الاثنين ٢ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
قناة ناشيونال جيوغرافيك:
بقلم إبراهيم مشارة

الشمس تشرق من الغرب

الانفتاح الإعلامي الجديد مع ماله من محاسن خاصة بالنسبة إلينا نحن العرب الذين عانينا المر زمن الأحادية الإعلامية وأجبرنا على أن نقرأ في الصحف فتوحات الرئيس ومغازي الوزير ونعيشها ثانية – رغم أنوفنا- بصورة سمعية بصرية على الشاشة قد ولت إلى غير رجعة مع التعددية الإعلامية فأنت تجلس إلى التلفاز لتنتقل بين القارات وتسمع شتى اللغات وتغنم جم الفوائد ، ولكن قنواتنا الإعلامية ما زالت في مرحلتها الطفولية فإضافة إلى ولعها بأخبار الحاكم- حفظه الله- وأخبار خيله ومؤسساته الخيرية، واستقبالاته في قصره المنيف وإشادة الصحافة العالمية بحكمته ، وتغني الشعراء بقلبه الكبير ونفسه السمحة قد كرست نهجا جديدا يضرب الروح العلمية في الصميم ويقوض بعض المكاسب الديمقراطية التي عمل رواد الفكر على توطيد دعائمها بداية من الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وصولا إلى زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم ونعني به ما تسوقه من حصص لمشايخ تسميهم فطاحل العلماء والدعاة، بين مهندم هنداما إفرنجيا ومتعمم،وجامع بينهما يخوضون في كل شيء إلا المفيد والجاد، والحصيف يدرك أن هناك مؤامرة على العالم العربي، يتولى أبناء جلدتنا تنفيذها بغير وعي ولا بصيرة .إنهم الذين وصفهم القرآن الكريم بالأخسرين عملا الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا وتجلس إلى هذه القنوات العربية فترى كل شيء وتسمع كل شيء إلا ما يزيد معرفتك بالدنيا وبالحياة، نقاشات سياسية فارغة موجهة سلفا لا تزيد عن تمجيد سيادة أو فخامة الرئيس أو جلالة الملك أو سمو الأمير والإشادة بالطاقم الحكومي وأعماله الهرقلية مع ما نعيشه من إزهاق للحريات وتكريس أبدي لنمط الحكم السفياني وضحك على ذقون الجماهير بانتخابات نظيفة ونزيهة، وفي بعض الدول غياب الانتخاب نهائيا لأن الحاكم وأسرته أنصاف آلهة ،إنهم الفراعنة الجدد الذين زكت السماء سلطتهم وثرواتهم القارونية في مقابل إملاق العامة والثروة تحت أقدامهم ولا رأي للعامة إلا في الطاعة والولاء فطاعة الحاكم من طاعة الخالق!

وما تقدمه هذه القنوات من ترفيه هو أقرب إلى القذارة الأخلاقية والدعارة التجارية، كل ما يصرف عن بيت القصيد وحجر الزاوية فهو الوسيلة التي تتلمس بها الأنظمة العربية الغاية المتمثلة في صرف الناس عن المطالبة بالعدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي الجذري واحترام حقوق الإنسان كما نعرفها في العالم الغربي المتقدم وتتحول الرياضة في عالمنا العربي إلى مقياس للوطنية،واهتمامنا الزائد بها إلى درجة الهوس وإتلاف الأموال لنزعم لأنفسنا أننا نتقدم بالقياس إلى الغرب وما تبثه هذه القنوات يؤِكد حقيقة مفادها أن الرياضة التي نص عليها أفلاطون في" الجمهورية "استغلتها أنظمتنا عبر هذه الثورة الإعلامية وحولتها إلى أفيون يصرف الناس عن مشاكلهم الحقيقة وشتان بيننا وبين الغرب!

وفي هذه الأيام في خضم الصراع في الأدوار المؤهلة لتصفيات كأس العالم نشهد صراعا بين دولتين عربيتين وبين شعبيهما إلى درجة التحرر من الأخلاق والانحراف بهذه المنافسة الصغيرة والتي لا تقدم ولا تؤخر إلى صراع وكأنه الصراع على غزو المريخ؟

أما أمر الدعاة الجدد فهم نجوم جديدة تماما كنجوم كرة القدم والغناء والتمثيل والقنوات التي يعملون بها كثيرة وأغلبها خليجية وعلى الرغم من التباين بين بعضها في الولاء للوهابية أو السنية أو الشيعية فالقاسم المشترك هو إجادة الكلام والاستغراق فيه وتسمع كل شيء من معمم أو مهندم أو سلفي وهي جميعها تضرب الروح العلمية في الصميم وتؤسس لوعي زائف وتوهم المستمعين أن في السراب الري.

والحديث عن الإعجاز بهذا الشكل المفرط والاهتمام بالماضي على حساب المستقبل والترويج لأفكار غير صحيحة كعلم تفسير الأحلام الجديد ومنافع الأعشاب على حساب دواء المختبرات واستصغار الحضارة الغربية وتعداد مثالبها في الأنانية والنزعة المادية والسقوط الأخلاقي والانتحار....الخ هو ضلال كبير فالحضارة الغربية إنجاز عظيم ولعل أعظم إنجازاتها هو في مجال حقوق الإنسان حيث مهدت بذلك للعطاء العلمي والتقني الذي نرى قطوفه الدانية اليوم.

على أن السخف يأخذ أبعادا تصل حد الاستهتار ففي عز سقوط بغداد تتحدث القنوات العربية عن سقوط الديكتاتور ولا تتحدث عن سقوط بغداد وكأن الأنظمة الأخرى ديمقراطية! ،وفي أيام الاعتداء على غزة والقتلى يتساقطون من الأطفال والنساء بالمئات تواصل قنوات كثيرة بث الأغاني الهابطة والرقص الغريزي ونبحث نحن العرب عن مواساة وتعاطف من القنوات الغربية لتعرض تظلمنا وشكاتنا أمام الرأي العالمي وتسارع قناة الجزيرة إلى الاعتراف بإسرائيل والتحمس للسلام أكثر من قادة فتح وتدخل الوزارات الإسرائيلية لتتحدث مع المسؤولين الإسرائيليين لتدخل في الوجدان العربي بغير شعور منه حتمية السلام ولتفرض الأمر الواقع قبل اعتراف بحق الإنسان واعتراف بالجرائم المرتكبة في حقه ويبلغ الاستخفاف نهايته في قناة مراهقة خليجية في رمضان كفت عن بث الأغاني واكتفت ببث القرآن الكريم ترتيلا وتجويدا ولكنها تبث رسائل إلكترونية هابطة من مراهقين وقت التجويد ونثور نحن العرب حين يكتب كاتب غربي أو تخرج هوليود فيلما تتعرض لسلوكيات ثري خليجي ونعتبر ذلك إساءة للإسلام والعروبة في الوقت الذي نأتي فيه نحن من الأفعال ما يندى له الجبين.

على أنني اترك ذلك كله لأتحدث عن إنجاز إعلامي عظيم يبذ كل الإنجازات الأخرى ويسفهها ويضع القنوات العربية الصغيرة والتافهة في محلها الحقيقي محل تبديد المال والجهد والوقت.
فقناة ناشيونال جيوغرافيك في بثها العربي إنجاز علمي وحضاري وإنساني يستحق التبجيل والاحترام.

إنها القناة التي تنشر الفكر العلمي بدل الدجل والخرافة، وثقافة الميدان بدل ثقافة الإستديوهات وفكر العمل بدل فكر القول،وهي تظهر مدى تقدم الغرب وتخلفنا على الرغم من ناطحات السحاب الزجاجية السرابية عندنا، الغرب عظيم بإنجازاته العلمية وما تقدمه هذه القناة في صور رائعة ومواضيع في قمة الاحترافية في شتى العلوم والمبتكرات والشأن الإنساني يزيد من الثقافة الحقيقية ويجعل المشاهد لصيقا بالقناة يشاهد ويستمتع بغير كلل وفتور، وهؤلاء القوم الذين بهروا الدنيا وما في أيديهم غير وسائلهم العلمية لكن في عقولهم عطش إلى المعرفة وفي أنفسهم فضول وفي قلوبهم محبة لعملهم سواء كان في الصحراء أو في القطب الجنوبي أو في طبقات الجو العليا أو في قيعان البحار يتتبعون أصغر المخلوقات ويبحثون عن شواهد حية من الحضارات القديمة ويشيدون بالإنجازات الصناعية الكبيرة ويبينون للمشاهد حد الإبهار والتفنن فيها ،ويضعون أنفسهم في قلب الخطر من أعاصير أو انفجارات بركانية أو أمواج مد عاتية...الخ

وكثيرون منهم يلقى حتفه لدغا من حيوان أو غرقا أو في حادث مميت وكثيرون يحرصون على المخاطرة حرصنا على السلامة، فقد انتهت بنا ثقافتنا إلى الاستهلاك بدل الإنتاج وإلى الإقبال على الآخرة بدل الإقبال على الدنيا وإلى تتفيه الإنجازات العلمية بدل المساهمة فيها، نراها ملحا وقصديرا كما قٌال الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور:

أشار بالأصابع الملوية الأعناق نحو المشرق البعيد

ثم قال:

هذي جبال الملح والقصدير
فكل مركب تجيِئها تدور
تحطمها الصخور
ملاحنا أسلم سؤر الروح قبل أن نلامس الجبل
وطار قلبه من الوجل
كان سليم الجسم دون جرح دون خدش، دون دم
حين هوت حبالنا بجسمه الضئيل نحو القاع
ولم يعش لينتصر
ولم يعش لينهزم!

وكأن الموت في ميدان اكتشاف أو مخاطرة صار مطلب القوم هناك ولا زلت أذكر ذلك الشاب الانجليزي معلم الرياضيات الذي مات من البرد وهو يسعى لبلوغ قمة إفرست ويأخذك العجب حين تعلم بان الجثث المتجمدة هناك بالعشرات كلها لأناس امتطوا صهوة الخطر ووجدوا اللذة في التفرد والاكتشاف.

إن هذه القناة تصنع للفكر العلمي مالا تصنعه جامعاتنا وتفتح العقل والقلب والروح على عجائب الطبيعة وأسرار الإنسان والكائنات مالا تقدمه مؤسساتنا الثقافية والدينية المستهلكة وتزرع في المتابع أخلاق التواضع واحترام العلماء وتقدير الإنسان المنتج والمبدع والخلاق بما أتاه من أعمال هرقلية حقيقية وليست أقوالا منمقة مسجوعة تحت أضواء الإستوديوهات
ولو كان الأمر إلي لصرفت كل المعلمين في مدارسنا وجامعاتنا ووضعت شاشة عملاقة تنقل حصص قناة ناشيونال جيوغرافيك وهي وحدها ستعلمنا العلم الصحيح والفكر الصحيح والخلق الصحيح.

فتحية إلى هذه القناة الرائدة في دياجير الواقع العربي وضلالات الإعلام العربي وتحية إلى مدبلجي التحقيقات العلمية وتحية شكر إلى أبو ظبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى