الاثنين ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم ظافر مقدادي

الشاعر والكلاب

هوى الشاعرُ نجمةً في الفَلك الأخير.. ونبحتْ كلابُ القبيلة.

قالوا: هل يأتي خيرٌ من الجليل؟! سبحان الله يا محمود، صبّ اللهُ روحَهُ في رحمِ امرأةٍ في الجليل. يحتاجُ الموتُ الى مليونِ صَلْبٍ ليُسكِتَ شاعراً جاء من الجليل. ولن يُسكِتكَ الموتُ يا محمود.

ألَم تقُل يا محمود: (عندما يذهبُ الشهداءُ إلى النومِ أصحو، وأحرُسُهم مِن هواةِ الرثاء)؟ ها قد نبحَ هواةُ الرثاء، فمَن يحرسك أيها الشهيد؟

أتعلم أين دفنوك؟ في أوسلو.. لا أقصد عاصمة النرويج، بل عاصمة دولة بقايا أوسلو.. اتفاقية أوسلو التي رفضتها. وقالوا إنّ هذه كانت وصيّتكَ!! لا، لم ولن أصدّق الكلاب النابحة على جثة الأسد. الفرسانُ يُدفنون في أعلى شهقة شهقتها الروح، وروحُكَ كانت تَشهق بالجليل.

ألم تَصعَد الى حيفا؟ نعم حيفا التي (من هنا بدأت، وأحمدُ سلّم الكرمل، وبسملة الندى والزعتر البلدي والمنزل). ألهذا أعطيت مجلتكَ اسم الكرمل؟ لتقضِ بقية عمرك في كرملِك؟

أكّد أحد المُوَزَّرين، يا محمود، أنّهم لم يطلبوا من عدوك السماح بدفنك في الجليل، وقالت احدى المُوَزَّرات انها تحبذ دفنك في الجليل ولكن (الرئيس) فضّل دفنك في رام الله. هل سيدفنوننا جميعاً في اوسلو؟ ألم تقل يا محمود إنّ (رام الله بالنسبة لي مكان للزيارة) وإن (أكثر مكان موجود في نصّي الشعري وفي تكويني الثقافي هو حيفا). ألستَ القائل: (لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ لكي يؤنس البيت يا ولدي، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها)!.

أمّكَ يا محمود أرادتك بجانب أبيك في (الجديدة) لتحمل لكما قهوة الصباح وصحن الزيت والزعتر. وأصدقاؤك في الجليل شيّعوك، رمزياً، الى مثواك الأخير في (البروة).

ها هي كلاب القبيلة تنبح على جثمانك الطاهر. ها هُم الآن يُوَقّعون بجثتك على وثيقة بيع أصل الوطن والقضية – حق العودة – إذ أنهم يُعلنونها صراحةً أن لا مكان لك في جليلِك، حتى ولو قبراً صغيراً، أو كما قلتَ يا محمود (مِتران من هذا التراب سيكفيان)، فهل ضاق بك الجليل؟ استَعصَيتَ عليهم حياً فخطفوكَ ميتاً.

ولكن مُتْ قريرَ العين يا محمود، فقد وعدوا بأن يدفنوك في القدس بعد أن يحرروها.. بالمفاوضات.

إدفنوا صناديد اوسلو في مقاطعة رام الله، وأعيدوا محمود الى الجليل.
أتدري يا محمود ما جرى؟ اغتنموا عزاءنا بك ليفترشوا طاولات رجال السُلطة. لم يكن موتُكَ بالنسبة لهم سوى جسراً يعبرونه الى طاولة.. طاولة سلطة، طاولة مفاوضات، طاولة رثاء عمل. علّ السلطة تفيء عليهم من مال السقاية والرفادة ومن مناصب التقريش.

رثوكَ.. رثوكَ بأن قرأوا (عنوان) قصيدتكَ (أحمد العربي). هل كتبتَ يا محمود قصيدةً بهذا العنوان؟ أنا لم أرها في دواوينك. لعلّهم يقصدون قصيدة (أحمد الزعتر)؟ ربما اختلط عليهم الأمر، فقرأوا عنوان اسطوانة الفنان مرسيل خليفة! هذا شعب يحب الغناء لا القراءة يا محمود. جاءوا يرثونك ولم يفتحو يوماً أيّاً من دواوينك، وصرّحوا بأن محمود أعظم شعرائنا!!
قبل بضعة شهور احتفينا بك وبرفاقك أصحاب الأدب الفلسطيني المقاوم في ندوة ثقافية في مركزنا الثقافي العربي في هيوستن، ولم يحضر أحدٌ من هواة الرثاء. ولكنهم حضروا الى نفس المركز للإحتفال بموتك لكي يعبروك جسراً الى طاولة سلطة.

هيوستن جميلة يا محمود، وليست مُقرفة كما قيل أنّك قُلت. لقد خطفك منها أصحاب الموائد والولائم واللحوم المشوية والصور التذكارية. ومن أين لهم أن يعرفوا أنّ الشاعر يتغذّى باللغة!. خطفوكَ حيّاً وخطفوك ميّتاً. لم نعلم بوجودك بيننا إلّا عندما صَعقنا خبرُ رحيلك!. هرعَ مُحبّوكَ الى المستشفى كمن مسّه الشيطان لا يصدّقون الخبر. أحضروا لهم رجال الحراسة لطردهم من المستشفى، ولم يجدوك.

أتعلم أين وجد أهل هيوستن جثّتك؟ وجدوها مركونةً في مخزنٍ جنائزي عبارة عن (عربة مقطورة) وسخة، ربما كانت تُستعمل لتصليح السيارات. وجدوك مُلقاً على حمّالةٍ بلا تابوت. مَن رماكَ هناك يا محمود؟! حملَكَ مُحبّوك على رموش الأعين وغسلوك بدموعهم البيضاء، ولفّوكَ بالعلم الفلسطيني وبالكوفية، وصلّوا عليكَ في المسجد بمن حضر.. والجالية العربية لا تعلم عنكَ شيئاً!. تتوفر هيوستن على العديد من البيوت الجنائزية المسلمة التي يستعملها أبناء الجالية العربية لغسل وتكفين موتاهم، فكيف وصلتَ الى ذلك المخزن الذي لا يليق حتى بمُشرّدي الشوارع؟!.

كَم أوجَعَتكَ هيوستن يا محمود. كم أوجعتَها. كم أوجعتنا. كم أوجعناك. نعتذر منك عن ذنبٍ لم نقترفه.

محمود، (سقطَ القناعُ) كما قلتَ أنت قبلَ خمسةٍ وعشرين عاماً، فلماذا تأخّرتَ في موتك؟ لمَ لم تَمُتْ حينَ سقطَ القناعُ؟ هل تذكُر (مديحَ الظل العالي)؟ والراحل الكبير (خليل حاوي)؟ هل اكتشف الشاعر خليل حاوي بُؤس الأمة قبلك؟ هل تذكر قوله: (يعبرون الجسر في الصبح خفافاً، أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد)؟ لقد عبرتْ كلابُ القبيلة أضلاعَكَ جسراً الى طاولة سلطة.. إلى صُوَرِ حفلة.. إلى حافّةِ دولة.

وأنتَ تعرفهم أكثر مني. عانيتَ منهم الأمرّين. ساسة وأبالسة وتجار قضية وراقصو استعراض وأشباه مثقفين مُدججين بالنميمة التي يُسمّونها نقداً. لو وافقتَ الساسة لحصلتَ على قَصرين ووزارتين وجنازة تليق بشاعر العرب. ولو وافقتَ أشباه المثقفين لخُنتَ نازك الملائكة.

لقد أخطأتَ مرتين يا محمود، عندما اقترفتَ الشعر، وعندما ارتكبتَ المقاومة.

لقد تأخرت بموتك. هل كنتَ ترغب في الصعود الى حيفا؟ ها قد صعدتَ، وماذا تغيّر؟ حرموكَ من (مترين من التراب) في الجليل ليعطوا سلطتهم شرعيةً ثقافيةً يستمدونها من قبرك.

ألَستَ القائل: (عبثاً تُحاولُ يا أبي مُلكاً ومملكةً / فسرْ للجُلجُلة... ما أكبرَ الفكرة / ما أصغرَ الدولة)؟ وما أتفَه القبيلة يا محمود.

لقد تأخرّتَ، يا عزيزي، ولكنكَ حسناً فعلتَ بموتك... صدّقني، يا محمود، لن يفهمكَ أحدٌ سوى ربّك، ولن يتغمّدك أحدٌ برحمته سواه. فنِعمَ المُنتهى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى