الأحد ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
حكايات ابن آدم
بقلم ظافر مقدادي

العنكبوت والصبّار

والتقيا...

نسجَتْ خيوطَها الأرملةُ السوداءُ على شجرةِ صبّار.

* هل أنا رهينُ مَحبَسين، قال الصبّار، رهينُ محبسِ تجاعيدِ حكمةِ العنكبوت وهي تسحب الى شبابِها الزمنَ الشارد؟ ومحبسِ روعةِ الألوان في رفّةِ فراشةٍ تدفع رغبتها الى النضوج؟

 هل أنا رهينةُ خَطيئتَين، قالت الأرملةُ السوداء، خطيئةِ استكانتي لبرعم الأشواكِ المُتدرّنِ في ضلعِ تمساحٍ ضلّ الطريق؟ وشرودي الأنثوي الى ومضةٍ شَهَقت منها أقواسُ روحي؟

* أنا أنتِ إذا ما نظرتِ في المرآة: أرتوي ظمأً وأتَفيّأُ شمساً وأُنبِتُ أشواك.

 أنتَ أنا إذا ما حبَستُكَ في شِباكي الملساء، ولكنكَ غيري إذا ما تحسّستَ تجاعيد مُنحنياتي الذابلات.. أتَذكُر نعومةَ الحرير في ألوان الفراشة التي خلعتُها عند ضلعكَ وارتديتُ خطيئتي السوداء؟.. كم قتلتَني لتفوزَ بغيد الجنان المُطهّرات، وأغرقتني في رذيلةِ عادةِ النساء؟!

* امتثلتُ لنصيحة الحكماء من الأعراب: (إنْ أردتَ أن تُطاع فاقمعْ مَن هو مُستطاع) فقمَعتُكِ أولاً. لم أكن يوماً ملكاً على رعاعِ أوهامي، أو على أمجادِ أسلافٍ سالت كالسرابِ على قضبان سكةِ حديد الأتراك، أو على غرورِ الخيامِ الزجاجية تُعانق ببلاهة شمسَ الصحراء. لم أكن يوماً ملكاً إلا على هزائمي في كلِّ انتصارٍ على فتياتٍ عارياتٍ في لوحات المُستشرقين.

 لم أجد مَلمس الحليب في أنسجة شانيل، بل في همسةٍ رسمتُها من رائحة عطور قوافل الحرير المرتحلة من عبقِ مداراتِ فارسٍ توَهمتُه.. همسةٌ خشخشتْ في قِرطي المتدلي على جيد المها: (القلبُ يهواكِ).. همسةٌ انتشتْ بها أوتار زرياب.. كم تمنيتُ الرقصَ على تخته الأندلسي.. كلمةٌ واحدةٌ تصرع أنثى، وهمسةٌ تُحييها.

* خرجتُ من جميع هزائمي منتصراً إلا في انتصاري عليكِ هُزِمتُ. كم تمنيتُكِ فراشةً حطّت على براميل بساتين مملكتي السائلة، ونسيتُ أن الفراشات تنفرُ من رائحتي السوداء. وها أنتِ عُدتي سوداء بعدما نضبتْ آباري.

 الفراشةُ كالحضارة تفتح جناحيها للفنان الذي يرسم ألوانها، أما الأرملة السوداء فتنسج بيتها على أطلال الشعراء.. على عروقٍ جفّت فيها المعاني.. على أخاديدِ صبّارٍ يابسٍ منسيٍ بين قوافي المُعلّقات.

* حين خلعتُ عنكِ بهاءَ الألوان يَمّمتُ وجهي شطرَ بورصة العملات، والأسعار تتصاعد كأبخرةِ حمّامات الجواري في قصوري.. لم أكن أعلم وقتها أنه صعودُ الماء الى بواليع أبراج العرب.. كان ما زال في قنديلي قطراتُ زيت خِلتُها تكفي لإنارة ظلمة الثقوب السوداء.. وعندما انطفأ قنديلي عادت مملكتي مملكةَ رمالٍ وصبّار.

 لم أستطع العيش بدون زهو ألواني، فحسبتُ الحضارةَ في معارض الأزياء.. خطفَ ملمسُ الحرير المُلون أنفاسي.. هِمتُ على وجهي في دهاليز المرايا حين عانقتْ نظراتي سفوحَ أردافي الشامخات.. عشقتُ رجالاً فنانين أنطَقوا تفاصيلَ جسدي وخصلات شعري البدوي الكثيف، فاستبدلتهم كما استبدلت أحذيتي.. وعندما ذَوَتْ تضاريسُ جسدي لم أجد حذاءً أنتعله، فارتديت الثوبَ الأسود أرملةً سوداء.

* كان لا بدّ للزمان أن يدور ويستدير.. كيفَ لمهزومٍ أن ينتصرَ وإن علّقَ انتصارت عنترة على جدران بورصة لندن؟! حسبتُ التحديثَ حداثةً، والسائلَ الأسود في مملكتي طاقةً تكفي لإضاءةِ المجرات.. حسبتُ مؤشرات بورصة العملات مقياسَ التحضر، وأقراص الفياجرا عنوانَ الشباب الأبدي.. كان لا بد لي من أنعم بأجساد الجواري في مملكتي، زاهياتٍ كالفراشات يحُمنَ حول ضوء زيتي.. خِلتُ الحضارةَ سائلَين: منويّاً وأسودَ.. لم يكن لكِ موقعٌ في خارطتي سوى قصر الحريم المتشح بالسواد.

 كان لا بد لروحي أن تتشقق لأفهم عاديات الزمن.. لم أسأل عشيقي الأول عن مهارة الحاسوب الذي خطّ تفاصيل جسدي على القماش الملون.. سحرتني الألوان لا العلوم.. لم أسأل عشيقي الثاني عن مختبرات روائح العطور.. خطفت روحي روائح شانيل لا الكيمياء.. ولم أسأل عشيقي الأخير عن أسرار تلاعبه بجينات الزهور والفواكه، كنتُ هائمةً في دوائر اللذة حين لامستْ صرّتي حباتُ العنب العاجية برائحة الياسمين.. لم يكن لدي وقت لأسأل عنكَ وعن عالمكَ البرّاق كخلخالي، والفارغ كأحلامي.

دار الزمان واستدار.. ونسجَتْ خيوطَها الأرملةُ السوداءُ على شجرةِ صبّار في الصحراء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى