الاثنين ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٥
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

الخطاب التقديمي في رواية «وجع أيوب»

صدر في الآونة الأخيرة سنة 2015 م رواية للكاتب محمد نصار بعنوان: «وجع أيوب» عن دار الكلمة للطباعة والنشر بغزة، وتقع الرواية في (مائتين وخمس وخمسين) صفحة من المقاس المتوسط، موزعة على اثني عشر فصلاً، يحمل كل فصل منها رقماً، ولا يحمل عنواناً معيناً هكذا: (1)، (2 ) قارب فيها الكاتب مراحل متعددة من حياة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الصهيوني الذي امتد من سنة 1948-2014م.

ويقصد بـ"الخطاب التقديمي" في هذه المقاربة النقدية كل ما يسبق النص الروائي المركزي/ الأصلي من نصوص تكون في بدايته أو نهايته من عناوين رئيسة وداخلية وإهداء وتمهيد وغلاف أمامي وغلاف خلفي، وتقديم واقتباسات وتضمينات، وسيكتفى في هذه المقاربة بالوقوف عند عنصرين من عناصر مكونات الخطاب التقدمي، سيتم تحليلهما تحليلاً دلالياً وفنياً، وهما: العنوان الرئيس والتمهيدات؛ لما يشكلانه من أهمية بالغة في إدراك تجربة الروائي الإبداعية في هذه الرواية.
وستحاول هذه المقاربة أن تربط بين هاتين العتبتين النصيتين وسائر عناصر الخطاب التقديمي الأخرى من جهة، وبين النص المركزي / الأصلي من جهة أخرى؛ لعله يتوصل إلى أن ثمة صلة تربط مكونات الخطاب التقديمي فيما بينهما، وأن هذه العناصر لم تجئ مفككة لا رابط بينهما؛ بل جاءت متلاحمة، مترابطة عضوياً، يستحيل فصل أحدها عن الآخر، إذ يلفها جميعاً وشاح شعوري وفكري واحد يجسد فيه الكاتب رؤيته الذاتية، وتجربته الإنسانية.
أولا- العنوان الرئيس: "وجع أيوب":

يشكل العنوان المفتاح الذهبي للرواية، وهو الشيفرة التي يدلف القارئ عن طريقها إلى ردهات النص الأصلي، وهو الذي يمنح المتلقي التوجه الفكري والدلالي الذي يعبر عن سمات المشروع الإبداعي عند الكاتب محمد نصار دون أن يعني ذلك الاستغناء عن النصوص المركزية وتجاوزها.

وعنوان هذه الرواية مستوحى من القصص القرآنية التي وردت فيها قصة النبي أيوب-عليه السلام – اذ تشير كتب التفاسير والسير إلى أن النبي أيوب – عليه السلام – قد ابتلاه الله بالمرض الذي استمر ثمانية عشر عاماً متواصلة، وسبب له الوجع والألم مدة طويلة، بيد أنه صبر على هذا البلاء، ورضي بقضاء الله وحكمه، فعافاه الله من المرض وشفاه."
يقول المولى – عز وجل – في ذلك:" وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" ("الأنبياء: 83، 84)

أما في الرواية، فأيوب هو الشخصية المحورية التي يشكل الوجع والمعاناة ملمحاً أساسيا من ملامح شخصيته، فهو يرمز للإنسان الفلسطيني في كل مراحل حياته ونضاله وجهاده، إذ ابتلاه الله بالاحتلال الصهيوني الذي سلب أرضه، وأجبره على الرحيل عنها قسراً، ليسكن مخيمات اللاجئين, وقد تعرض لشتى ألوان المرض والألم والسجن والقتل والغربة والتشريد.
وإذا كانت ملامح شخصية النبي أيوب – عليه السلام – متعددة متنوعة، فإن الكاتب قد أخذ من هذه الملامح ما يتناسب وواقع البطل أيوب الفلسطيني وظروفه المعيشية، أخذ منه ملامح الصبر على هذا الوجع والرضا بقضاء الله وتدبيره.
إن أبرز الملامح التي استعارها الكاتب من شخصية النبي أيوب الحقيقي-عليه السلام-ذلك الملمح الذي يتجلى في اشتداد وطأة الوجع والألم والحزن. فأيوب عند الكاتب يرادف: "حرب ، نكبة ، نيلة....",(وجع أيوب:9).

يدرك المتلقي أن ثمة اندغاماً تاماً، واندماجاً متكاملاً بين صورة أيوب الحقيقي وأيوب الفلسطيني إلى الدرجة التي يمكن أن تكون ملامح الصورتين متشابهة إلى حد بعيد، وهكذا تتجلى ملامح النبي أيوب الحقيقي- عليه السلام – كما وردت في النصوص الإسلامية واضحة في صورة أيوب الفلسطيني، من حيث ملامح الألم والوجع والصبر على البلاء والرضا إلى حد الحمد عليه. ومن حيث إن الداء أثقل كاهل أمته وشعبه ، فأخذ يستصرخ الآخرين ممن كان حوله، كي يخففوا آلامه ويُعينوه على بلواه، ولكن دون جدوى.

بيد أن المتأمل بإمعان في ملامح الصورتين يكشف أن ثمة اختلافا بين ملامحهما وأبعادهما، ففي ملامح شخصية أيوب الفلسطيني أخذت تختفي تلك النغمة الراضية المستسلمة؛ لتحل محلها أبعاد تشعر المتلقي باشتداد وطأة الوجع والألم؛ الأمر الذي جعل أيوب الفلسطيني يصدر في مواقفه عن إحساس عميق بالضجر والسأم والتبرم.
ويجد المتلقي في ملامح أيوب الفلسطيني لوناً من الكوميديا السوداء تتمثل في مسحة من النقد اللاذع، والتهكم الساخر من الوجع الذي أوصله إلى حالة من اليأس والبؤس ناجمة عن ظروف واقعه المعيش : السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي

وفي بعض المواطن من الرواية يعيد الكاتب رسم أبعاد صورة أيوب وملامحه إلى الحد الذي تكاد صورته تقترب من معالم صورة النبي أيوب كما وردت في العهد القديم ، العهد التوراتي إذ يقول: إن الله قد عوّجني ولف على أحبولته، ها إني اصرخ ظلما فلا استجاب أدعو وليس لي حكم"، "قد حوط طريقي فلا أعبر، وعلى سبلي جعل ظلاماً، أزال عني كرامتي ونزع تاج رأسي، هدمني من كل جهة فذهبت وقلع مثل شجرة رجائي، وأضرم عليَّ غضبه (الآيات من سفر أيوب: 1 - 20 ).

وفي هذه الصورة تتجلى بعض ملامح أيوب الفلسطيني في نزعته إلى التمرد على الواقع المعيش، وما فيه من ظلم غير منصف، وانتقاص للحقوق المشروعة، ورغبة في التغيير إلى واقع أفضل، ومستقبل أكثر إشراقاً وضياء.
" نزولي إلى الشارع بعد أيام من تعافي الجرح جعلني ألعن ذاتي ... حجم الألم المغموس بمرارة الواقع وما فيه من شتى صنوف المعاناة فجر بداخلي أشياء لم أكن أتوقعها في أسوأ الأحلام وأبشعها، بيوت الصفيح جعلتني أستعيد ذكرى المخيم ببيوته وأزقته صور الدمار التي قاربت في حجمها ما هو قائم كم المباني أشعلت في القلب غصة يغلفها المرار..." ().
إن أيوب الفلسطيني أخذ يتمرد على القوى التي سببت آلامه، وفرضت عليه المصائب والمحن على الرغم من أنه لم يرتكب إثماً ولا جريمة يستحق من أجلها اشتداد وطأة الوجع والألم والمعاناة القاسية المستمرة .

ولم يكتفٍ الروائي برصد ملامح البطل المحورية "أيوب الفلسطيني"، وإنما أضاف إليها شخصية ثانوية أخرى تحمل اسم أيوب إنه رفيق الدراسة "أيوب صبري القيسي" من مدينة الخليل، ولا يخفي ما يحمله هذا الاسم من دلالات وحمولات غنية وثرّة، إنه يريد أن يقول للمتلقي: إن أيوب شخصية تكاد تكون ذات قسمات عامة شاملة في الشعب الفلسطيني، فوجع أيوب مزروع في كل ربوع الوطن، وإن تعددت الأماكن واختلفت اتجاهات أهلها وتوجهاتهم. أما لفظ "صبري" فهو يسند اسم "أيوب"، ويؤكد ملمح الصبر على البلاء والمحن .

ودال (القيسي) يشي بأنه فلسطيني عربي أصيل، فالنزعة العربية القومية متأصلة في ملامح شخصية (أيوب صبري القيسي)، وأن العرب القيسيين هم كذلك جزء من مصائب أيوب وأوجاعه ، وهم مكمن من مكامن محنه وآلامه .
وهكذا غدت شخصية أيوب الفلسطيني في الرواية شخصية رحبة المعالم صالحة؛ لأن تحمل دلالات عامة ، يمكن إضفاء ملامحها على كل فلسطيني داخل الوطن وخارجه .

إن الكاتب حين استعار ملامح شخصية أيوب الحقيقي، واستحضر صفة من صفات شخصيته، فإنه يرغب في إكسابها لوناً من الشمول والاتساع، فتغذو صالحة؛ لأن تتضمن صفات كل فلسطيني عانى هذه الأوجاع ، واكتوى بنارها .
ومن أبرز ملامح الاختلاف بين شخصية النبي أيوب – عليه السلام – وأيوب الفلسطيني ، ذلك أن الأخير لم يُعاف من آلامه وأوجاعه، وما زالت جراحه تنزّ، فما زالت آلامه وأحزانه تترى، وما زالت يشعر بعمق المأساة، وفداحة الخطب، فلم تنطفئ جذوة عذاباته، وما فتئت جذوة الأحزان والأوجاع مستعرة, تتفجر جراحه دماً، وتنز آلاماً عميقة ومؤلمة ومستدامة.
إن هذا البعد الذي أراد الكاتب إضافته إلى مضمونه الفكري، وإلى البناء المعماري لروايته قد عمق من رؤيته الإنسانية ، ووسع من رحابة دلالاتها وإيماءاتها الخصبة .

ثانياً - التمهيدات:

يعد التمهيد لوناً آخر من ألوان الخطاب التقديمي، وقد حظيت هذه العتبة النصية باهتمام المبدعين، فواظبوا على كتابة التمهيدات والتصديرات لإبداعاتهم؛ خشية أن تُساء قراءة نتاجاتهم، أو تنحرف نصوصهم على يد القارئين العاديين، وللتمهيد وظائف أخرى منها فكُّ شيفرات النصوص وتوجيهها، وإرشاد المتلقي نحو القراءة المفضية إلى الفهم السليم، وإقصاء التأويلات البعيدة غير الملائمة، فضلاً عن جعل القارئ يقترب أكثر من فهم النص الروائي المركزي.
وانطلاقا من حرص الكاتب "محمد نصار" على أن تكون روايته مقروءة، ومقروءة بشكل جيد، فإنه توسل عدداً من التمهيدات رام من ورائها الكشف عن الدوافع وراء إبداعه، وإظهار الطريقة التي يجب أن تقرأ روايته على ضوئها.
ومن ينعم النظر في رواية "وجع أيوب"، يكتشف أنها مقسمة إلى اثني عشر جزءاً أو فصلاً، يحمل كل جزء رقماً معيناً، أي: من رقم (1-12)، ولا يجدها تحمل عناوين داخلية، ويبدو أن الكاتب استعاض بالمتناصات الشعرية والنثرية التي تسبق الفصل أو الجزء عن العناوين الداخلية أو الفرعية .

فيجد القارئ اثني عشر تمهيداً، كل تمهيد في صفحة مستقلة بمفرده، لا يحمل رقما ولا أية إشارة، تشي بغرضه، بيد أن المتلقي يدرك أنه يسدّ مسدّ العناوين الداخلية التي تحملها الفصول، وفي هذا لون من ألوان التجريب في البناء الهندسي المعماري للرواية الفلسطينية المعاصرة .

ويمكن رصد هذه المقولات وترتيبها وفق ورودها في الرواية على النحو الآتي:

سوى الـروم خلف ظـهرك روم
فعلى أي جانبيـك تميل
القائل: المتنبي
"المنفى مهنة صعبة"
القائل: ناظم حكمت..
أهيمُ بالحسنِ حين ألقاه
وأرحمُ القبحَ فأهواهُ
القائل: ابن المعتز

"إن التخطيط للمستقبل دون إحساس بالتاريخ، كزارعة ورود بلا جذور في الأرض". القائل: المؤرخ دانيال بورستين
"استندت الثورة الصهيونية دائما إلي قاعدتين، سلوك مستقيم وقياد أخلاقية ويبدو لي أن كلتا الدعامتين تتعرض للتهديد والتضاؤل، فالدولة الإسرائيلية الآن تختنق تحت وطاة الفساد والطغيان والظلم ولهذا فأنا أري أننا نشهد نهاية المشروع الصهيوني على الأبواب وإمكانية فعلية،لأن يكون المشروع الصهيوني علي الأبواب وإمكانية فعلية، لأن يكون جيلنا هو الجيل الصهيوني الأخير".

القائل: أبراهام بورغ
زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا
أبشر بطول سَلامةٍ يا مِرْبَع
القائل: جرير

"لن يحصل الفلسطينيون على استقلالهم إلا بعدما يحصل الأمريكيون على استقلالهم". القائل: تشارلي ريز/صحفي أمريكي
"الذوق السيء يفضي إلى الجريمة".
القائل: هنري ستاندال
وما كان قيسٌ هُلْكه هُلْكُ واحدٍ،
ولكنّـه بُنيانُ قومٍ تهدّمـا...
وما شاب رأسي عن سنين تتابعت
علي ولكن شيبتني الوقائع
القائل : أبو طفيل الليثي.

وسيتم انتقاء بعض هذه النصوص؛ ليرى المتلقي مدى انعكاسها في النص الروائي المركزي/ الأصلي على النحو الآتي.
أما المفتتح الأول، فهو نص رقم (1) وفيه استدعاء لبيت المتنبي المشهور:

وسوى الـروم خلف ظـهرك روم
فعلى أي جانبيـك تميل

لم يقف الروائي في هذا الفصل عند استدعاء شخصية المتنبي من خلال استعارة بعض أقواله، وإنما كان يروم إلى جانب ذلك كله استحضار موقف الأمتين: العربية والإسلامية من سيف الدولة الحمداني في صراعه مع أعدائه الروم آنذاك، محملاً إياه الكثير من الدلالات السياسية، وذلك في قوله:

وسوى الـروم خلف ظـهرك روم فعلى أي جانبيـك تميل

إن استحضار الروائي لبيت المتنبي في هذا النص؛ إنما كان بقصد استدعاء شخصيته سيف الدولة الحمداني، ومواقفه البطولية في حروبه مع أعدائه الروم والمتخاذلين من المسلمين.

وتشير القراءة المتمعنة إلى أن الروائي المعاصر قد توحد في ذلك مع شخصية المتنبي، وامتزج معها بشكل واضح جلي، فالأعداء الذين كانوا يحيطون بسيف الدولة الحمداني من الروم ومن الداخل هم الأعداء الذين يحيطون بالشعب الفلسطيني اليوم، وموقف أولئك الحكام العرب والمسلمين من سيف الدولة، وتآمرهم عليه، وتركهم إياه وحيداً يقارع الروم، يماثل موقف بعض الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة في تخليها عن الشعب العربي الفلسطيني في غزة وخذلانه والتآمر عليه، وتركه فريسة سائغة لأعدائه الصهاينة، إن مثل هذا الموقف المتخاذل هو الذي أغرى الأعداء بغزة، ومن ثم شن الحرب عليها، وارتكاب المجازر الفظيعة بحق شعبها، ولم يكتفوا بذلك، وإنما حرضوا العدو على حرب أهل غزة، ومن ثَمّ صمتوا على ما اقتُرِفَ من جرائم ومآسٍ بشعة بحق هذا الشعب.

إن الروائي المعاصر لم يكن مجرد ناقل لنصوص أدبية تراثية، وباثٍ لها في روايته، وإنما عمد إلى توظيف هذه النصوص ببراعة واقتدار، فهو ينقل حرفياً ما قاله المتنبي، الذي ينسجم مع رؤيته وتجربته المعاصرة التي تفيد الاستمرار والتجدد، وامتزاج الخاص بالعام والذاتي بالجمعي، وكشفت عما تحمله الذات الشاعرة من هموم الفلسطينيين الجمعية؛ ليشي باستمرار موقف هؤلاء العرب في المستقبل والمتمثل في الصمت والخذلان؛ لذا يتحتم على الشعب الفلسطيني أن يعتمد على إمكاناته الذاتية في مواجهة المعتدين، إن مثل هذا التكنيك الحداثي في بناء الرواية الحداثية المتمثل في استدعاء التمهيدات يزيد من تكثيف الدلالة وتعميق التجربة.

ولعل السر في جعل بيت المتنبي بداية للفصل الأول من الرواية، يكمن في رغبة الروائي في أن يكون بيت المتنبي هو أول ما يقرؤه المتلقي؛ ليظل هذا البيت محفوراً في وعيه وإدراكه وذاكرته.

أما حياة البطل "أيوب صابر"في هذا الفصل فلا تختلف كثيرا عن ظروف سيف الدولة وحياته التي احتوت على فصول مأساوية تكالبت عليه المصائب والمحن وتعددت ألوانها منها: مأساة التهجير وترك وطنه قسراً، والدماء التي روت أرض فلسطين، وتشرد الناس من قراهم ومدنهم؛ ليصبحوا لاجئين يعانون هول المصائب وفداحة الخطب، وعلى صعيد حياة البطل الخاصة تمثلت تلك المحن في موت أخيه في عملية طهور، وهذه الحادثة رمز لآلام الفقد والخسارة والحزن، فضلاً عن تركه المدرسة، والانفصال عنها، وهو يرمز للجهل الذي بدأ يخيم على الناس بسبب الفقر والحاجة والفاقة.
أما نص رقم (2) فهو للشاعر التركي الحكيم "ناظم حكمت" الذي اشتهر بأنه شاعر الغربة والألم والسجن والمنفي، وقد جاءت مقولته:" المنفي مهنة صعبة"؛ لتعكس ما يعانيه أيوب الفلسطيني من تشرد ولجوء ورحيل خارج الوطن وداخله ومنفي وغربة وهجرة عن الأوطان المسلوبة، والشوق والحنين إليها .

أما نص الشاعر الفلسطيني "هارون هاشم رشيد" ، فهو يعبر عن حبه وعشقه لمدينة" يافا" التي ترددت في شعره أكثر من غيرها من مدن فلسطين، فهي رمز للمدن الفلسطينية الضائعة والساقطة في أيدي الصهاينة المحتلين. إن كثرة ورودها في شعره يغرس هذه المدينة وأمثالها في الذاكرة، ويحقق مقولة (كي لا ننسي).

إن الذي يتابع ورود هذه المدينة، في شعر هارون يظن أنه من مواليد مدينة يافا، لكن الواقع يقول إنه من مواليد "مدينة غزة"، وأن يافا كانت موطن زوجته من جهة، وهي رمز للمدن الفلسطينية الجميلة التي ضاعت فيما ضاع من مدن فلسطينية.

والبطل أيوب الفلسطيني في الرواية له علاقة وثيقة بيافا: فأمه من أبناء هذه المدينة، وله فيها صداقات متعددة، وله إليها زيارات متعددة، ولبث فترة من حياته في مدينة يافا يعمل من أجل الحصول على قوت يومه، وإعالة أسرته. وقد شاهد عن قرب ملامح هذه المدينة العربية ومعالمها التي تحولت إلى مدينة سبية في أيدي الصهاينة يعمل فيها أصحابها بالأجرة بعد أن كانت ملكاً تاماً لهم:"... نزلت وفي النفس صور من الماضي الجميل، يافا ببحرها وسمائها، بأريجها وعبقها، بأحيائها القديمة.. بحاراتها وأهلها..."( وجع أيوب 130 ).

وفي تمهيد آخر بدأه ببيت من الشعر:

وما كان قيسٌ هُلْكه هُلْكُ واحدٍ ولكنّـه بُنيانُ قومٍ تهدّمـا

إن استدعاء شخصية قيس التراثية توظيف لأغراض فكرية وفنية، فقيس هذا هو قيس بن عاصم، كان من سادات الناس في الجاهلية والإسلام، وكان إسلامه مع وفد بنى تميم، وفي بعض الأحاديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : " هذا سيد أهل الوبر " . وكان جواداً ممدحاً كريماً، وكان حليماً حكيماً ذا تجربة وحنكة، توفي سنة سبع وأربعين للهجرة . وقد رثاه الشاعر عَبْدة بن الطبيب بأبيات منها:

عليك سلام الله قيس بن عاصم * ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليتهُ منك منـــــــــة *إذا ذكرت مثـــلها تملأ الفما
وما كان قيسٌ هُلْكه هُلْكُ واحدٍ، ولكنّـه بُنيــــانُ قومٍ تهدّمـا...

لقد وجد الروائي تماثلاً وتشابهاً بين شخصية قيس التراثية وشخصية الشهيد الرمز ياسر عرفات، فموت القائد الرمز ياسر عرفات الذي كان فقده خسارة فادحة للشعب الفلسطيني يماثل فقد قيس بن عاصم، إن استدعاء هذه الشخصية التراثية في كرمها وحما وحنكتها وشهامتها وقدرتها على تحمل المسئوليات الجسام، والجهاد في سبيل الله - توازي ملامح شخصية ياسر عرفات في قيادته للشعب الفلسطيني وسعيه لنيل حريته وكرامته وبناء دولته الفتية، وما صاحب موته من شعور حاد بالفراق والإحساس بالوحدة. وقد أضاف الانقسام والقتال الداخلي بين الأخوة بعداً مأساويا على حياة الفلسطينيين، وأصبح الواقع مأساوياً عميقاً. وترك جراحاً غائرة في النفس والوجدان.

ويختم الكاتب الفصل الثاني عشر ببيت من الشعر الذي ينسبه إلى الشاعر أبي طفيل الليثي :
وما شاب رأسي عن سنين تتابعت ... عليَّ ولكن شيبتني الوقائعُ

فهو يعبر عن تجربة عميقة وحكمة مأثورة واتزان وعقل راجح. لقد مرّ الشعب الفلسطيني بمراحل مأساوية، وفجائع وأحداث دامية جعلت من الولدان شيئاً، وألحقت بالناس الهمّ والغمّ والألم والحزن، حيث أصبح الألم والوجع شعاراً للمرحلة. فتحول أبناء هذا الشعب إلى متسولين على أعتاب بعض المؤسسات الداعمة من صليب، وجمعيات، وإغاثة، ووكالة الغوث الدولية.

وفي هذه المرحلة استغلت بعض شرائح المجتمع آلام الشعب الفلسطيني، وغدت تتاجر بدمائه وآلامه، فشاع الظلم والغبن اللذين أفضيا إلى ضياع الحقوق المستحقة. وأصبح الألم الممضّ والواقع المرير، والمعاناة العميقة عنوان هذه المرحلة، يقول الكاتب:

"وفود اللجان التي توافدت علينا من كل حدب تحت أسماء ومسميات مختلفة: الصليب.. الإغاثة..الجمعية.. الخ اضطرتني إلى إغلاق بابي في وجهها جميعا وحين اعترض الأولاد وأمهم صحت على مسمع منهم وبحضور واحدة من تلك اللجان: لن أصور بطاتي، ولن أعطيها لأحد لأي من هؤلاء لصوص، يتاجرون بدمائنا...." (وجع أيوب: 254 )،
لقد حول العدوان وما رافقه من حصار الشباب إلى شيوخ غزا الشيب مفرقهم، وحني الحزن ظهورهم، وزرعت العدوانات المتوالية الهم والغم في نفوسهم. وغدوا في سلوكهم اليومي أصنافاً متنوعة وشرائح متعددة ما بين: إنسان واعٍ وآخر جاهل، ما بين متلهف على حصد أكبر قدر ممكن من المساعدات والمعونات والتبرعات، واستثمار هذا الوجع لمصالحه الخاصة وأهدافه الأنانية.

لقد أصبح صنف منهم موزعاً ما بين إنسان شريف، تعف نفسه عن اللهاث وراء هذه المساعدات، يغلق باب بيته في وجه أولئك الذين يدعون مساعدة ذوي الأوجاع من الفلسطينيين، وما بين لاهث وراء هذه المؤسسات، وآخر راغب في انتزاع حقه الطبيعي المستحق بالقوة وعنوة.
هذه الأصناف والشرائح المتقاطعة الأهداف والغايات هي صورة واقعية ترصد بصدق وأمانة ملامح المرحلة وأبعادها التي يعيشها الإنسان الفلسطيني في ظل مرحلة العدوان البربري على غزة والذي اكتوت بناره أصناف الشعب الفلسطيني برمتها، وهي صورة عميقة لمأساة "أيوب الفلسطيني" التي جعلت الشيب يغزو رأسه (فاشتعل شيباً).

ويلحظ القارئ على هذه التمهيدات ملاحظات نقدية لعل أبرزها ما يأتي:

يدل استحضار هذه التمهيدات على ثقافة الأديب الواسعة والمتنوعة، وإدراكه العميق لتلك المقولات وتوظيفها كعتبات نصية تعين القارئ على الولوج إلى جسد النص المركزي، والتجول في ردهاته وعوالمه .

جاءت هذه التمهيدات متنوعة متعددة، موزعة بين تمهيدات تراثية وحديثة، شعرية ونثرية، وعربية وغير عربية، مقتطفة في معظمها من منجزات كتاب وشعراء ومفكرين ومؤرخين لهم سلطتهم لدى الكاتب، وهكذا تتوالى رموز فكرية وأدبية لها ثقلها في ساحة الفكر والأدب مثل: المتنبي، وجرير، وابن المعتز، وهارون هاشم رشيد. ومن الرموز الأجنبية يلتقي المتلقي: ناظم حكمت، والمؤرخ دانيال بورستين وأبراهام بورغ، والصحفي الأمريكي/ تشارلي ريز. وهذا يدل على اتساع الفضاء المعرفي لدى الأديب وعمق مخزونه الثقافي.

تعددت مضامين التمهيدات وتنوعت ما بين: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. تجمع ما بين مشاعر الفرح والألم، وأحاسيس الحزن، يجد القارئ أن هذه التمهيدات متشظية في ثنايا النصوص الروائية للنص المركزي، فهي لم تأتِ عشوائية أو اعتباطية؛ وإنما جاءت ذات طابع مقصدي، موظفة بطريقة مقصديه فنية منسجمة مع السياق الروائي، وليست مفروضة عليه .

يتكئ الأديب أحياناً عند استدعاء هذه التمهيدات النصية الخارجية إلى استحضار الأحداث والوقائع التي قيل فيه هذا التمهيد، والذي غالباً ما يكون بينها وبين أحداث الفصل الروائي تماثل وتشابه. كما حدث في استدعاء بيت المتنبي، وبيت أبي طفيل الليثي. ويبدو أن الكاتب كان يضع هذه التمهيدات والتصديرات بعد أن ينتهي من كتابة الفصل أو الجزء المرقم. إذ تتولد لديه فكرة عنوان الفصل، فيضع الثيمة الرئيسية والعنوان المناسب للفصل الذي تحمل مضمونة بإيجاز هذه المقولة.
جاءت هذه التمهيدات منسجمة فيما بينهما من جهة، لا تنافر ولا تعارض فيما بينهما، بل ثمة توافق وانسجام وتآلف، وهي في الوقت ذاته منسجمة ومتآلفة مع المضمون الفكري المحوري للرواية، والتي تدور حول رؤية الكاتب لواقعه المعيش وتجربته الروائية التي تبدّت جلية في العنوان الرئيس للرواية (وجع أيوب).

لم يكن قصد الأديب من وراء إيراد هذه التمهيدات استدعاء شخصيات قائليها ولا ملامحهم أو استحضار صفة من صفاتهم؛ وإنما كان قصده إبراز ما تحمله هذه التمهيدات من حمولات فكرية وإشراقات دلالية، ولما تحمله من قيم وجدانية، ودلالات فنية، إذ إن الذي يشغل بال الروائي هو "النص" في ذاته أو ما يكتنز به من قيم تراثية وفنية ذاتية.
عمد الكاتب إلى استخدام نصوص هذه التمهيدات كما وردت على ألسنة أصحابها أو أقلامهم كما هي دون أن يُجرِي تحويراً أو تغييراً في نصها التراثي؛ وذلك خدمة لرؤيته الروائية، وتجربته الإنسانية. باستثناء بيت ابن المعتز الذي جاء على النحو الآتي:

يهيمُ بالحسنِ كما ينبغي ويرحمُ القبـــــــــــــحَ فيهواهُ

ولم يتم العثور على هذا البيت في ديوان الشاعر؛ وإنما عثر عليه في صورته السابقة في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني .

كان الكاتب ينسب كل تمهيد إلى صاحبه، بيد أن هناك تمهيد واحد لم يسنده الكاتب إلى صحابه، وهو البيت الشعري ابن الأثير ، البداية والنهاية، جزء 5، سنة 47 ):

وما كان قيسٌ هُلْكه هُلْكُ واحدٍ، ولكنّـه بُنيانُ قومٍ تهدّمـا...

فهذا البيت ينسب للشاعر عَبْدة بن الطبيب، رثى فيه الفقيد "قيس بن عاصم" ضمن أبيات عديدة ، وربما يكون ذلك قد وقع سهواً من الكاتب، أو أن هذه المقولات غدت نصوصاً متداولة شائعة الذيوع والانتشار، معروفة لدى الجميع، أو أن الكاتب أراد الاتكاء على ذاكرة المتلقي ومخزونه الثقافي، بحيث يشرك في التعرف إلى المقولة بنفسه بدون مساعدة أو إشارة من الكاتب. وبذلك تتحقق اللذة الفنية والمتعة الفكرية والوجدانية له. فيقبل على قراءة الفصل أو الجزء إقبال المتشوق المتلهف.
من خلال ما سبق يمكن القول: إن المتلقي يكتشف البعد الفكري والفني الذي يزخر به الخطاب التقديمي للرواية ، الخطاب الذي يسهم في إثراء قراءة النصوص، وأن هذه التمهيدات لم توضع جزافاً أو عبثاً، وإنما كان الكاتب يتغيا من ورائها مزيداً من الدلالات والإضاءات التي تسهم في جلاء مضامينه الفكرية ورموزه الروائية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى