الخميس ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

الحب.. كوسيلة للتعقيم!

هذه محاضرة طبية.. وجمهورك من طلاب الطب فقط وبعض الزملاء الأطباء.. وسيبويه اعتذر عن الحضور.. فلماذا تجهد نفسك في ضبط مخارج الكلمات؟..

عهدنا بالطبيب أن يكون جاهلاً بالعربية وهو حريص على ذلك وقد يغالط نفسه قصداً.. وكلماته مخلوطة بين العربية والإفرنجية فيكون أكثر إقناعاً.. وخطّه وجُمَله الركيكة لا يفكّ طلاسمها إلا الصيدلي.. إنه نوع من الشيفرة المتداولة!

هنالك مدقق لأخطائك الطبية.. ولا يوجد ناقد لمفرداتك.. وفاعلك المنصوب وجملك المتكسرة كأجنحة جبران لن يرتكس لها أحد.. تكلم عن العلل وليس عن الأحرف المعتلة.. والمناقشة في نهاية المحاضرة ليست في أحكام الهمزة المتطرفة وإنما فيما يخص الجديد في الطب
قلت:

 نعم نعم.. ولكن ماالمانع لديكم لو أدخلنا صوراً بيانية وتشبيهاتٍ بليغة في السياق؟.. سيكون ذلك أجدى وأكثر أثراً في نفس المتلقي.. ويعطي للأعضاء البشرية حسّاً عاطفياً يجعل الطبيب في النهاية أكثر إنسانية

لنتناول الدكتور نزار قباني (لنعتبره زميلاً هنا).. لقد ذكر النهد في موسوعته الطبية ملايين المرات.. تشريحاً ووصفاً ودراسة لميزاته الفنية والتعبوية.. وصف مكانه بالضبط وأعصابه وأحاسيسه.. وحجمه ومنزلته في قلوب الرجال..ومتى يكبر ومتى يصغر.. ولون حلماته ووظيفتها.. وأجرى له جراحة شاعرية حتى أنه فصّل من جلد النساء عباءة.. وبنى أهراماً من الحلمات..

لذا ترى طلابنا يقرؤون مبحث النهد في كتاب نزار بمتعة.. بينما يملّون ذلك الدرس في كتبهم الطبية عندما نستعمل كلمة الثدي..

كم هو تافه ذلك النهد إن وصفناه.. ككتلة شحمية متدلية وفيها فصوص شعاعية وحويصلات وأقنية لبنية تنتهي بالحلمة المفرغة؟..

وذلك النهد الذي تطير عيونك لو رأيت جذموره من صدرٍ مكشوفٍ قليلاً.. تراه غيرَ مُلفِت لو انكشف كاملاً على طاولة العمليات تدعكه بالمطهرات السائلة.. ثم تمسكه بيديك المغطاة بالقفازات المعقمة.. تقطعه وتضعه على الطاولة كجثة هامدة..قد ترسله بكيس بلاستيكي للدراسة النسيجية.. أو تفتحه من الأسفل وتزرع فيه كيساً (سيليكونياً).. ليبرز ويبدو شامخاً..وتقارن بين الثديين لتحقق التوازن المطلوب.. ثم يأتي غيرك ليصفهنّ بالكواعب الأتراب!
وأجاب كبير الأطباء:

 كلامك غير مقبول إنسانياً.. فالمبدأ الأساسي في احترام الإنسان كمريض.. هو الفصل بين العاطفة والجسد.. تخيل طبيب أسنان يقول إن مريضته تعضّ على العناب بالبرد.. وأن أسنانها لآلئ يفتر ثغرها عنها.. ويسيل رضابها كالشهد فيطفئ به لظى القلب..

وأنت تعلم علم اليقين بأن أسنان الفاتنات لا تختلف عن غيرها.. مليئة بمواطن النخر والسوس ولها نفس الرائحة العفنة..وأما ما يسمونه الرّضاب السكري فما هو إلا بصاق ولعاب ومزرعة جرثومية غريبة!

أو تخيل مثلاً أن طبيب العيون ينهار أمام عيون المها.. وتقتله اللحاظ الجارحة.. وتأسره خفقات الرموش.. ويرى الدموع عبرات تذوب على خدودها..فيلحسها بلسانه ويقبّل مواضع جريانها.. وماالدمع بالحقيقة إلا سائل لغسل العين.. وأنت تعرف كم هو غني بالجراثيم..وطعمه غير مستساغ إذ يسيل عادة مع مخاط الأنف!

قلت وقد استغربت النظرة المختلفة للأعضاء البشرية:

 ولكن يا كبير الأطباء.. عندما جلست أنت مع محبوبتك في يومٍ ما..وسمَحَتْ لك بأن تقبّل باطن كفها ورؤوس أصابعها.. هل سألتها إن كانت قد غسلت يديها بعد خروجها من المرحاض؟

ألم تستمتع يومها بطعم جراثيمها (العنقودية) المستوطنة في ثنيات جلدها؟

لماذا لم تأخذ عينة للزرع كمسحة جرثومية من تحت أظافرها الملونة؟.. ثم حمّمتها بالصادات الحيوية على سبيل التعقيم مثلاً!

لماذا تغوص في عرق إبطها وأنت تعلم أنه مجهرياً غني بالفطريات ذوات الروائح الغريبة؟
سأقول لك ماالسبب.. إنه الحب.. وهو أقوى المعقّمات المعروفة

ولن أنزل إلى أعضاء مادون الحزام..فهناك يصبح الحب طاهراً أبداً فلا إنتان ولا جرثوم ولا فيروس..كله يموت بالحبِّ الأعمى!

الأدب المقرون بالعاطفة يعطي بُعداً آخر لأعضاء الإنسان أكثر عمقاً مما تكشفه المجاهر الإلكترونية.. وهذا البعد متغير تبعاً للعاشق ونظرته للمعشوقة..

بينما مجهر الطب جامد وله وجه واحد يراه كل الباحثين بنفس الطريقة.. فالقلب مجرد أنسجة نابضة وعضلة تدفق الدم ولا يحوي صورة المحبوبة ولا يخفق من أجلها.. واللسان كتلة لحمية للبلع.. بينما يراه الأدب طويلاً أو قصيراً.. قد يكون مغموساً بالسم أو بالعسل!

عندما وصفت دوالي الساقين عند إحدى المريضات بهذه الطريقة.. هي عرائش تزركش الساق بعروقها.. تلتف وتتعرج حتى لتخالها دودات صغيرة تفترش الجلد المهفهف الشفاف ولا تقوى على عضه.. ضحكت المريضة وقتها وقررت تأجيل العملية إذ اعتبرت الدوالي ضرباً جمالياً مقبولاً.

لقد كتب عبد السلام العجيلي صفحاتٍ عن ارتفاع حرارته.. وكان من الممكن أن ينهي تلك الرواية بإبرة من خافض الحرارة.. لكنه كان يعالج سخونته كأديب وليس كطبيب!

ومن الصعب أن تجمع بينهما خصوصاً عندما يصبح الطب غازياً أي جارحاً أو هجومياً.. فأنا لن أستطيع أن أبتر قدم حبيبتي حتى ولو داهمها (الغانغرين) القاتل.. ولن أستطيع أن أفتح صدرها وأكشف قلبها لأجري لها عملية قلب مفتوحة.. قد تسألون عن السبب؟

ليس خوفاً عليها.. ولكن أخاف إن دخلْتُ إلى قلبها بالجراحة فقد أجد صورة رجلٍ آخر مستوطنة فيه.. عندها سأكون مضطراً أن أجهِزَ عليها.. كديك الجن الحمصي!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى