الأربعاء ١٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم زياد الجيوسي

الإنسان في نصوص جيهان قلعي

ليس من السهل الخوض بنصوص متناثرة على فترة زمنية طويلة تزيد عن ربع قرن من الزمان، فلكل مرحلة زمنية تأثيرها على الكاتب وعلى نفسيته وقلمه، فالكتابة ليست عبثا ولا مسألة ترفية بمقدار ما هي إنعكاس ومرآة لنفسية الكاتب ومشاهداته في زمن ما ولحظات ما، ويزداد الأمر صعوبة حين يكون هذا الغوص في نصوص صديق مجهول، لا تعرف عنه إلا بعض من حروفه وقليل من المسائل، وعليك أن تستجلي الروح من خلال هذه الحروف، وللحقيقة أنني حين أتعامل مع نص لا اعرف أي شيء عن كاتبه أجد المسألة أكثر سهولة، وما شدني حقيقة لأن أكتب هو إطلالتي على بعض من هذه النصوص عبر الشبكة العنكبوتية، فأثارت في داخلي رغبة بإبحارادبي و زاد من الرغبة إطلالتي على روح إنسانية تتجلى في سلوكيات لمستها عند كاتبة السطور، لذا إخترت أن أبحث عن الإنسان الذي يتجلى بين هذه النصوص المتناثرة ..الإنسان بروحه وتجلياته المختلفة..الإنسان الذي يحب ويُخدع ويتألم ويبحث عن الأمل والحنان، الإنسان القوي والإنسان الرقيق والإنسان المحتار وغير ذلك من تجليات صور الإنسان..

في نص ( نهاية حب ) نرى ألم المرأة التي أخذها الحب إلى أعلى الأعالي فيملأ الحب حياتها وتستند عليه
أتكئ عليه كلما تعثرت بوعثات يومي
وتكتشف الخيانة من الحبيب لذا فالسقوط من هذا المرتفع العالي له تأثير اكبروالنتيجة أنه يحطم أكثر
سموت في دنيا حبك
دون أن تعي بأنني كلما إرتفعت
كلما كان السقوط قاتلا

وواضح هنا أن صاحبة النص صورت حالة إنسانية منتشرة بكثافة في مجتمعنا ، إنه حب زوجة وخيانة زوج يعتبر الخيانة الذكورية زلة لا غير، وبمجرد أن إمتلك المرأة يطلق لنفسه العنان بالنزوات
رجل، وما يعيبني أن تكون لي نزوات
ويكمل كلماته التي تجتاحها كطعنات ..لكنها ترد عليه بنفس اللحظة..وهنا النص يشير إلى حوار مباشر ومواجه ..

فأنت إمرأتي التي أعود إليها
التي أكن إليها، والباقي عبور نسيم
فلتغفري لي زلاتي..
هل كنت ستغفر لي
لم لا تنطق
قل انك رجل يحق لك مالا يحق لي

هنا نرى الألم الذي يجتاح النفس ويحطم الروح، ألم الفقد والشعور بالمهانة وجرح ينكأ جراحات أخرى، جراح مجتمع ظالم يظلم المرأة ويعتبرها شيء مملوك ورجل تغفر له كل زلاته فقط لأنه رجل، أما المرأة فما عليها إلا الصمت والغفران وأن تتجاهل كل ما تسمع..

اما الألم فلا يمكن أن يفارق روح مجروحة، فتقرر إنهاء هذه الخديعة والكذبة، فتنهي النص صارخة..

دع قلبك يجف كجفاف قلبي

فقد هنت كما هانت عليك نفسي

بقايا حب، عنوانك أنت

أما أنا فنهاية حب ، أو لقد خذلتني

وكأن الحكاية لا تنتهي هنا..فسؤال يطرح بنص آخر بعنوان ( من أنا..من أنت ) فيكون العنوان هو السؤال ممن مس الروح أمام مشاهدة ثورة الكرامة لروح المرأة المجروحة فتجيب..

أنا من سأحمل بقايا حبي

وأنت هادرها

أو بعد هذا تسأل

من أنا ومن أنت ؟

فتنتقل إلى مرحلة الشعور بالخيبة في نص ( الصدى )،..
كم أخذ مني هذا البحر
أحزان حبي كلها ألقيتها على كاهليه مغلفة بالماضي
فهو الذي كان يشهد أدمعي
لكن الحلم بالغد لم يبتعد رغم الشعور بالخيبة والحزن..
كل صوت في الدجى رعب
في ظلمة الليل الموحش
لمن كان مثلي مفردا
دفن الأمس وفي انتظار الغدا

لكن الروح بعد الإنكسار تبقى بحاجة للحب، فلا تقبل بالهزيمة ولا تعتبر الفراق المكلوم هو النهاية للحياة، فتحلم بحب آخر بعيد عن الغدر والخيانة ونزوات النفس، فنراها في نص آخر بعنوان ( خذ بيدي )، بكل ما يحمله العنوان من رغبة في الحب ووصف حالة الانتظار، فهي تعبة من الوقوف وتعبة من الإنتظار، تنتظر حبا

يضحك، يبكي

يقفز في الهواء لبلوغ الأمل

هذا الحب القادم برغبة الشوق نجده مصوراً بوضوح في كلماتها..

أتوق إلى من يمسك بيدي

لنسير في دروبنا المتعرجة

تتناغم خطواتنا

للوصول معا إلى قوس قزح

وفي حوارية هامسة بعنوان ( قال ..قلت )، نجد روح الإنسان التي ترسم صورة لشكل الحب ومفهومه الإنساني، ويمكن أن نطل على هذه الرغبة بالمقتطفات التالية:
 الحب ليس ما فعلناه، الحب ما لم نفعله بعد.
 أنا إمرأة شرقية ينميها الحب ويقهرها النكران.
 شفافة أنا، اواكب ندبنا إلى أن نصل لمرحلة الكل.
 هل أداوي جراحي بك، هل تتفق جراحي معك، أم تنبت لي جراح تتطاير مع النسيم.
لنجد إنتقال بعد ذلك إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة ( الحيرة )، بنص يصور مرحلة مختلفة تماما عما سبق، وإن كانت إستكمال لمرحلة تمر بها النفس البشرية..حب وفراق وأمل وحيرة في مواجهة مرحلة أخرى..أقتطف هذه العبارات من نص ( الحيرة )..
 تمضي الأيام سلوانا،أسير بثبات تارة وأتعثر تارة.
 حتى يلملم سواد الليل نومي فأسامره وقته.
 تتيه بين شعور الخوف والإاقدام
بين نظراتها إلى الخلف والأمام
 فأحمل حقيبتي وأسافر ..لعلي أصل إلى النسيان
 كم أخاف السفر، كم أخاف المجهول
 أبحث عن أحلام سرقتها الأيام
 ما زالت تستوقفني محطات العمر

فهنا نتلمس بين العبارات الشعور بالوحدة بعد إستقرار، والرغبة في الخروج من واقع تراوح بين ألم وحلم إلى الانتقال لمرحلة أخرى رمزت لها بالسفر ، وهنا الحقيبة مدلول على بعض من ذكريات ورغبات ما زالت تحمل جمالا ولم تنس، فهي لم تفقد الأمل فما زالت محطات العمر تستوقفها، ولم تفقد الحلم كما لمسنا بالنص السابق ( خذ بيدي )، ويتكرر ذكر الحقيبة برمزيتها مرة أخرى في نص يحمل إسم ( حقيبة )، لكنها هنا تكون اكثر وضوحا بمدلول ومفهوم الحقيبة..

حقيبتي سنين عمري
أعشقها بمحتوياتها
هي عالمي، موطني

وفي ( التضاد ) نجد مرحلة الوصول للحلم للحب ، إلى محطة أخرى من مسيرة النفس البشرية، مسيرة الإنسان الذي يبحث عن الحب الملائكي الذي يلغي الزمان والمكان..
( نستقي حبا ملائكيا..تحوم شفافية تكوينه متحدة، تلغي الزمان والمكان وتصل إلى ذروة التحليق بين السماء والأرض ).( أو بعد هذا أبحث عن كلمات ) ..
وفي ( أيا إمرأة تمسك القلب بين يديها ) نجد الانسان الذي يريد أن يسمو ويحتج ويتمرد ويعلن العصيان في مواجهة زخم الحياة اليومية، هذا الزخم الذي يدمر الحب..

( هو ذلك الإنشغال يقتل أجمل لحظاتنا ليدخلنا في رتابة المفروض ).
أما في ( الزوايا ) فنرى صورة أخرى تختلف عن صور المرأة التي رأيناها في النصوص السابقة، فهنا زوج وشخصيتين.. زميلته وهي إمرأة قوية في شخصيتها وتأثيرها في مجال العمل مع إهتمامها الكبير بزوجها وأطفالها، وزوجته في البيت المرأة السلبية التي لا تمتلك شخصيتها ومهمتها أن تقول لزوجها..أنت السيد المطاع وأمرني انفذ، فهي لا تناقش ولا تعترض ولا تحتج وتترك القرار له وحده حتى لو شاورها فهي تقول له كما تريد فأنت اعلم مني، وفي النهاية نجد هنا الرجل يثور على هذا الواقع المر،لأنه هو ايضا يبحث عن الانسان وليس عن الآلة التي تنفذ فيصرخ حانقا وهلعا ( لما هذا الخضوع ، أين كيانك ..إبحثي عن ذاتك )..لكن السؤال يطرح نفسه..لو كان يرغب بالمرأة صاحبة الشخصية من الأصل فلماذا بحث عن ابنة السابعة عشر ليتزوجها ؟؟ أم هو تناقض بين رغبتين في داخل الذات البشرية !!!

في ( كومة لحم ) نجد نصا مختلفا عن كل النصوص ولكنه بشكل او بآخر يمثل لها إمتدادا، فهنا المرأة طفلة بيعت في أسواق النخاسة لرجل كل مؤهلاته أنه يمكنه دفع المال الوفير لذويها تحت بند الزواج، وما هي الا عملية بيع وشراء وصاحبتها ضحية اخرى من ضحايا المجتمع والتخلف، فتكون النهاية أنها ترمي نفسها من نافذة سجنها إلى الرصيف لتنهي المأساة..

 هي تكسر ألف مرة في اليوم
من أقرب الخلق وتسلب الكلام
  هو ذو العزة الغافية المترفة
ذو السلطة ورب الحريم الكثار
  هي ذلك الجسد الغض المباع
المفعم بالطفولة قليل الأعوام
  هي ترى النور من نافذة تقابلها
تكفي جسدها من التحليق بوئام
  هي كومة لحم عاري منغرس
ملتصق بالرصيف أمام الأنام
الانسان يتجلى في بكائية ( أفول شجرة ) والتي تتحدث عن وداع إنسان عزيز، فالفراق والفقد هي من اكثر المسائل التي تصيب النفس مهما بلغت غلظتها، فكيف بالنفس التي تحمل في ثناياها روح الانسان ، فنجد صورة الوداع ..

عند الوداع..... بكى الشجر

وحجبت الغيوم السوداء القمر

وزلزلت الارض إيمانا بالقدر

ويظهر النص هنا صورة مختلفة لردود الفعل المختلفة في النفوس البشرية، التي تلتف حول الجثمان حتى قبل أن يوارى الثرى، فمن مؤمن إلى طامع إلى مستسلم
إجتمع الحشد حول عظم جثومها دون حراك

منهم من ينظر بحزن، منهم من يدعُ ومنهم من بدأ العراك

من يحق له اوراقك، من يحق له خشبك، ومن سيبكي نواك

ويح قلبي ما أرى من تملق، من دناءة نفس ونصب شراك

لكن روح الانسان تتجلى هنا بفلسفة حكيمة تسمو عن الماديات وتنصهر بألم الفراق، وتظهر هنا من خلال ..
هي ذي الدنيا، عظيم أنت فوقها وذليل بعد أن واراك
تفني عمرك جاهدا يكفيك قبلة من أفنيت لهم على محياك
والأغلب أنه الأم كما يشير النص الذي يلي هذ النص ( الفقد ) والذي يجيب على السؤال من خلال العبارات ..
  دمي لا يزال يجري في عروقك
  أم نسيت أنني شاركتك نفسي
وأنت في عمق عمق أحشائي
إن مفاهيما فلسفية عديدة تظهر في نصوص لاحقة ، ففي نص ( جروح ) ..
جروح لا تلبث أن تندمل
الا وتنزع قشورها
لتترك ذاك الألم
فتخلق حروفا أقرب منها إلى الدموع
أما في ( كبرياء ) فتظهر فلسفة الحب في الكرامة والكبرياء، فالخيانة لا تحتمل والكبرياء أكبر من الحب، ومن لا يحترم نفسه ويحافظ على كبريائه فهو لا يعرف الحب ومعناه، وفي هذا النص وبعد إستعراض للحب الذي دمرته خيانة تقول في النهاية..
نسيتك، لا والذي خلق السماء
ولكن لي عزة لا تندثر

انا إمرأة تنحني للنسيم

وتأبى للرياح أن تنكسر

ويتكرر الحديث عن الكبرياء في ( الجفاف )، فنرى الإصرار على الفراق بكبرياء..
طافت أكاليل فرقة سطح ماء

ألوانها الراكدة تعلن الخاتمة بكبرياء

فلنحفظ بقايا عشق وإن كان أشلاء

ليوم لا يبق فيه من الذكريات غير أصداء

وفي ( الشغف ) نرى صورة جميلة لشغف القلوب..

حديث اللسان يمور بفرق

يجور على النفس إن كان يهذي

فالقلب أدرى بشغف شوق

برعش أوتار، ببكاء لحن

( الصمت ) فلسفة للصمت حين يكون معبرا أكثر من الكلام، فالخوالج هنا تقودنا إلى سراديب دواخلنا تنتظر بصيصا لتخرج للنور، بشعاع أبدي عبر المدى تلهب من إغتسل بكحول النوى، وتبدأ الرقص على زوابع الأنغام..
كيف لا ألتفت لصمتك بعد هذا
والصمت أبلغ من الكلمات
أقنعة يرتديها البشر في حياتهم، إثنان يلتقيان في محطة القطار يمسك يدها وتمسك يده ويتناجيان وتلف الانفاس منهما ندوب القلوب، وفي المساء يفترقان بصمت وحرقة ككل يوم، صورة نراها مفعمة بصورة الروح الانسانية في ( المحطة ) ..
يحضن زوجته القابعة في إنتظاره
تحضن زوجها الغارق في بروده
فتقبع أحاسيسهم كرسيهم المعهود
تنتظرهم للصباح

مجموعة نصوص قصيرة حملت عناوين تشي بمجموعة فلسفات وحكمة في ثناياها، ففي النصوص المعنونة ( الإحتواء، الإشتياق، الواقع، السكون، الحسن، البحر) إقتطفت المقاطع التالية الدالة على روح الإنسان في النصوص..وهي إشارات ليست بحاجة إلى تفسير أو بحث، فالإنسان بروحه وفلسفته واضح فيها..

الإحتواء
عجبا سيدي كيف تشعر بالضياع
ووشاح روحي يدثر ثناك
الإشتياق
فأطلق العنان لقلبك بالهياج
ما عاش حب وارتوى
إلا بتأجج الفناء
الواقع
أسكب ما تريد من الندى
فالظامئ يرتوي ولو بقطرات
السكون
لي عالم مفعم بنور الشمس
هانئ من يجد فيه ملاذه
الحسن
الحسن حسن الرأي
والجمال في عين من يراه
وكل ما لدينا من إبداع الخالق
وما علينا الا أن نرعاه
البحر
حط الرحال فقد تعبت من السفر
وأسكن ديارا، الأساطير فيها ترتجى

وفي جولتي في نصوص جيهان قلعي إستوقفني بشكل خاص نصين هما ( الإتحاد ) و ( جميلة ) والنص الثاني إختلف عن كافة النصوص بأنه قصة قصيرة إنسانية..أما ( الإتحاد ) فهو مناجاة روحية لطيف بعيد وحبيب غائب، لم يؤثر البعد والغياب في هذا الحب الذي يتأجج يوما بعد يوم، فنرى العديد من صور شفافة وجميلة ومناجاة تداعب الروح في ثنايا النص، ولعلي حين تأثرت بهذا النص كان ذلك ناتج عن عادتي في نصوصي بمناجاة طيفي البعيد الذي يتكرر في كل نصوصي تقريبا وخاصة في صباحاتي اليومية للوطن.. وقد ارتأيت أن أقتطف بعض من زهور هذا النص للدلالة على الروح الجميلة الشفافة التي سادت هذا النص...

طيفك لا زال قابعا غرفتي

ألتقيه عند الإشتياق

فلا زاد قرب المسافات حبا

ولا أنقصه زود البعاد

.......

أوصد ابوابك كاملة

فلديك حبا، لو وزع على العالم لفاض

أن تكون أنا، أو أكون أنت

المهم هو الإتحاد

.....

أنا هنا ..أنت هناك

يجمعنا بدر في السماء

.....

لا توقف الزمان، بل إستعجله

لنصل الوعد، لنصل مملكة الضياء

عندها نهدم ذلك الجسر ونلتقي

ونسعد كما دائما بذاك اللقاء

( جميلة ) إبنة العاشرة طفلة ترقد في المشفى مصابة بحروق شديدة من جراء نيران إلتهمت مستقبلها في قذائف الحقد التي قتلت أهلها، الذين دفنوا في لبنان ضحايا من مجازر صبرا وشاتيلا، تلتقي بها راوية النص صدفة في مستشفى دولة أخرى، فتدخل في وصف يسوده ألم الروح الإنسانية فتجول بنا بين كلمات جميلة ونضجها وألمها ورغبتها أن تغير إسمها لأنه لم يعد يرتبط بها بعد هذه الحروق التي أصابت جسدها وشوهتها، تعبر عن ذلك بعبارة متميزة ( ظننت أني في قمة معاناتي بغربتي، ما أنا إلا حشرة أمام قمة معاناة طفلة لا تتعدى العاشرة )..

لم يحتمل جسد جميلة الغض الحروق والألم فتستشهد بحروقها لتنتقل روحها إلى السماء لتلتقي مع روح أهلها وأمها..تاركة الراوية ترن بأذنها عبارة الشهيدة الطفلة جميلة ( أعذريني ليس هناك من يستطيع إحتلال عرش أمي )....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى