السبت ١٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
قرأت لكم
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

البروتوبلازم وعلم الإنسان

هذا الكيان الذي نسميه (الإنسان)– يقول عنه الكاتب الهندي المسلم وحيد الدين خان في كتابه (الدين في مواجهة العلم)- (.. أنه مركب من بلايين الخلايا من البروتوبلازم.. وما البروتوبلازم؟! إنه مركب من مواد لا روح فيها، وهو يتمتع بقوة فائقة على التحول إلى الحياة.. إن (البروتوبلازم) بكلمة موجزة: (وحدة حياتية). ولكننا لا نستطيع دراسة هذه الوحدة الحياتية بالأسلوب الذي ندرس به العالم المادي..

  على سبيل المثال نعرف أن جزيء الماء يتكون من ذرة واحدة من الأوكسجين وذرتين من الهيدروجين، لذلك فنحن نستطيع بكل بساطة أن نخلط هذه الغـازات بهذه المقادير ونعطيها صورة الماء، أو نحطم جزيئات الماء ونحولها إلى الهيدروجين والأوكسجين.
 
ولكن قضية الإنسان تختلف تماماً عن هذا. لقد اكتشفنا الأجزاء التي توجد في البروتوبلازم كما عرفنا مقاديرها بكل ضبط، ولكن الإنسان لا يستطيع خلق الحياة بتركيب هذه العناصر بنسبها المعروفة. إننا نركب أجزاء البروتوبلازم بكل نسبها الصحيحة وبكل ضبط، ولكننا لا نستطيع خلق ذلك البروتوبلازم الذي يتمتع بالحياة، والذي يوجد في أجسامنا الحية، وعلى الرغم من أننا نستطيع خلق مركبات كيماوية أخرى بتركيب أجزائها بنسبها الصحيحة0 ولقد اتضح من هذا أننا لا نستطيع التصرف في الإنسان كما نتصرف في الأشياء الأخرى.

هذا هو عجزنا الأول فيما يتعلق بدراسة الإنسان.. أما عجزنا الثاني الأكبر والأهم، فهو أن كل دراستنا الطبيعية هي دراسة (جثة) الإنسان الميت، فلسنا نتمتع بعد بصلاحية دراسة الإنسان الحي. لقد اكتشف العلم كل الأجزاء التي يتكون منها البروتوبلازم، وقد اكتشف أيضاً مقادير كل هذه الأجزاء بنسبها الدقيقة، ولكنه أخفق في اكتشاف الترتيب الخاص في هذه الأجزاء، ذلك الترتيب الذي يبقي البروتوبلازم على قيد الحياة.

ولا يكاد يختل هذا الترتيب حتى يموت المسئول عن وجود الروح في البروتوبلازم في ترتيبه الخاص، لأن علمنا لا يستطيع تحليل البروتوبلازم في ترتيبه الخاص الذي توجد فيه الحياة، ولذلك يجب تحطيم ذلك الترتيب حتى نقـوم بتحليل البروتوبلازم وبتجربته في المعمل، ولا نكاد نحطم الترتيب الخاص للبروتوبلازم حتى تغادره الحياة. فالنتيجة إن البروتوبلازم لا يخضع للدراسة والتحليل إلا بعد خروج الروح منه. ولم يحدث ألبتة أن البروتوبلازم كان حياً وقت إجراء التحليل عليه.

  لنتخيل أن رجلاً ما يعقد العزم على اكتشاف حقيقة الإنسانية ليعلم الإنسان قانون الحياة.. فللوصول إلى هذا الهدف يبدأ ذلك الرجل في دراسة المجتمعات البشرية، وبعد دراسة طويلة يكتشف أن المجتمع البشري لا شيء سوى أنه مجموعة البشر، وأن الطريقة المثلى لفهمه ودراسته هي دراسة فرد واحد من المجموعة البشرية للوقوف على حقيقة المجتمع البشري كله من خلال ذلك الفرد. ومن ثم يترك الرجل (المجتمع) ويشرع في دراسة (الإنسان) ويتجه أول ما يتجه إلى علم النفس ظناً منه أنه سيكشف عن طريقة حقيقة الإنسان.. ولكنه يشعر بعد قليل أن علم النفس ليس فكراً واحداً، وإنما هو علم ذو فروع كثيرة جداً.. والنتائج العلمية لكل هذه الفروع متباينة فيما بينها تبايناً كثيراً وجذرياً، فبينما يدعي فرع من فروع علم النفس أن مركز جميع الأعمال في الإنسان هو (الإحساس)، يدعي فرع آخر أن كل عمل إنساني هو في حقيقته رد فعل لتأثيرات العالم الخارجية، ويزعم بعضهم أن الغريزة الجنسية هي التي تحرك جميع الأفعال، على أن بعضاً آخر قادتهم الدراسة إلى أن الرغبة المجهولة في الوصول إلى المثالية هي التي تحرك الإنسان، وثمة مدرسة فكرية تقرر أن الشعور هو الأصل، وأنه لا شيء يمكن تسميته بالذهن أو العقل، وأن قوة مركزية واحدة ليست هي التي تدير كل الأعضاء، بل إن العضو الذي يوليه الإنسان الاهتمام الأكبر هو الذي ينمو ويتطور، ومن هنا يصبح بعضهم راقصاً بارعاً، والآخر مفكراً.. إلى غير ذلك. ولقد بلغ الصراع بين مختلف مدارس علم النفس أقصاه لدرجة أن بعض العلماء قد ذهب إلى إنكار وجود شيء اسمه (علم) فيما يتعلق بالنفس.

ونعود إلى ذلك الرجل الذي عقد العزم على اكتشاف حقيقة الإنسان، فهذا الرجل سيرى الآن بعد مشاهدة هذه الغابة الفكرية أنه يجب دراسة الإنسان في ضوء علم آخر وليكن علم (الطبيعة) لكي يقارن نتائج هذا العلم بنتائج علم النفس.. وسيبدو له أن الإنسان في ضوء علم الطبيعة مجموعة من أنظمة الهضم والتنفس ودوران الدم وغيرها. وهذه الأنظمة تقوم على أساس تغيرات كيماوية تطرأ بسبب الفعل ورد الفعل في هذه العناصر الكيماوية.. وسيبدو الجسم الإنساني لهذا الرجل في ضوء هذه الدراسة معرضاً للتحليل الكيميائي.

وعندما يفكر هذا الرجل في هذه النتيجة فإنه سيصل إلى أنه ما دامت نشأة الجسم الإنساني رهناً للتحليل الكيماوي وتفاعلاته، فإن عليه– أي على ذلك الرجل– دراسة قوانين التغيرات الكيماوية، لأنه لا يمكن الحصول على معلومات قطعية وحقيقية عن الإنسان بدون هذه الدراسة.. ولذلك يبدأ في دراسة الكيمياء والطبيعة ويصرف حقبة من عمره في مجال هذين العلمين، وتقوده هذه الدراسة للطبيعة والكيمياء إلى دراسة الجزيىء والذرة، ثم يبدأ في دراسة العناصر التركيبية للذرة: الأليكترون والبروتون. ثم يكتشف بعد هذه الدراسة أن الكون لاشيء سوى أنه مجموعة (أمواج برقية).

والرجل المذكور يصل عن طريق هذه الدراسات إلى آخر فروع العلم الحديث: (علم الفضاء)، ولكنه بالرغم من وفرة المعلومات التي سيحصل عليها في هذا المجال سيشعر أنه يجهل حقيقة الإنسان أكثر من أي وقتٍ مضى، وسيجد ذلك الرجل الذي كان قد عقد العزم على كشف حقيقة الإنسان ووضع قوانين له.. سيجد نفسه قد ضل في عالم خيالي غامض لا يرى فيه شيئاً على الرغم من أنه يرى كل شيء..

 إن المريض الجاهل بالطب لا يقعد في بيته مستسلماً للمرض بحجة هذا الجهل. إنه يذهب إلى الطبيب بحثاً عن الدواء. فكون الإنسان محتاجاً لشيء ما، ثم إخفاقـه في الحصول على هذا الشيء، كاف في حد ذاته لأن يقنع الإنسان بأنه يحتاج إلى الإله.. الإله الذي جعله محتاجاً للأوكسجين، ثم خلق الأوكسجين في مقادير هائلة ونشره حول الكرة الأرضية.. وبنفس الطريقة جعل الله الإنسان محتاجاً لحقيقة الحياة، أرسل أنبياءه ورسله لينبهوا الإنسان إلى حقيقة وجوده على الأرض، وإلى غايته الحقيقية الكبرى في هذه الحياة.

 لهذا فإن جميع نظريات أولئك الذين يحاولون فهم الإنسان بعيداً عن هدْي الدِّين ستكون بالضرورة مستمدة من عنصر مادي، وبالتالي لن يكون هناك ما يفرقهم عملياً عن ملحدي القرن التاسع عشر..
 كما اعترف د. كاريل بأن: (علم الإنسان) لا يمكن وضعه عن طريق لجان ومؤتمرات خبراء العلوم المختلفة، بل يجب أن يكون لدينا عالم واحد خبير بكل هذه العلوم. إن فناناً عظيماً لم يظهر نتيجة إنشاء لجنة من الفنانين، ولا توصلت مجموعة من الباحثين بجهود جماعية إلى اكتشاف خطير.
 الإنسان شيء معقد للغاية، أو بتعبير أحد المفكرين: (إنه مجموعة من الأضداد لدرجة أنه من المستحيل أن ننشيء رأياً غير مشكوك فيه عن الإنسان!)..
 إن جراحينا يستطيعون تحريك المبضع في جوارح الإنسان المريضة إلا انهم لا يستطيعون استئصال إرادة الإنسان المجرمة. ولهذا السبب نفسه لا يمكن للأطباء والجراحين السيطرة على المرضى الأخلاقيين: مرضى (الإرادة المجرمة). والحقيقة إن الإرادة الإنسانية لا يمكن تقديمها بهذه الأساليب الاصطناعية، ولا سبيل إلى ذلك إلا باستعادة العقيدة الدينية، فتقوى الله وحساب الضمير وخوف الآخرة هي العوامل التي يمكنها تجنيب الإنسان إقتراف (الذنوب) التي نسميها الجرائم الأخلاقية..
 حقاً أصعب العلوم على الاطلاق هو (علم الإنسان)!!
 نحن من ناحية نعترف بعجز الإنسان الأبدي في الوصول إلى الإنسان، ولكننا من ناحية أخرى نحلم بأن يتمكن هذا الإنسان العاجز– في آخر الأمر- من تحطيم هذه العقبة، وهذا بالرغم من أن هذه المشكلات لا حل لها إلا بعد السيطرة على علم الإنسان نفسه، فما أعجب أمر هذا الإنسان، عندما يشير له سهم في الطريق إلى(الله) يأبى هو إلا أن ينعطف إلى الطريق المعاكس!!
 يرى محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية أنه يمكن تشبيه (الدين) بـ (الفن)!! فكما أن بعض الناس يتمتعون بقوة غير عادية في التذوق الفني، كذلك ينفرد بعض الناس بخصائص (العيون والآذان الداخلية) يلتقطون بها ما لا يتمكن الإنسان العادي من سماعه أو رؤيته، وهذا الشيء هو الذي قاد الإنسان إلى تجارب الدين.)..


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى