العمق كي لا نقول مات.
 عبوديّة الوقت:
لا ريب في أنّ الوقت عنصر مهمّ في التّنظيم الحياتيّ، ولكنّه قاتل لا محالة؛ لأنّه مهدور في الأمور التّافهة والسّطحيّة . يهدر إنسان اليوم الكثير من الوقت في متباعة الوسائل الإعلاميّة الممنهجة في تعزيز الجهل من جهة، وفي الانغلاق على الأنا من جهة أخرى. ولو تأمّلنا بدقّة وعلى مدى أربع وعشرين ساعة من البث المتواصل وقيّمنا ما يعرض علينا من هذه الوسائل، لاحظنا مدى عبوديّتنا للوقت المهدور وتلمّسنا فراغنا المعرفيّ والثّقافيّ.
بالمقابل، تحوّل الوقت إلى عدوّ شرس، يسجننا في دقائق نجري خلفها لتحصيل الأموال من أجل إشباع رغباتنا الّتي لا تنتهي. يقال إنّ متطلّبات الحياة زادت وكثرت، ولا شكّ في ذلك. لكنّ مقياس الحرّيّة يكمن في كيفيّة فرز المهمّ من الحاجات والسّعي لتلبيتها وإقصاء الذّات عمّا لا تحتاج إليه. وإلّا فنحن عبيد للوقت الّذي يجرّنا من أعناقنا إلى موتنا الرّوحيّ.
 عبوديّة الآلة:
تحوّلت الآلة الّتي اخترعها الإنسان إلى نقمة سلبته حرّيّته لأنّه ما عاد بإمكانه العيش دونها. هذه الآلة الجماد تستغلّ الإنسان في كلّ لحظة حتّى بات مماثلاً لها أي ما يشبه الجماد. وقد أخذ الإنسان على تطوير الآلة الّتي كانت هي كذلك تعيد تشكيله ليصبح عبداً لما خلقه بيديه، ففقد قدرته على تلمّس الجمال، وضلّ طريقه نحو الخلق والإبداع. كما فقد إرادته على وضع أهداف وتحقيقها. لقد سرقت الآلة من الإنسان الحلم، والخيال، والرّغبة في الإنتاج الشّخصيّ. وإذا اندثر الحلم والخيال، فكيف يمكن للإنسان بعدُ أن يتحدّث عن الحريّة وهو مستعبد للجماد؟
لعلّ الإنسان يعيش كذبته الكبرى ومعبودته الوثنيّة العليا تلك المسمّاة "الحرّيّة"، فكيف يكون حرّاً وهو رازح تحت أغلال صنعها بحكمته الضّالّة، وأجاد تسويقها على نفسه ليكون عبداً؟ إنّه يمارس عبوديّته، وهو يغنّي ولكنّه في الحقيقة يندب روحه برثاء لا ينتهي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى