السبت ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨

التمرد الأنثوي في شعر فاطمة عكاشة (1)

الهادي عرجون

"الشعر مغامرة أحب أن أعيشها و أن أتجدد و أنا أخوضها، و أن أعبر بصدق عن خوالج المرأة كإنسان غرست في نفسه شجرة الممنوع و طوقت بأسلاك الحرام و توج رأسها بالحدود. أريد للمرأة في داخلي أن تشرح ذاتها، أن تكشف للعالم وجهها المتمرد الهارب من قيود الأمثال و التماثل إلى رحاب المتعدد. "(2).

هكذا تبدأ تعريفها و منظورها للشعر من منظور الأنثى واسعة الثقافة ومعرفة شاملة بدورها الفعال في المجتمع و نفيا للثقافة التي تفصل بين الأدب ألذكوري والأدب الأنثوي الذي يجعلون له تمييزا و تصنيفا و جنسنه لمفهوم الأدب ووظيفته و التي لا يمكن تمييزها خاصة و أن الشعر صار بوابة عبور و سجال نفسي بين الرجل و المرأة فكل منهما يكتب قصائد على لسان الطرف الآخر فيها من الشعرية الشيء الكثير دون أن نعرف في أغلب الأحيان إن كان كاتبا أم كاتبة.
لنعود إلى الشاعرة فاطمة عكاشة التي نشرت شعرها في أغلب المجلات الثقافية التونسية (الإتحاف، الحياة الثقافية، المسار، كتابات معاصر...) منذ سنة 1996 في فترة قل و ندر أن تنشر هذه المجلات قصائد أنثوية إلا إذا كان شعرها متميزا و ملتزما بتقنيات النص الشعري عموما.

من هنا ارتأينا أن نتناول بالدرس نص "الأنة المهملة" و نص حلم سيكبر كالحريق "لما فيها من التمرد النفسي و الشعري على قيود الكتابة النسوية المتعارف عليها عموما ومصداقا لقولها:

"أريد للمرأة في داخلي أن تشرح ذاتها، أن تكشف للعالم وجهها المتمرد الهارب من قيود الأمثال و التماثل إلى رحاب المتعدد".

تبدأ الشاعرة نصها بسؤال حائر يبحث عن جواب قد يأتي و قد لا يأتي:

(هل تطير النساء؟).

مع تكرار هذه الجملة الاستفهامية أكثر من مرة في نص "الأنة المهملة" حيث تكررت أربع مرات لتختمها بعبارة (لن تطير النساء) كأن الشاعرة هنا لم تعد تبحث عن إجابة لسؤالها فقد اكتشفت الجواب مع تعليلها رغم ما فيها من رمزية و غموض جعلت النص ينفتح على عوالم أخرى لتترك للقارئ الذي يقرأ النص من الخارج أن يجتهد و يقرأ نصها من الداخل من خلال نوافذ تحيل على انزياح اللفظ و إحالات مرجعية وظفتها الشاعرة كأحسن ما يكون التوظيف، لتترك للناقد محاولة فهم المعاني قبل إصدار الأحكام النقدية والآراء المسبقة و هذا الغموض يحيلنا لمقولة جبرا إبراهيم جبرا (3) بقوله: "إن كل عمل فني ذي أبعاد و غوامض يعرضه هذا للخطر "فالشاعرة تكتب نصها دون خوف أو صدام لأفكارها مع الواقع فهي تتبع مقولة" لارنست همنقواي"(4): "أكتب نصك و ألزم الصمت … "و لكن رغم هذا فصمت فاطمة عكاشة هو بوح و بوحها صمت فما بالك إذا كانت المرأة مبدعة تلتقي في رحابها المعاني و المفردات لتغزل لنا نسيجا شعريا راقيا لتنفتح على أفق لغوي يحدد الكمائن المجازية في نص الشاعرة العابر من خلال مجاز اللغة.

فالنص يمضي بنا إلى مفارقات و مشاهد تجتهد الشاعرة في تأسيس أبنيتها و قد أحسنت ذلك و تمكنت من اللعب على أوتار النص بحنكة قادتنا إلى جمالية و صور مجازية و استعارية اكتشفنا معها حلاوة النص و خصوبته الفنية المطلقة.

هكذا هي الشاعرة تتخبط بأنفاسها و أحاسيسها بين كينونتها الأنثوية في صراع داخلي بين سلطة الأب في مرحلة و سلطة الزوج في مرحلة أخرى و أحاسيس الأم الضعيفة العاجزة تارة و القادرة على الفعل و القدرة على التمرد فهي تتردد بين كونها امرأة بين مطبخها و تربية أبنائها تقول شاغرة في نص الأنة المهملة وهي إحدى النصوص التي نتناولها "وفي منزلي سبحتان و سجادة يتطهر في شيبها الكبرياء و إبريق شاي يهيئه للمساء" و كذلك حين تقول "أخرج الآن عمياء تاركة مطبخي فاتحا باب حرقته / قادحا مرجله لن أعد حقيبة طفلي..."

و هنا تتجلى لنا لحظة التمرد (أخرج عمياء) تمرد أعمى على النواميس تقول: "وهل أستطيع التوغل أنى أشاء" و لكن هذا التوغل مقيد بعد أن أصبحت أما فهي بين حالتين حالة المرأة العاجزة الراضية بالموجود الرافضة للمنشود "يفنين أعمارهن يخلن المناديل تزهر فوق الرؤوس/ ويحسبن دفء المنازل مملكة للشموس/ و تاج عروس ترصعه اللهفة المرهقة".

و كذلك حين تقول: "في مهد طفل تبسم... في علبة الكحل...خلف زجاجة عطر/ تضوع فجرا لكي لا يضيع الفراش المهاجر في الطرقات فتصفعه الأرصفة ؟.

و بين المرأة المتمردة على واقعها المنشدة نحو عوالم أخرى و لكن هذه العوالم يحكمها نمط جديد من الحياة يقيدها يجعلها لا تستطيع الإنعتاق عندما تتذكر أنها أصبحت أما تقول: "صرت أما... و لم أتعلم من الطير زقزقة الاعتذار"

و هذا ما يجعلها تجيب عن سؤالها الذي بدأت به نصها لأن الشاعرة تعرف الإجابة و لكنها تنتظر إنعتاقا و حرية و هروبا من نوع آخر "لن تطير النساء... لأن العواصف ترمي لهن طوق نجاة و بحرا بلا مرفأ / و مدامع تغفو على منشفة".

و الإنعتاق الذي تبحث عنه هو إنعتاق الأنثى (الشاعرة) من سلطة الأدب ألذكوري فالمرأة الشاعرة لم تعد تكتب عن عواطفها و مشاعرها و هو ما عبر عنه الشاعر و الناقد المغربي عبد اللطيف الوراري (5) في إحدى مقالاته حول الشعر النسوي العربي في أحد فصول مجلة "ذوات" إذ يقول: "و هو ما أتاح للدارسين أن يتلمسوا نشوء خطاب شعري نسائي يراهن بأنساقه و كيانه الذاتي على تحقيق جماليات مغايرة بقدر ما يرفض تبعيته لسلطة الخطاب الذكوري الفحولي التقليدي وإنطواء تحته، بل يتحداه و يتمرد عليه" و الذي يميزها عن الشعر الرجالي لأن المرأة تملك تعبيرات و تقنيات تعبيرية لا يملكها الرجل لذلك انتفضت الشاعرة من التعبير عن همومها و مشاعرها إلى التعبير عن هموم الأمة و هذا نتيجة لمخزونها الثقافي و المعرفي مع الموهبة المهارة في استخدام الصور الشعرية و البناء المحكم للمفردات مع حسن اختيارها للمواضيع و كيفية توظيف المعاني مع توظيف الموروث العربي (التاريخي و الديني) ويتجلى ذلك في نص "حلم سيكبر كالحريق".

"لا شيء يُوحي بالحوادث..
ربّما انبثـَقتْ عيونُ النّار من "عدَن"..

(إشارة إلى النار التي تقود الناس إلى المحشر في آخر الزمان)

تعقّبت الغزاة َ..
وربّما انحسر الفراتُ عن الذهبْ...
جبل من الذهب التهبْ...

(إشارة كذلك إلى انحسار نهر الفرات عن جبل من الذهب)

والناقة العجفاءُ تشرب من دماء فصيلها"

(إشارة إلى ناقة النبي صالح و فصيلها التي عقرها قومه)

كما ان الشاعرة تطرقت إلى صفتين في المرأة صفة المرأة التقليدية التي ترضخ تحت سيطرة الرجل همها الوحيد الأسرة و البيت و الأبناء و صفة المرأة المنفتحة على العالم المرأة المبدعة التي لها دور في المجتمع و التي تقف بندية أما الرجل الشرقي بتمردها على النواميس و كذلك على الأدب بصفة عامة خاصة و أن هذه الميدان احتكره الجنس ألذكوري لمدة عقود رغم وجود عديد الأسماء اللامعة في أدبنا العربي القديم و الحديث و التي وشحت سماءه بأجمل الفوانيس الفنية و هن لسن أقل إبداعا و حنكة و فطنة و كفاءة من الرجل من حيث المقدرة الفنية والإبداعية بل و تفوقت عنه و تاريخنا الأدبي لا يخلو من أمثلة جسدها الإبداع النسوي كأحسن ما يكون الإبداع.

كما لا تخفي الشاعرة رأيها من صمت رؤساء و ملوك العرب و التي تصفهم بقولها "هذا ملاذ الهاربات من المِحنْ "على أحداث عشناها و نعيشها إلى الآن و اكتفائهم بالتنديد والاستنكار كي يعودا إلى سباتهم و رقدتهم التي طالت و ستطول تقول في نصها "حلم سيكبر كالحريق"

"أنـّى لأقفاص الجزيرة أن تـُفـَتـّحَ..
إنّما كـُتِبت علينا سوْءة ٌ خلف الحجبْ
نتوارث الـلـّعناتِ تنـْقــُر من موائدنا
عبقَ الملوك
وماسة الـتـّـاج المكلـَّلِ بالغضبْ
تبكي وترقد ُثم تبكي أو تندّدُ ثمّ ترقد ُ
عند قبر ضجّ في تلـْك الدِّمَنْ..
هذا ملاذ الهاربات من المِحنْ.."

هكذا هي أنفاس الشاعرة فاطمة عكاشة تتردد بين المرأة الأنثى القانعة و المتمردة عن الموجود و الشاعرة الأنثى بثقافتها و اهتمامها بواقعها الوطني و العربي لتروينا من نبيذ شعرها ما يلهب زفير الكلمات و يفتح لنا أبواب التمعن و البحث في نصوصها التي تفردت بخصوصية خدمت تجربتها الفنية و الإبداعية.

(1)- فاطمة عكاشة شاعرة تونسية أصيلة مدينة صفاقس من مواليد 1973.

(2)- حوار مع الشاعر أجرته معها جريدة الرأي الكويتية في عددها الصادر بتاريخ الإربعاء 13 سبتمبر 2017.

(3)- جبرار ابراهيم جبرا (1920-1994) مؤلف و رسام و ناقد تشكيلي فلسطيني.

(4)- أرنست همنغواي (1899- 1961) كاتب أمريكي يعد من أهم الروائيين و كتاب القصة الأمريكيين.

(5)- عبد اللطيف الوراري شاعر و مترجم و ناقد مغربي من مواليد 1972.

الهادي عرجون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى