الاثنين ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤
بقلم أشرف شهاب

الروائى إبراهيم أصلان: يوجد بداخلى أصلان آخر..

واحد من الروائيين المتميزين الذين أنجبتهم الحياة الأدبية المصرية. ويكاد يكون علما من الأعلام الدالة على تطور فن الرواية العربية بشكل عام. مراسل "فلسطين" فى القاهرة أشرف محمود التقى إبراهيم أصلان، صاحب "وردية ليل"، و"مالك الحزين"، بالقاهرة وأجرى معه الحوار التالى:

 فلسطين: ما هى الملامح الأساسية فى مسيرة حياة ابراهيم أصلان؟
 أصلان: ولدت فى مدينة طنطا. وكان والدى موظفا فى هيئة البريد. وإنتقل للعمل بالقاهرة لكى يحص على علاوة امتياز خمسين قرشا. وكان كأب جدير بكلمة رجل بكل ما تعنيه الكلمة. وقد أنجبت والدتى اثنى عشر ولدا منهم خمسة ماتوا. وفور نزولنا للقاهرة أقمنا فترة فى منطقة الحسين، ثم أقمنا فترة أخرى فى منطقة باب الشعرية.

 فلسطين: هل لديك ذكريات طفولة عن منطقة الحسين؟
 أصلان: منطقة الحسن من المناطق الرائعة بحق فى محافظة القاهرة. وهى مخزن كبير للذكريات، ومصدر إلهام للعديد من الكتاب. ولكننى لا اتذكر من مرحلة طفولتى فى الحسين سوى مشهد واحد فقط أقف فيه على سلم بيتنا، وزملائى الأطفال ينادوننى. وأمى تقول لهم: "إبراهيم مش هيلعب معاكم لأنكم بتضربوه". ولكننى أتذكر أيضا أن رحلة متاعب والدى بدأت فى تلك الفترة، حيث دخلت بعد الكُتاب مدرسة أولية أهلية. ودرست فيها حوالى سنة تقريبا، ثم تركتها، ثم دخلت مدرسة إمبابة الإسماعيلية الإبتدائية. وبعد ذلك تركتها، ثم دخلت مدرسة لتصميم وهندسة السجاد، وتركتها كذلك. بعدها اضطر والدى لالحاقى بمدرسة عسكرية داخلية وكان سنى 15 سنة. ولأن هذه المدرسة كانت عسكرية ظللت بها سنتين. وحينما قامت ثورة 1952 أغلقت المدرسة أبوابها نهائيا. ولذلك دخلت المدرسة الصناعية فى مصر الجديدة. وكانت المواد التى يتم تدريسها فيها لا علاقة لها بالمرة بالعلوم العسكرية التى درستها فى المدرسة العسكرية. وحينما تركت هذه المدرسة أيضا أدرك والدى أنه لا فائدة من تعليمى فألحقنى للعمل معه بمصلحة البريد. وبعد ذلك عملت رواية "وردية ليل". ثم تم انتدابى بعد ذلك للعمل كنائب لرئيس تحرير سلسلة مختارات "فصول"، بعد أن كنت قد نشرت بالطبع كثيرا من الكتب بالهيئة العامة للكتاب. وفى ذلك الوقت كان سامى خشبة يرأس تحرير السلسة. والحقيقة أن كل هذه التقلبات والتنقلات جعلتنى عارفا بأصول حرف كثيرة من الصعب على إنسان أن يتعلمها جميعا مثل "الخراطة – الحداده – كهربة السيارات – الكهرباء"، وقد عايشت عشرات النماذج البشرية وآلاف الوقائع فى هذه الرحلة المثيرة.

 فلسطين: هل يمكن أن تقص علينا أحد هذه المواقف؟
 أصلان: أذكر مثلا ان عملى كبوسطجى كان فى منطقة "جاردن سيتى". و كنت مطالبا بتوصيل الخطابات لرجل غامض كث الشارب شقته ممتلئة عن آخرها بالكتب، عرفت أنه "بشر فارس"، أحد أهم رواد الأدب الرمزى فى مصر. وكان أحد مؤسسى مدرسة "أبوللو" الشعرية فى بدايتها وكان شاعرا ايضا.

 فلسطين: تبدو مسيرتك وحياتك الأدبية متقلبة، ومعقدة الملامح.
 أصلان: صحيح. لكن عموما أنا بداياتى الأدبية كانت عام 63. والغريب أننى بدأت بكتابة المسرحية، وليس الرواية أو القصة القصيرة. و أول أعمالى مسرحية من فصل واحد. وفى يناير 65 عاودت كتابة القصة، وقد أسعدنى جدا فى تلك الأيام صدور عدد خاص من مجلة "جاليرى" عنى، احتوى على مجموعات القصص التى تكونت منها مجموعتى "المساء"، ومجموعات من المقالات والدراسات عنى. وفى الحقيقة فإن أول من قدمنى للوسط الادبى كان علاء الديب فى مجلة "صباح الخير" و كتب مجموعة من الكلمات الرائعة التى لا تزال فى ترن ذاكرتى حتى الآن.

 فلسطين: كيف ترى العلاقة بين جيلكم والأجيال الأدبية الأخرى؟
 أصلان: أولا لا بد أن أوكد أن مسيرة الأدب متواصلة. ومهمة الأدب الأساسية فى الحياة أن يحقق نوعا من التوازن النفسى للمجتمع، فهو أحد أشكال الفنون الجميلة، مثله مثل الموسيقى والرسم، وهو غذاء روحى، ونفسى. لكنه يتميز عنها جميعا بأنه أرحب فى التناول. ويحقق تعادلا موضوعيا مع اشكاليات الحياة. و قد قدم جيلنا منجزات أدبية مهمة جدا، ووصل بالرواية إلى مستويات واشكال متقدمة. وأخذ كل واحد منا اتجاهه، وطريقه الخاص، وتفرد فى فهمه، ومعالجته للعمل الأدبى. واذا سألتنى أقول لك إن "بالامس حلمت بك" لبهاء طاهر، أو "الزينى بركات" لجمال الغيطانى أعمال بالغة الأهمية والروعة. وعلى رأسنا جميعا يأتى عمنا الكبير نجيب محفوظ لأنه ببساطة أسس الرواية العربية. وكل الذين كانوا قبله مهدوا الأرض فقط. أما نجيب محفوظ فهو الذى وضع الأساس المتين لهذا الفن، وقدم فى هذا الإطار جهدا بالغ الأهمية. وهو حاول تقديم نموذج لأزمة اللغة فى معالجة الرواية، وفعل ذلك باقتدار شديد، وثانيا قدم الرجل درسا عظيما فى احترامه البالغ لمن يتلقون العمل الأدبى.

 فلسطين: تبدو علاقتك بالكتابة شديدة الصعوبة. فأنا ألاحظ فى أسلوبك تعمقا فى التفاصيل، وقدرة على التشبيك بشكل محير!
 أصلان: لقد كنت أتحدث للتو عن نجيب محفوظ. وهذه مناسبة لأقول إن أهم فارق بينى وبينه أنه كاتب يحمل رسالة واضحة، كرس لها وقته وجهده وإبداعه. أما أنا فليست لى رسالة وراء ما اكتبه لأننى أبحث عن هذه الرسالة. وحتى الآن لم أعثر عليها،

 فلسطين: تبدو صريحا للغاية، ففى الغالب لا يعترف كاتب على نفيه بهذه السهولة..
 أصلان: هذه هى الحقيقة.. ولا أرى فائدة من إخفائها .. و يتولد لدى يقين أن الكتابة هى الوسيلة الوحيدة لتوثيق معرفتى بالدنيا. وانا دائما لا أكتب لأروى واقعة أو مشاهد فى إطار جميل، خصوصا، وأن ذهنى يحتشد بمئات التفاصيل، والنهايات التى تصلح مادة للقص أو للروى. ودائما أحاول أن أصل بالقارئ إلى العناصر الأولية التى تخلق الشعور بالحدث. وعلى سبيل المثال "الكيت كات" لها قصة. فقد كنا معتادين على الجلوس، ولسنوات طويلة على قهوة عوض الله. كنا أربعة أصدقاء، نلتقى يوميا. والمقهى – لمن لا يعرف- فى الأحياء الشعبية ليست مشروبا عابرا، أو جلسة سريعة، لأنها مكان يتشكل بنا.. بحيث إذا غاب واحد من أعضاء "الشلة" – أى شلة - فى يوم تغير شكل المقهى. وما لا يعرفه أحد أن البعض تصل به الحالة إلى إعتبار المقهى بكل أجوائها بمثابة أسرة توازى تماما أسرته فى المنزل، عليها يتبادلون طرح مشكلاتهم العائلية، والخاصة فى بعض الأحيان. وغالبا ما يتم الوصول إلى حلول عفوية محملة بخبرة السنوات التى يحملها المسنين من الرواد. لا أبالغ إذا قلت لك أن المقهى يحقق للمصريين هدوءا نفسيا، لا يستطيع تحقيقه لهم اساطين الطب النفسى فى العالم.

 فلسطين: تتحدث عن عدم وجود رسالة واضحة لديك تريد نقلها..هل لهذا السبب لم ترتبط بفكر سياسى محدد كمعظم المثقفين؟
 أصلان: الحقيقة أنى، وعلى الرغم من محبتى الغامرة للناس إلا أننى دائما أشعر بالغربة، والوحدة. يوجد بداخلى ابراهيم اصلان آخر. بداخلى جزء مهم جدا، هو أننى طول عمرى متأكد أننى لن أستطيع أن أُخضع ضميرى الشخصى للضمير العام. ومن هنا قرأت فى الوجودية، وأحببتها. وقرأت الماركسية، وأحببتها كذلك. لكن أفكارى بطبيعتها، وبدون أى اختيار منى كانت بجانب اليسار.

 فلسطين: من خلال عشرات ومئات الإبداعات التى تكتبها أو تشرف على نشرها.. أريد أن أعرف منك لماذا حدث ذلك التباعد بين الأدب والحياة؟
أصلان: لا يمكننى أن أتفق معك فى هذا الرأى. أنا لا أرى هذا الانفصال .. ربما ما يحدث هو حالة مختلفة أريد أن أسميها ظاهرة التناسل اللغوى.

 فلسطين: ماذا تعنى بكلمة التناسل اللغوى.
 أصلان: تعنى أن الكل يحاول الكتابة بطريقة معينة بأليات شبه معروفة، لكن هذا لا ينفى أن هناك مشاريع حقيقة للكتابة تسعى للانتساب الى الأدب، لكن ما يعيب هذه المحاولات أنها متعجلة، ومتسرعة.

 فلسطين: ما هى قراءاتك الأساسية؟
 أصلان: أنا لا اقرأ بإنتظام حتى أن هناك أدباء لم اقرا لهم إطلاقا ..

 فلسطين: مثل من؟
 أصلان: مثل المرحوم ثروت أباظة.. هذا الكاتب لم أقرأ له، ولا أنوى أن اقرأ شيئا مما كتب. كما أننى لم اقرأ لمحمد فريد ابو الحديد شيئا، ولا لعبد الرحمن بدوى، ولا لكثيرين غيرهم. لكننى ومن خلال نصائح الرجل العظيم يحى حقى أدركت أنه لابد من قراءة ديستوفسكى كاملا، وول ديورانت كاملا، وهكذا.

 فلسطين: ما هى روايتك المفضلة، ومن هو كاتبك المفضل؟
 أصلان: رواية "الحب فى زمن الكوليرا" هى روايتى المفضلة، وكاتبى المفضل هو صاحبها جابرييل جارسيا ماركيز. هذه الرواية لها مكانة خاصة فى قلبى، وأعاود قراءتها باستمرار.

 فلسطين: وشاعرك المفضل؟
 أصلان: أمل دنقل.

 فلسطين: عشت أيام الرئيس عبد الناصر، وأيام الرئيس السادات فما هى شهادتك كأديب ومثقف على العصرين؟
 أصلان: بالنسبة لعصر عبد الناصر، ورغم تجاوزات بالغة فيما يتعلق بقضية الحرية والديمقراطية، إلا أننى -مع الجميع تقريبا- كنا نشعر بحالة خاصة، ورائعة من الكبرياء، والزهو القومى، وبنفس الدرجة شعرت بأن هذا الكبرياء قد انكسر مع عصر السادات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى