السبت ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

العـودة

أمد الله- سبحانه وتعالى - هذا الإنسان بتلك «الروح» المنسوبة إليه، لا لشيء إلا ليحلق بها في أجواء هذه الطلاسم الغامضة التي تكتنف أكوانه حتى يتمكن من العثور بها على بعض خيوط هذه الأسرار ومتابعتها، بل وليتزكى بها وينسل من هذا المستنقع الآسن القذر (أسفل سافلين) إلى تلك الجنان الفكرية الجذابة ذات المدى اللامحدود، (أعلى عليين) ليعود بها إلى تقويمه الأحسن الذي كان فيه وعليه، فعند أول عتبة يستطيع أن يطأها ستتضح له بلا شك "معالم" "صورة" إلهية بديعة لا مثيل لها، تحفزه وتدفعه إلى التحليق المريح كالفراشة من زهرة إلى زهرة تجذبه طعوم الرحيق النادر، لتظل هذه الصورة عالقة بذهنه ما دامت حياته، وهي التي عليها ينكشف بالموت غطاءه عنها، فيراها بمقدار ما تحصل عليه من نور خلال مسيرته الدنيوية بمثلما يرى الآن هذه الموجودات المحيطة به من كل اتجاه، ولهذا يجيء القول والسؤال: - (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا..) ليكون هذا هو حق اليقين بعد علمه وعينه!! .. وكما يقولون: بقدر المعرفة في الدنيا يكون المقام في الآخرة- أي في الجنان - !! ..

واليقين في اللغة هو إزاحة الشك، وطمأنينة القلب بصحة الاعتقاد، وهو مأخوذ من قولهم: يقن الماء في الحوض، أي استقر وسكن، ويقن الشيء، ثبت وتحقق ووضح..

فاليقين إذن: علم لا شك فيه..

ولا نعتقد أن الرؤية المقصودة في قوله- تعالى - : (كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) «التكاثر5/6» .. هي رؤية هذه العين الظاهرة، إنما المقصود هو رؤية هذا العقل المستمد لنوره من هذا القلب، إذ لا متعلق له سوى العلم، والعلم يقين يضاف إلى هذا العقل، فهو- كما يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي: (..علم المرء بالسماع والخبر، والقياس والنظر، وهو تقليد ظاهر الشريعة، ودرجة صاحبه درجة المؤمن المقلد، ومثل علم اليقين كمثل مخبر صادق أخبر أن زيداً في الدار، فصدقـه السامع، أو كمن وُصِفَ له العسـل وصفاً تامـاً بحيث لو رآه عرف أنه العسل..) ..

والعلم- كما هو معلوم - لا يكون في الآخرة، فالذي يكون في الآخرة هو حق اليقين، أي ما يعاينه أهل الجنان في جنانهم، وأهل النيران في نيرانهم، أما قوله تعالى: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) "التكاثر/7".. أي في القبر، بعين الباطن، من قبل البعث، كحقيقة ملموسة، والرسول- عليه الصلاة والسلام - يقول في الحديث الذي رواه البخاري: (إذا مات أحدكم فانه يُعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار) مثلما هي معروضة الآن على فرعون وقومه بالغداة والعشي، كما ذكر القرآن، و"القبر" - كما أخبرنا رسولنا الكريم- يا إما روضة من رياض الجنة، ويا إما حفرة من حفر النار!! ..

ومعلوم أن من كان من أهل الجنة لازمه نوره المتحصل في قبره- أي معرفته بالله - ومن كان من أهل النار لازمته ظلمته الدامسة فيه، وهو يقين يضاف إلى القلب الحقيقي، وهو- كما يضيف الإمام الغزالي: (.. علم المرء بالمشاهدة والمعاينة والبصر، وهذا النوع من المعرفة هو الإخلاص في الشريعة، ودرجة صاحبه درجة العارف البالغ، المشاهد، الذي عاين الحق فعرفه عياناً، وتحقق صدق ما نُقِل إليه وأُخبر عنه، ومثله كمثل من عاين زيداً في الدار معاينة بعد إخبار المخبر، أو كمن رأى العسل وعاينه بعد سماع وصفه.. وهنالك حقيقة أخرى تضاف إلى حق اليقين أسموها حقيقة حق اليقين، وهي يقين يضاف إلى السر، وهذه معرفة العبد الذي نوَّر الله قلبه بالإيمان وزيَّنه به: ( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ.) "الحجرات/7" .. وهذا النوع من المعرفة يختبر به العبد المحق نفسه في دعواه في معرفة: علم اليقين، وعينه، وحقه، وحقيقة حقه، وهذه الدرجة درجة "العبد الكلي" الذي سمع وعاين وصافح، الفاني فناءاً كلياً، وهو غاية المراتب.. ومثل هذا النوع لا يقال مشافهة إلا لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.) ..
وقد لا يقال!! ..
والآن، أفلا يمكننا القول بأن: هذا «القرآن» الذي جاءنا بكل هذه الحقائق - ما هو إلا المقدمة الموضوعة للعالمين لتلك "القصة" ذات الأبواب الأربعة: (الجماد، النبات، الحيوان، الإنسان) والفصول المتعددة اللانهائية، التي نحاول من خلال كل ما ذكرنا وما سيذكره الذاكرون من بعدنا الإمساك بعقدتها والمضي بها إلى ما شاء الله؟! ..

هل هذا الدين "الإسلام" - الذي هو "الفطرة" التي فطر الله عليها جميع الناس، هل هو هذا الدين المنصوص عنه رقوماً فحسب؟! أم هو عين ذلك "النور" الذي بدأت به وبالـ "الظلمة" الخارجة معه- أي الكفر - حركة جميع الكائنات، إلى أن جاءت- بعد ذلك الأديان تباعاً، للتذكير به؟!!

لماذا لم يذكر الحديث النبوي الشريف الذي يقول: "كل مولود يولد على "الفطرة" فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" ولا يذكر "يمسلمانه" ؟! - إن صحت التسمية - أليس في ذلك دليلاً قاطعاً على أن هذا "الإسلام" هو هذه الفطرة بعينها ؟! ..

نعم ، إن نظرة جميع الأديان إلى هذا الإنسان واحدة، وما جاء الإسلام خاتماً لها إلا لأنه "الفكر" الجامع، عمومية وخصوصية، ذا الأصلٍ الثابت، المنصوص عنه إلهياً، الحاوي لأبرز المضامين التوحيدية، الباذر في كل النفوس تلك البذرة المعنوية الخالدة الأولى الداعية أبداً إلى إثمار: (.. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ..) "محمد/19" .. وأنه ذلك النبع الفيّاض، الذي منه وبه نمت، وأثمرت بالفعل "الشجرة المباركة" ، وآتت أُكُلَها، وما زالت تؤتيه في كل حين بإذن ربها، هذه الراية التي ظلت منذ "هابيل" - وما زالت - عاليةً، خفاقة، إلى أن يرث الله الأكوان جميعها ومن عليها- مهما تكاثر أعداء الإسلام - !!!!

فهذا الداعي إلى النهوض والعودة إلى هذه الفطرة التي فُطِّرنا عليها (جميعاً) ، سيظل هو المنادي أبد الدهر لهذه (الصفحة البيضاء) رغم السواد الذي اعتراها ويعتريها الآن!! ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى