الثلاثاء ٢٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
بقلم جورج سلوم

الرُّعاع

كان شعوراً مختلفاً عندما حضرت مباراة كرة القدم في ملعب برشلونا..فرّغتُ يومي كلّه من أجلها..واضطررتُ للذهاب قبل ساعات من موعدها إذ لم أتمكن من الحجز المُسبق على الانترنت..

والحقيقة أن ثمن البطاقة كان باهظاً يعادل ما يكفي للحجز في فندق فخم ليوم أو أكثر..وبيعَ بعضها في السوق السوداء..إضافة لمزايداتٍ على الانترنت شبيهة بما يحصل في المزاد العلني..

لذا اصطحبت ثلة من الأصدقاء وعسكرنا في محيط الملعب..عسانا نحظى بشراء بطاقات الدقائق القليلة التي تسبق المباراة.. وهي تباع عادة بالسعر الحقيقي لملء المقاعد المشتتة في الزوايا الميتة..يسمّونها في اسبانيا مقاعد الفقراء..

التحفيز كان كبيراً في محيط الملعب وسط الجموع المتهافتة..لباسك يوحي بأنك مع الفريق الملكي أو البرشلوني..والتحزّب ضروري وعفوي فتنقسم أنت ومرافقوك فرقاً تتراهن وتتصايح لمن تكون الغلبة قبل أن تبدأ المباراة..وعند الباب الداخلي يفرزوننا لنكون مع الجمهور الموافق لأهوائنا..وهذا ما جرى إذ حصلنا أخيراً على مقاعد متباعدة في زوايا الفقراء الظليلة..بحيث استمرت المناوشات الكلامية مع أصدقائي بالهاتف الجوال ضمن الملعب وسط هدير الجموع ولمّا تبدأ الموقعة المنتظرة بعد..

لقد بُحّ صوتي وساد الطنين في أذني قبل أن تنطلق صفارة الحكم منذرة ببدء الشوط الأول..وكنت معزولاً عن أصدقائي بحكم تشجيعي للفريق المعاكس لهم..وبالتالي كانوا في الزاوية المقابلة..يمكنني تمييزهم ومراقبتهم إذ أن الأضواء الكاشفة فوق الجماهير لا تُخفّف إلا بعد بدء المباراة.

بجانبي سيدةٌ ستينية العمر ولديها منظار مكبّر..تجول بواسطته في الملعب الأهليلجي الذي يموج بالمتفرجين والمشجعين..وتتحدث بالهاتف الجوال مع ابنها وصديقته اللذان تمّ فصلهما عنها لاختلاف الهوى والميول الكروية..قالت لي:

 بهذا المنظار أرى ابني قريباً مني..وأحدثه بالهاتف الجوال..تراهنّا بمبلغ كبير على النتيجة.. وأتمنى أن يكون الفوز من نصيب فريقه..وبالتالي أخسر رهاني بسعادة..فالشخص الوحيد الذي ترضى بأن يسبقكَ بل ويقهرك في منافسةٍ ما..هو ابنك!

وأضافت مبتسمة:

 الجلوس في زاوية الملعب ليس بُخلاً..إنه يعطيك رؤية بانورامية للأحداث..جرّب هذا المنظار المكبّر

أخذت المنظار..وتأملت أصدقائي بوضوح يهوجون ويموجون بين الجموع كسنابل القمح تطويها الرياح..مناظر جميلة مع موسيقى تصويرية مثيرة ابتدعتها الصيحات المتداخلة للجماهير المتحفزة والإيقاعات الموسيقية للنشيد الخاص بكل فريق..وكأنك أمام جيشين سيتقارعان..فتضبط أعصابك ونبضات قلبك ثم تفلتها من عقالها مع صفارة الحكم..

لماذا يكون التشجيع على أشدّه من الجماهير العادية..ويخجل الجالسون في مقاعد النبلاء من البوح بعواطفهم ؟...أم أنهم بلا عواطف ؟..هكذا قال المنظار المقرّب..

التصفيق والهتاف مطلوبٌ من الرّعاع فقط..وممن دفعوا ثمن البطاقات..أما من حصلوا عليها كهدية أو من كان وجودهم تشريفاً للملعب فهم لا ينفعلون..قد يبتسمون للعبةٍ جميلة أو هدفٍ جبّار..وطبعاً ذلك يحدث بشكل متأخر بعد أن يستفيقوا من غفلتهم على صيحات الرّعاع... فيبتسمون وتلتقط آلات التصوير بريق أسنانهم كسبقٍ صحفي...وهنيئاً لك أيها اللاعب فقد ابتسم لك (ذي المنصة).. اهتفوا أكثر يا رُعاع من زواياكم الميتة (فسادة القوم يطربون لهتافكم)..

أحسست بأنّ الفريقين قد انتصرا معاً بتلك الابتسامة الخارقة التي جاد بها (ذي المنصة )..لقد التقطها بوضوح منظاري المكبر..ذلك المنظار الذي مسحت به الجماهير متأملاً فلم أتابع ما يجري في الميدان الأخضر..

أحسست بأن تلك الابتسامة هي الهدف من المباراة..وأن ما يجري على الأرض هو اقتتال بين محاربين في المسرح الروماني القديم..قد ينتهي بإزهاق الأرواح فيسعد القيصر والنبلاء..ويصفق الرعاع ويهتفون على المقاعد الحجرية الباردة بأن تحيا روما!

إن كرة القدم بتركيبتها العصرية ماهي إلا صورة مستحدثة راقية عن ذلك المسرح الروماني.. ولذلك اكتسبت شعبيتها..

تخيل أنك تحضر مباراة عظيمة بدون معلّق رياضي..استمع للكلمات التي يستعملها المعلقون إنها كلمات الحرب..فرسان زرق وديوك حمر..ومهاجم ومدافع وقناص..وقذيفة جاءت في الزاوية القاتلة..وغيرها..وتصبح المباراة باردة بدون معلق تسمع صوته..وتصبح ميتة بدون جماهير الرعاع وكأنك تحضر تدريباً للفريق..وتصبح بدون قيمة إذا لم يحضرها القيصر أو من ينوب عنه..
الرعاع بحاجة دوماً للصياح لتفريغ الطاقات الكامنة لأن هناك من يصيح بهم في حياتهم العادية..وهم بحاجة للنصر الرياضي لترفرف أعلامهم كبديل عن نصر حقيقي..وبحاجة للجمهرة والتجمع لزيادة اللحمة الوطنية في مظاهرات مسموحة ويتصورون بها بكل وضوح..فيعودون إلى بيوتهم سعداء ولو خسروا..

لا تحزنوا هناك مباراة أخرى لاحقة تعوضون بها ما فاتكم..فالدوري الكروي يدور على مدار العام..ولكلّ حارة فريق ولكل مدينة ولكل دولة منتخب يمثلها..ويلبس علمها ويبدؤون اللعب بعد النشيد الوطني..إنها معركة شعوبٍ بدون دماء..ولذلك اكتسبت تلك اللعبة شعبيتها

لكنّ الدماء مطلوبة أحياناً لتفريغ الطاقات..ولذلك ابتدعوا مصارعة الثيران..وتفننوا في تعذيب الثور بالرماح الملونة..فيسفحون دمه في الملعب الدائري على وقع صيحات الرعاع وآهاتهم..كبديل متطوّر عن مقارعة الأسود والسباع في المسارح الرومانية...فيبتسم القيصر وتبحّ حناجر الرعاع فيصمتون..ويرون الدم المهراق فيرعوون..ويشاهدون انهيار المصارع الروماني العملاق أمام الضواري فيتعظون..

لماذا ألغت الدول الراقية تلك اللعبة الدموية من ساحاتها وملاعبها؟

هل شبعوا من الدماء؟

لا أظن ذلك..فالإنسان مهما ارتقى يبقى حفيداً لقابيل القاتل الأول..لكن وسائل الإعلام الحديثة أشبعتهم بدماء دول الرعاع..وانتقلت الملاعب الدموية إلى أراضينا..وتدحرجت الرؤوس عندنا ككرة القدم..وأصبحت المباريات الدورية تجري في دول الرعاع..حيث اللاعبون..ما أكثرهم.. وما أحيلى صراعاتهم واقتتالاتهم..خذوا ما شئتم من الرماح الملونة..وتفننوا في تعذيب الثور الهائج..

اتركوا كرة القدم العصرية لنا –هكذا يقولون في الغرب الراقي- فنحن من اخترعها ونحن أبطالها وحاملي كؤوسها..إن شئتم نرسل لكم الخبراء والمدرّبين..أنتم فقط رعاع نتفوّق عليكم في بقاع الأرض..مجرّد أعداد وهمية في مجموعات كأس العالم نتدرّب بكم..ثم تخرجون من اللعبة في الدور التمهيدي وتتركون الأدوار النهائية لنا..وتصفقون لحاملي الكؤوس وتتفرجون علينا بأبهظ الأثمان لتسعدوا وتتعلموا اللعبة..

ولن تتعلموا..يا أيها الرعاع!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى