الثلاثاء ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم حسين أبو سعود

العاشرة ليلا تحت جسر واترلو (*)

الليل له وخزات يعرفها قلبه، وروحه تعرف وطأة الحزن عندما يشتد الظلام في الطريق الطويل،والليل من عاداته ان لا يكترث بنبرة الاضطراب في ارواح المرهقين، النجوم تبتعد نحو عوالم الصمت في تلك الساعة المتأخرة من ليل لندن، كان (محجوب غريب) الهادي في القطار الهادر في ظلمة الانفاق، انه ليس آخر من يعود الى بيته وحيدا، ها هم جميع الركاب متعبون، وحيدون، وهذه فتاة شابة سوداء تنام وحيدة تسند وجهها براحة كفها الايسر وتمسك بحقيبتها الحمراء باليد الاخرى غير عابئة بانحسار الثوب عن ساقها الابنوسي التي تلامسها العيون بشهوة صامتة، وذاك خمسيني ابيض يغمض عينيه مبتسما وكأنه يحلم بأمرأة طيبة، الوجوم يحوم حول الوجوه الاخرى، و محجوب عائد لتوه من وليمة الفراق.

كانت سعاد قد دعته تلك الليلة الى وليمة، اسمعته في البداية قصائد من الشعر الانجليزي تحكي عن الحرب والعودة واعياد الميلاد، استدرجته الى الممشى الاسمنتي المحاذي لنهر التايمز تحت جسر واترلو، في برد مارس القارس، كانت الساعة تشير الى العاشرة ليلا، اسندته الى عمود كونكريتي ضخم، اقتربت منه كثيرا، التصقت به، قربت شفتيها حتى صار يسمع هسيس انفاسها وصدرها يعلو ويهبط، الشاطئ مهجور الا من بعض المارة الذين يمشون بسرعة هربا من البرد، والنهر كان يضيف احساسا مضاعفا بالبرودة، المراكب مطفأة المصابيح اذ لاسياح ولا عشاق ولا سكارى ولكن ماذا يفعل ذلك المغني الاسود في هذا المكان؟ لماذا اختار هذا الركن المهجور؟ لجلد الذات ام هو الامل المستحيل لعل احدا يمر فينقده بعض النقود ليشتري به شيئا من البطاطا المقلية وعلبة سجائر او حتى علبة بيرة، كان مستندا الى عمود الكهرباء يعزف على قيثارته مرددا اغنية غير مشهورة:

ايها السائر لوحده على الرصيف /وفي مخيلتك صورة الحبيبة /تلك التي هجرتك الى غيرك / لا تبتئس كثيرا / فحبيبتك التي تشبه الان حقلا بهيجا / سيغادرها الالوان /وتهجرها العصافير وتصير يبابا / بمجرد ان يتوقف هطول المطر، دن دن دن ددن دن.

الله ماذا يعني هذا المغني الاسود، قالها محجوب في سره، وما اكبر الفرق بين هذا المكان وبين (كوفنت جاردن) حيث المقاهي والمطاعم والبارات المزدحمة ونادرا ما يرى الانسان هناك امرأة وحيدة او رجلا وحيدا.
اقتربت سعاد اكثر التصقت به اكثر عانقته بلا خجل من النهر واسماكه وبلا اكتراث من المارة وكاميرات المراقبة، همست في اذنه : ايها الصديق، سنفترق بعد قليل، وستكمل رحلتك الى المنزل بدوني، سنفترق بلا حرقة ولا دمعة ولا لسعة، سيكون لفراقنا وقعا جميلا، سيكون اجمل فراق واسهل فراق في حياتي، فكلانا ياصديقي تجاوز الاربعين ونتفهم الامور بروية وعقل، لنتألم ولكن كل على انفراد ونتناول العشاء الاخير على انفراد، ساجعل لفراقك هذه الليلة نكهة الجوز والعسل، واشبعك باللمس والهمس، ساحيطك بحنان كامل واغدق عليك عناقا وقبل، ساودعك ببساطة ولكن دون حقد او زعل .

مدّ يده من تحت المعطف الاسود، تحسسها كأنه لم يصدق وجودها معه، لم تكن كالليلة في السخاء والعطاء ولم تمانع في شئ .ماذا ستفعلين بعد فراقي، قالها وهو يمثل دور القوي المتماسك:— لاشئ سأعود الى غرفتي الباردة استذكر بين جدرانها اهلي وجيراني وتقافز الاطفال من حولي وصخب الاعراس، ساعود الى غرفتي اذ ينتظرني سرير وكتب مبعثرة وملابس مكومة حيث لا دفء أم ولا حنان أب ولا ضجيج اخوة ، لقد اتصل بي صديقي القديم و وعدني بالزواج ساعود اليه فانا احبه .

انتفض محجوب، فصل جسده عنها برفق بالغ كما يفعل الآباء، صافحها بأدب، مشى معها بصمت حزين، شعر بان الليل ازداد ظلاما والبرد ضاعف حدته والنهر زاد هديره، وقفا على قارعة الطريق عدة ثواني، اتجهت هي نحو اليسار حيث موقف الباصات واستدار هو نحو اليمين حيث محطة القطار، وحانت منه التفاتة فوجدها تصعد الى الحافلة المتجهة نحو (كنغ كروس) يعتليها مسحة انكسار.

ما زال القطار يتنقل بين المحطات تحت الارض وما زال التعب يرتسم على وجوه الركاب وقد تخلى الجميع عن جرائد المساء التي توزع مجانا في قطارات لندن، سمع الجميع من مكبرات الصوت نبأ الوصول للمحطة الاخيرة:

هذا القطار سيتوقف هنا وعلى جميع الركاب النزول و اصطحاب امتعتهم معهم فقام محجوب من مقعده متثاقلا وهو يتمتم قائلا :

ايه، اذن هكذا تنتهي الحكايات، لقد ذهبت سعاد، ونسيت ان اعيد اليها صورتها التي اهدتني اياها في لقاءنا الاول في احد المؤتمرات، نسيت ان اقول لها تذكريني على الاقل كلما دقت الساعة العاشرة او كلما رأيت جسرا او كلما دخل الليلة بظلمته او كلما ضاق صدرك او كلما ذكرت اهلك أو، أو، أو
وكل ساعة عاشرة ونحن بحزن عميق.

** ** **

(*)القصة حقيقية لكن الاسماء غير صحيحة حفاظا على خصوصيات الافراد وقد مرت على هذه الحادثة عشر سنوات وقيل ان سعاد لم تتزوج حبيبها لانه لم يجئ قط، وما الفائدة من معرفة انه مات اثناء عبور الحدود او انه ببساطة اخلف وعده وتزوج بنت الجيران وخلف منها عددا من البنات والصبيان، وانها حصلت على اللجوء بعد ان ساءت حالتها النفسية وهي الان تعاني الوحدة بمفردها في شقتها الصغيرة غرب العاصمة لندن يشاهدها البعض احيانا وهي تجر آلامها كما تجرّ عربتها اليدوية متجهة نحو متجر (تيسكو) القريب لشراء بعض الحاجيات والاطعمة دون ان تنسى القاء التحية على من تصادف في دربها من العرب وغيرهم من اهل المنطقة بابتسامة مشوبة بالحزن .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى