الأربعاء ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم عادل عامر

التنمية والقوة الناعمة

فإن الإصلاح يبدأ من تدخل الدولة لضمان كفاءة المرافق العامة، وتحقيق عدالة مقبولة في توزيع الثروات والدخول، ودعم الصناعات والمشروعات الوطنية الوليدة لمجابهة مشكلة البطالة، ودعم التعليم للقضاء على الأمية والتسرب والجهل، والتأثير على العادات والسلوكيات لجعلها أكثر إيجابية وأقل سلبية، وتشجيع الحراك الاجتماعي عن طريق محاربة جميع أشكال التمييز السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي بين المواطنين.

فإصلاح الدولة أمر حتمي لتحقيق التنمية والرفاهية، ولا يغني عنه تدفق الدخول الريعية أو المساعدات أو الاستثمارات الأجنبية، فضلا عن الحاجة الماسة لاستئصال الفساد في جميع المستويات، وإلا انتقلنا لحالة الدولة الفاشلة Failed State التي تعجز تماما عن القيام بوظائفها الأساسية، فلا تحمي مواطنيها ولا تضمن سلامتهم البدنية، وتعاني من اضطرابات داخلية وتدخل أجنبي في شؤونها، وانهيار منظومة العدالة، وانتشار العنف وعدم الاستقرار الظاهر. ورغم أن الحالة المصرية لا يبدو عليها هذه العوارض في الظاهر فإن مؤشرات وإرهاصات ذلك بدأت منذ مطلع الألفية بشكل قد لا يراه الناظر من الخارج لكن يدركه من يتابع ارتفاع معدلات الجريمة، وتردي الأمن والسلامة على الطرق، وانتفاضات يومية يقوم بها الناس في الريف والبدو وبعض المناطق العشوائية وأطراف الحضر الذين بدؤوا يحتجون على الدولة بشكل عشوائي عجزت القوى السياسية حتى الآن عن نظمه في خيط واحد من الاحتجاج السياسي في تيار عام للتغيير يتجاوز الحركات الاحتجاجية المتناثرة وأحيانا المتنازعة التي ظهرت على الساحة في السنوات الماضية.

لذا يبدو التساؤل عن منطق الدولة المصرية أسبق من السؤال عن طريقة توظيفها للقوة، إذ إن هذا التوظيف ينبني على قدرات الدولة من ناحية وإدراك صانع القرار للدور من ناحية أخرى. وقد لا تتوفر مقومات للقوة الصلبة، لكن الدولة توظف تاريخها أو مكانتها الرمزية فتخلق هذا الدور خلقا بالحركة الدائبة والسعي القوي فتكتسب مصداقية في مجال ما أو يبرز منها رواد في مجالات ودوائر ما بما يمنحها قوة ناعمة ذات تأثير.

والعكس، قد تملك الدولة مقومات القوة لكنها تهدرها لغياب وعي صانع القرار بالموارد الناعمة التي لدى الدولة، أو لقرار سياسي بتقليص الدور لأسباب تنشأ في عقله بناء على فهم محدد للمخاطر والفرص، من هنا كان اهتمام العلاقات الدولية بإدراك صانع القرار وبنيته العقلية والنفسية. لكن تنامي القوة العلمية والإعلامية لدول الخليج نتيجة توظيف بعض عوائد النفط في قطاعات التعليم والإعلام لتحقيق الاستقلال الكامل،

ولتوظيف تلك القوة الناعمة في محيط دول مجلس التعاون، وتراجع ريادة التعليم المصري المدرسي والجامعي لتعثر سياسات التنمية، وتقديم مخصصات الأمن على مخصصات الرعاية ونوعية الحياة في تخطيط السياسات العامة، وتردي الأوضاع المهنية، وفقدان السبق في مجالات الإعلام والإنتاج الفني، وصعود الحضور لدول مختلفة على الساحة العربية في مجال النشر والصحافة والفضائيات، كلها عوامل أدت لتراجع الدور المصري الذي صار يلاقي منافسة شديدة حتى في مجال مهرجانات السينما. ورغم أن الطاقة البشرية المصرية ما زال لها الصدارة في تلك المنصات العربية المختلفة، فإنها لا يتم استثمارها باعتبارها قوة ناعمة مصرية، إذ يحتاج ذلك لخطة واضحة واستراتيجية ثقافية تفيد من المتاح وتحول المخاطر والتهديدات التي تلقاها القوة الناعمة المصرية إلى فرص وآفاق، لكن العقل المصري ما زال يعيش في تاريخه وليس في لحظته، مستكينا لرصيد قديم لا يدرك أنه يفقده، رغم أن أرصدة الآخرين تقوم على قوته البشرية في أحيان كثيرة.

وما يسري على الثقافة والصحافة والإعلام يسري على التعليم، فقد تطور التعليم الجامعي في الدول العربية، ولم يعد التعليم المصري جذابا للغالبية العظمى من الشعوب العربية، والأجيال الجديدة الصاعدة، التي ستشكل النخب المؤثرة في مجتمعها لم تتعرض للتأثير التعليمي والثقافي المصري نظرا للغزو الأجنبي في تلك المجالات، من غزو ثقافي لغزو تعليمي-مدرسي وجامعي. وبعثات الدراسات العليا للدول العربية لم تعد تتوجه لمصر بل للدول الأجنبية أو لفروع الجامعات الأجنبية في دول الخليج. وسيكون لهذا أثر بالغ على تآكل القوة الناعمة المصرية التي كانت ظاهرة في هذا الضمار تاريخيا.

وبالنظر إلى الوضع في مصر حاليا، فإن هناك نظاما جديدا، أعلن منذ إسناد مقاليد الحكم إليه أنه يستهدف بناء دولة جديدة، وتحقيق تنمية شاملة، كما أعلن أنه يستهدف استعادة واستنهاض الدور الإقليمي للقاهرة، وهى أهداف يتطلب تحقيقها من بين ما يتطلب، استنهاض كل أدوات القوة والتأثير لدى الدولة المصرية، مع ملاحظة أن عبئا جديدا يضاف على الدولة الجديدة، ويتمثل في أنها تحتاج إلى استنهاض قواها الناعمة في النفاذ إلى مواطنيها أولا، لاستعادة العلاقة والروابط والتماسك بين الدولة ومواطنيها،

بعد أن أصاب ذلك التماسك شرخ واضح في عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك والسابق محمد مرسى، وبدا أن الرئيس عبدالفتاح السيسي يدرك ذلك بشكل جيد، فجاءت خطاباته منذ توليه الحكم، لتعبر بشكل واضح عن رغبته في أن يكون أبناء الشعب المصري شركاء في معركة إعادة بناء الوطن، كما حملت خطاباته مطالبات مستمرة للإعلام المصري بأن يلعب الدور المنوط به في التوعية بأهمية المشاركة المجتمعية في تحقيق خطة التنمية التي تطرحها الدولة، وتحمل ما قد يترتب على ذلك من تبعات معيشية، تتطلب قدرا من الصبر والتحمل، للعبور بالبلاد من عنق الزجاجة، والخروج بها من أزمتها الاقتصادية، إلى آفاق أرحب من تحسين معيشة المواطنين وتوفير فرص العمل للملايين من أبناء الشعب المصري، ممن يعانون من البطالة منذ سنوات.

الطريق إلى استنهاض أدوات القوة الناعمة المصرية واستعادة تأثيرها ونفوذها في محيط البلاد الإقليمي والعربي، بل وحتى لدى فئات داخل البلاد ليس ممهدا، فهناك تحديات كثيرة على الطريق، ومتغيرات عدة يجب على الدولة المصرية الاعتراف بها، والمبادرة إلى ابتكار طرق للتعامل معها، وعلى رأس ذلك تراجع مستوى كثير مما كانت تملكه مصر من أدوات وخاصة فى مجالات الإعلام والفن، فالريادة التي حظى بها الفن المصري على سبيل المثال، لعقوده عدة باتت تواجه منافسة لصالح بلاد أخرى، والمكانة الثقافية التي حافظت مصر عليها منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن الماضي كل ذلك لا يمكن تجاهله، ولا بد من مواجهته إذا كان مقدراً لجهود الإصلاح الراهنة أن تنجح، وبعض مما نواجهه الآن واجهته دول قبلنا. فالصورة السلبية للصين كدولة شيوعية فقيرة متعصبة ومنعزلة تهدد كل من حولها، تغيرت كثيراً بفعل الانطلاقة الاقتصادية الكبرى من ناحية، وأن الصين الآن، وليس أميركا، هي التي تتبنى «العولمة» وتدافع عنها. الهند كانت سلة من التخلف والفقر، ولكن الثورة الاقتصادية الرقمية دفعتها كثيراً إلى الأمام. روسيا بعد انهيارها الكوني استعادت كثيراً من الاحترام والمهابة باستخدامها للقوة في أوكرانيا وسوريا؛.

إنقاذ السمعة العربية جزء من عملية الإصلاح الحالية، ويتفاعل معها، ولكن ربما ينقصه القدرة على التواصل والاتصال، وباختصار: الرسالة التي ينبغي أن تكون واضحة ونقية من الضوضاء والتلعثم، وحازمة في توجهاتها الإنسانية، ونائية عن ثقافة المؤامرة، ومتداخلة مع الجهود البشرية لإنقاذ الدنيا من أمراضها، من أول الفقر وحتى الاحتباس الحراري. باختصار: أن يكون العرب جزءاً من العصر، وليسوا جملة اعتراضية عليه؛ ولا يعني ذلك بأي معنى ألا يصير العرب عرباً، فربما كان ما لديهم من حضارة أصيلة هو أهم ما يقدمونه للدنيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى