الجمعة ٨ أيار (مايو) ٢٠٢٠
بقلم جورج سلوم

الحب القاتل في زمن الكورونا

البشر يموتون حولنا كالذباب.. ولا حاجة لنا للبقاء هنا في بلاد الغربة.

تعالوا نعود إلى الوطن.. على الأقل نموت بين أهالينا.. ونُدفَن بكرامة في قبرٍ معروف.. بدل أن يحرقوا جثثنا هنا قي ألمانيا!

هيا بنا يا قوم فلنعُد إلى الوطن الحنون بالرغم من فقره وعوزه.

ما دمنا حبيسي البيوت قسراً هنا في برلين، فلنُحبَس بين ذوينا طواعية!

والساعة آتية لا محالة هنا في أوربا وقد لا تأتي إلى بلدنا الأم.. تعالوا نترك وطننا في الغربة ونعود إلى غربتنا في الوطن!

والوطن الآن فاتحٌ لنا ذراعيه بالرغم من احتمال إصابتنا بالكورونا.. ولن يتنصّل منا بالرغم من أننا تنصّلنا منه.. لن يتنكّر لنا مع أننا نكرناه.. يعترف بهويتنا الوطنية ناسياً أننا كفرنا بها..هيا بنا.

لقد أرسلوا لنا طائرة تنتشلنا من غياهب الكورونا.. والانطلاق غداً.. هيا بنا بلا أحمال ولا أثقال ولننطلق بما خفّ حمله وغلا ثمنه.

وتجمّعنا في الطائرة آلافاً من مواطنين.. وطائرة الوطن كالوطن لا تنظيم فيها.. اجلسوا كيفما اتفق على المقاعد وفيما بينها وعلى الأرض يا عرب.. بلا أرقام ولا درجات للحجز.

وطلعت علينا بابتسامتها العريضة تلك المضيفة التي تضع كمّامتها على ذقنها فقط..وقالت:

 أهلاً بكم في حضن الوطن الطائر.. لا داعي لفحص حرارتكم، ولكن سنكتب أنّ حرارتكم طبيعية بإذن الله.. وإن كانت غير ذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وانطلقت بنا الطائرة نحو الوطن وهي مُثقلة بركابها وأحمالها.. لقد ذكّرتني بزورق اللاجئين الذي هربنا فيه من الوطن.. وكانت الطائرة تتمايل بين الغيوم كما كان المركب يتمايل بين الموج.. وقتها كنا نصيح في الزورق من الخوف.. الخوف من الموت غرقاً والخوف من الشاطئ المجهول الذي سنصل إليه.

والآن في طائرتنا العائدة إلى الوطن نتصايح فرحاً كلّما تمايلت بين الغيوم المتلاطمة.. لا نخاف الموت في الهواء فهو ألطف من موتنا كغرباء في بلادٍ استوطنتها الكورونا.. ولا نخاف من مطار الوطن ولو وضعونا في الحجر لأسبوعين.. وحجر الوطن أهون من سجن الغربة.

خمس سنوات مضت علينا في ألمانيا.. وكانت تتمنّع عليّ وتتكبّر ولا تتواصل معي..والآن هي معي في الطائرة محشورةً بين الركاب.. سأذهب لأراها وسأعرفها ما دمنا كلّنا قد نزعنا كمّاماتنا.

تجوّلتُ في الطائرة المهتزّة مستنداً على أطراف المقاعد وأكتاف البشر.. وتذكّرت حافلات النقل الداخلي في الوطن المكتظّة بالأجساد المتلاحمة.. هذه هي اللحمة الوطنية التي لن تقوى عليها الكورونا.. احذروا من النشل وسرقة الجيوب..أليست هذه هي النصيحة في حافلاتنا الداخلية؟

وجدتُها أخيراً منطوية بين النسوة في آخر الطائرة..وضحكتُ إذ تذكّرت أنّ المرأة في بلادنا هي مواطنة من الدرجة الثانية فتجلس خلفاً.. ووجدتها تبتسم لي فمددتُ يدي مصافحاً.. وصافحَتني بشغف المشتاق لشريك واقع بنفس المصاب.. وانتشلتُها بصعوبة من بين صويحباتها كمن ينتشل غريقاً غائصاً في الوحل.

رافقتني لنتجوّل معاً في الممرّ الضيق بين المقاعد.. وسرنا إلى مؤخرة الطائرة حيث غرفة الخدمة وتجلس فيها مضيفة تحتسي الشاي.. وقلت للمضيفة:

 إنها خطيبتي وكنا سنتزوج غداً

ولم أبالِ بدهشتها من كذبتي.. ونظرْتُ في وجهها وكانت تبتسم راضية.. وأخرجَتْ من جيبها لوحاً طويلاً من الشوكولا قسَمَته نصفين وأعطتني فتمنّعت شاكراً.. قالت:

 دعكَ من الكورونا وخذ هذا النصف لك.

فرفضتُ ثانية، وكانت المضيفة تتفرّج علينا مبتسمة.. فقالت لها:

 ضعيه في فمه فيبلعه ويسكت ويخرس أيضاً!

ودحشَتْ قطعة الشوكولا الكبيرة بفمي رغماً عني، وأغلقته بأصابعها حتى ضمِنَت أني لن أخرجه.

ما أطيب فيروسات الكورونا من يدها!

وقالت المضيفة:

 بإذن الله ستتزوّجان بعد خروجكما من الحجر لأسبوعين فقط.

فقلت لها:

 ألا يمكن أن يحجرونا معاً لأسبوعين من العسل؟.. أو نموت معاً ضمن فترة حضانة الفيروس؟

كلّ شيء ممكن في وطننا.. تعالي ندّعي أننا زوجان ومن سيسأل عن أوراقنا الرسمية في ذلك البناء المعزول عن أهلنا؟

فإن خرجنا بالسلامة تزوّجنا شرعاً.. وإن متنا نموت كعاشقين.. عاشقين شهيدين قتلهما الحب في زمن الكورونا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى