السبت ١٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
من نحن؟
بقلم محمد زكريا توفيق

البداية، مجرد فكرة

الأرض التي نعيش عليها، تبدو لنا ساكنة. أجلس في البلكونة أحتسي كوبا من الشاي بالنعناع وقت العصاري. أمدد رجلي على كرسي حمام صغير، وأنظر إلى الشارع الخالي من المارة، فأجد كل شئ هادئ ساكن.

فأعتقد أنني ثابت لا أتحرك، لأن كل شئ حولي ساكن تقريبا، فيما عدا أوراق أشجار يداعبها النسيم، أو نباح كلب، أو ذبابة تطن هنا وهناك. تضخم بطنينها الصمت المطبق على المكان. لكن، هل أنا حقا ثابت ساكن لا أتحرك في مكاني هذا؟

الأرض التي تبدو لنا ساكنة، تدور حول محورها، أي حول نفسها، بسرعة ربع ميل في الثانية. في نفس الوقت، تدور حول الشمس في مدار شبه دائري بسرعة 18.5 ميل في الثانية.

احنا راكبين دويخة المولد. كل لفة بسنة من عمرنا. من يصل إلى الثمانين، يكون قد لف حول الشمس 80 مرة.

الشمس ومعها الأرض وباقي الكواكب، تتجه إلى النجم الواقع (فيجا)، في برج القيثارة، بسرعة 12 ميل في الثانية. استرها معانا يا رب. لأنه إن لم يغير فيجا مكانه، سيحدث التصادم. فلا يوجد لدينا عسكري مرور ينظم الإشارات بين النجوم والكواكب.

ليس هذا فقط، ولكن كل نجوم مجرتنا، مجرة الطريق اللبني، أو طريق التبانة، التي تراها في السماء أثناء الليل، وكذلك النجم فيجا والشمس، تدور كلها بسرعة 150 ميل في الثانية داخل المجرة.

المجرة نفسها بكل نجومها، تبتعد في الفضاء عن باقي المجرات الأخرى بسرعة تقدر بآلاف الأميال في الثانية. بسبب الانفجار الكبير في بداية نشأة الكون. لكن أين توجد المجرات الأخرى؟

هي توجد في الفضاء الكوني بعيدة جدا لا ترى بالعين المجردة. يمكن أن تراها بالتليسكوبات في المناطق السوداء بين النجوم. عدد المجرات يقدر ب 250 بليون مجرة، بمافي ذلك مجرتنا. عدد نجوم مجرتنا تقدر ب 200 بليون نجم، بما في ذلك شمسنا.

مجرتنا، مجرة الطريق اللبني، التي تشمل نجوم السماء وشمسنا، يبلغ قطرها مسافة يقطعها الضوء في 100 ألف سنة ضوئية. المجرات تشبه أنوار المدن الهربائية في الليل. عندما ننظر إليها من الطائرة، نراها بقع بقع متفرقة.

لكن عندما نكون داخل المدينة، نرى الأضواء متفرقة، مثل نجوم السماء. لأننا ننظر إلى النجوم من داخل المجرة.

كل هذه الحركة وهذه السرعات، تسير بها الأرض ومن عليها. بما في ذلك، أخينا الجالس في البلكونة، اللي هو أنا، والذي يحتسي كوب الشاي في هدوء وسكون، ويعتقد أنه ثابت لا يتحرك.

هذا هو الكون الذي نعيش فيه. كل أجرامه تسبح في الفضاء بدون موتور أو بنزين. هذا هو الكون الذي يحول فيه العصفور حبة القمح إلى أغنية، وتحول فيه البقرة حشائش الأرض إلى لبن. وتتحول فيه النواة إلى نخلة عملاقة.

فهل هناك شئ بجانب المادة في هذا الكون؟ إنني أبحث عن خطة أو فكرة أو رسم بياني على سبيل المثال؟

هل تعلم أن حجم جاروف واحد من التربة الزراعية يحتوي على كائنات دقيقة أكثر عددا من كل أعداد الجنس البشري التي ظهرت على سطح الأرض حتى الآن.

وأن مجرة الطريق اللبني، لو صغر حجمها إلى حجم الكرة الأرضية، لأصبح حجم كوكبنا أقل من حجم ذرة غبار لا ترى بالعين المجردة. فأين نحن من هذه الكائنات متناهية الصغر، أو هذا الكون متناهي الكبر؟

الإغريق، هم أول من جرد حروف الكتابة بالكامل. وهم، قبل الميلاد ب 500 سنة، استخدموا التفكير المنطقي فقط لاكتشاف الذرة. فقد جاء في الحوار بين ليوسيبوس وديموقريطس بينما كانا يتنزهان على شاطئ البحر، وهما يبحثان طبيعة المادة، ما يلي:

لابد من وجود نهاية لتفتيت حبة الرمل أو قطرة الماء. لأنه لو ظلت المادة تنقسم وتنقسم إلى مالانهاية، لبلغ حجم كل المواد من الصغر، بحيث لا تستطيع التفرقة بين واحدة والأخرى. وتصبح كل العناصر مثل بعضها.

إذن لابد أن يقف الانقسام عند حد معين. عنده، يصبح العنصر غير قابل للإنقسام. كلمة ذرة (Atom)، تعني في اللغة اليونانية، الغير قابل للانقسام.

تفكير عبقري اكتشف به فلاسفة الإغريق وجود الذرة قبل النظرية الذرية ل دالتون عام 1803م. هكذا كان يفكر علماء الإغريق منذ 500 سنة قبل الميلاد، وهكذا يفكر علماء الأزهر اليوم في القرن الواحد والعشرين.

لكن، هل حبة الرمل أو الذرة، يجب أن تكون مختلفة عن باقي الكون؟ وما يمنع هذا الكون الذي نعيش فيه، من أن يكون ذرة في عالم آخر متناهي الكبر، ومن يمنع كل ذرة من أن تحتوي داخلها على عوالم متناهية الصغر بالنسبة لعالمنا هذا؟

نسبية أينشتاين تقول بأن الأطوال والزمن نسبي. إذن هذه العوالم متناهية الكبر ومتناهية الصغر، يمكن أن تستخدم أبعادا وأزمانا تناسبها ولا غرابة في ذلك.

هل هذه العوالم محدودة العدد؟ ومن يمنعها أن تكون غير ذلك؟

على الأرض كان الإله المصري آتوم، الذي يعني اسمه، أنه الكل في شئ واحد. على الأرض خلق آتوم الكون، وكل شئ آخر. حيث أن آتوم هو الكل في شئ واحد، فقد خلق الكون بمجرد تسمية أجزاء من نفسه. إذن، هذا الكون الذي نعيش فيه، هو آتوم نفسه. الإله هو الكون والطبيعة.

فكر في القلب وتعبير باللسان أو الكلمات، هي الطريقة التي خلق بها آتوم الكون. طريقة كن فيكون. الفكر أولا، ثم تحول الفكر إلى مادة، والمادة إلى حياة. من ثم جاءت الصخور والبحار والبذور وبيضة الطائر وباقي الكائنات.

هل تعلم أن البيضة، إلى جانب كونها وجبة إفطار شهية، مسلوقة أو مقلية، هي أيضا فكرة؟ هل تصدق أن بيضة الطائر، تحتوي على أغنية مكتوبة بحروف كيميائية داخل الجينات؟

هل تعلم أيضا أن بيضة الطائر، بها رسم هندسي لبناء العش؟ وبها أيضا قائمة طعام، بوصلة مغناطيسية، ساعة تقيس الزمن، وخريطة لنجوم الليل؟ والقائمة لا تنتهي.

في عام 1950م، قام أحد العلماء الألمان، إي جي إف سوير، بدراسة 100 نوع من الطيور الصداحة، شحارير وبلابل، التي تهاجر بالليل في الخريف هربا من برد شمال أوروبا، إلى دفء بلاد أفريقيا.

أجرى سوير تجاربا على الطيور بهدف معرفة، هل الطيور قد تعلمت أصول الملاحة الجوية الليلية من آبائها، أم من مصدر آخر. بعض فقس البيض إلى كتاكيت في فصل الربيع، وضعها سوير في صناديق عازلة للصوت بمفردها.

كل كتكوت تمت تربيته بمعزل عن الآخرين تماما، ولا يدري حتى بوجود رفاقه. معزول أيضا عن رؤية الشمس والقمر والنجوم إلى أن يكبر بالكامل.

عندما جاء وقت الهجرة في الخريف، وضع سوير طيور التجارب في قفص كبير خارج المعمل في الهواء الطلق، تستطيع منه رؤية السماء بوضوح، وأخذ يراقبها عن كثب.

لدهشة سوير، وجد أن الطيور أثناء الليل، ترتص في صف، رؤوسها في اتجاه الجنوب كأنها تستعد للطيران. عندما تختفي النجوم بالسحب، أو بسبب تغطية القفص، لا يحدث هذا الاصطفاف.

الخطوة التالية، قام سوير بوضع الطيور، كل على حدة، في بلانيتيريم (نجوم وكواكب قبة سماوية صناعية). فوجدها تتجه وفقا للنجوم الصناعية التي تراها، كأنها حقيقية.

غير سوير من شكل النجوم الصناعية بحيث تبدو كأنها سماء سيبيريا أو سماء الولايات المتحدة، لكن هذا لم يمنع الطيور من تصحيح مسارها والاتجاه إلى مكان الهجرة الصحيح، أفريقيا.

ما يحدث هنا هو الغريزة وليس التعلم. خريطة النجوم، انتقلت من ذاكرة الآباء إلى الجينات، ومن جينات الآباء إلى الأبناء. ثم ترسل الجينات هذه المعلومات إلى ذاكرة الطائر كي يستخدمها.

قبل الفقس بيوم أو اثنين، يبدأ الكتكوت في التنفس داخل البيضة مستخدما الغرفة الهوائية الصغير في نهاية البيضة، والتي يتجدد هواؤها خلال مسام القشرة.

القشرة تصبح رقيقة في ذلك الوقت بسبب امتصاص الكتكوت الكلسيوم منها المستمر لتقوية عظامه. مع التنفس، يصدر الكتكوت أصواتا ضعيفة.

اكتشف العلماء أن البيضة المجاورة تسمعها وكذلك الأم. هذا يذكرنا بالبرنامج الإذاعي الرائع، علي بابا والأربعين حرامي. "هو لسه مصفرش؟ لسه. خايف منسمعش؟ لأ حنسمع."

هذه الأصوات هامة في تنظيم عملية الفقس. تجعل كل الكتاكيت تبدأ في النقر لتحطيم القشرة، التي أصبحت هشة، في نفس الوقت تقريبا. للخروج في آن واحد والهجوم على علي بابا، الحرامي الذي تجرأ وقام بسرقة الحرامية.

لكن، ما أهمية خروج الكتاكيت في نفس الوقت؟ لكي تتساوى فرصتها جميعا في الحياة، وحتى لا يطغى الأخ الأكبر على اخوته الصغار الذين يأتون من بعده.

هذا يقودنا إلى السؤال الهام. البيضة أم الفرخة؟ الجواب بدون تردد هي البيضة، هي الأصل. لماذا؟ لأن البيضة هي فكرة، خطة، رسم هندسي، رسالة، كتابة بالجينات والحامض النووي داخل خلية واحدة. يمكن أن تخلد وتنتقل من جيل إلى جيل. الكائن يموت، لكن جيناته لا تموت، إنما تورث.

يمكن أن تكتب على الصخر، ويمكن أن تنسخ بالضبط إلى عدد لانهائي من النسخ. يمكن أن تحفظ في ذاكرة عقل كوني إلى الأبد. لكن الفرخة المسكينة، هي المنتج النهائي، مصيرها الفناء.

منكوبة، كباقي الكائنات، بالميلاد والحياة والموت. ولا مهرب لها من الذبح والسلق ومرافقة طبق الملوخية. البيضة فكرة خالدة، أما الفرخة فهي منتج. هي مادة وحياة ومرض وموت.

مع انقسام البيضة، وهي خلية واحدة، تتحول إلى كائن عديد الخلايا. أثناء هذا التحول، يأتي الوعي. مع الوعي، تأتي اليقظة والإدراك. التي تجعل الطائر ينط برجليه برشاقة على الأرض، ويطير بجناحيه في الهواء.

يغني مع الربيع ومع تفتح الأزهار والورود. رحلة رائعة من فكرة مجردة، وخطة ورسم هندسي لا حياة فيها، إلى صنع كائن حقيقي تدب فيه الحياة.

وللحديث بقية، فإلى اللقاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى