الخميس ٨ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم حسين أبو سعود

الغربة في وجدان الشعراء

الوطن، كلمة ساحرة لها وقع شهي على النفس، والوطن حضن كبير يوفر لأبنائه الدفء والكرامة والامان، والجميل في الوطن أنه يظل محبوباً تهوى الافئدة اليه حتى لو لم يوفر الكرامة والامان، أو كما قال الشاعر:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
أهلي وإن شحوا عليّ كرام

فالوطن هو أرض الذكريات وملتقى الاحبة وجامع الصحب والعشيرة، ويكاد لا يوجد انسان في الدنيا يغادر وطنه طوعاً قاصداً أرضاً غير أرضه وناساً غير ناسه وأهله ما لم تكن هناك أسباب قوية تدفعه للهجرة.

وبالرغم من العولمة واختصار المسافات بوسائل الاتصال المختلفة تظل الغربة مرّة المذاق، تؤثر في النفس البشرية فتشجيها، ولعل أكثر من يتأثر بالغربة هم الشعراء، باعتبارهم شريحة حساسة المشاعر، رقيقة الطباع، سريعة التأثر، لهم قدرة على رسم مكنوناتهم ووصف حالات الانين والحنين، انهم يمنحون الروح لدوائر الشوق الممتدة بين أضلاعهم.

و هذه الواحة تستضيف خمسة من الشاعرات والشعراء يختصرون معاناتهم مع الغربة وتعايشهم معها في كلمات قليلة في العدد مؤثرة في المحتوى، لعل القارئ العربي في المهجر يجد فيها بعض ما يختلج في داخله من لواعج الاشجان وحرقة الشوق والحنين الموجوع الى مرابع الصبا والشباب.

غربتي

ثائرة شمعون البازي – السويد

أجلس وحدي في غربتي كلما ضاقت بي الدنيا، أجلس لأختلي بذكرياتي عن الوطن والاهل، استعيد صور الايام الجميلة، تؤلمني أخبار الراحلين من الاحبة وأنا لم استطع لقائهم ولا وداعهم.

الوطن هو الحب الكبير الذي حرمت منه ولم استطع نسيانه بالرغم من السنوات الطويلة التي قضيتها بعيداً عن ترابه وسمائه ومائه.

لم تخيرني الحياة أن أختار الطريق، قادتني مجبرة ذليلة لمصير مجهول، الى أين؟ لا أعلم.
أتذكر ذلك اليوم الذي خرجت فيه من بلدي. تلفت حولي تمنيت أن أجد أحدا يقنعني...يمنعني من الخروج، تألمت وكان ألمي مصحوباً بأحساس غريب، وهو أني سأضيع كل شئ بعد خروجي، حبيبي، طفولتي، شبابي، ذكرياتي، أقاربي، أصدقائي، أحلامي، بيتي، حديقتي، جيراني .. أشياء وأشياء كثيرة أخرى.

في اللحظات الأخيرة، وأنا أقترب من الحدود أعتصرني شعور موجع، وأردت أن أقول للسائق:هل لك أن ترجعني! صرخت: توقف هنا من فضلك، نزلت من السيارة التفت وألقيت نظرتي الأخيرة، كانت طويلة عميقة وتنهدت وكأني لن أرى وطني ثانية، غير اني ما زلت احتفظ بحفنة من تراب وطني اصطحبتها معي عند الخروج، إنه تراب معطر بذكريات مفرحة ومحزنة اعود اليها كلما ضاقت بي الغربة أوقد حولها الشموع وارويها بالدموع.

ياوطني فارقتك وقلبي كسيرومازلت
أعاني في بعدك كاليتيم
ياوطني أطلت في غيبتي ولكني أوعدك بأني
سأعود...سأعود.

وئام الملا سلمان – السويد

أنا والغربة، أي منا في عيني الآخر؟ سؤال يابس الشفتين، يستجدي على بوابة العمر.
تنحَّي يا ضفاف الجرح عند تمرد النهر.

الغربة، ظل كالسيف ورائي يمشي، ويسبقني أحيانا، حتى في الظلمة لي ظل يتبعني!
كيف سأنجو من هذا السيف؟ الغربة أن أبحث عن رائحةٍ للأرض بهذه الأرض رغم غناء المطر وعزف الريح، ولن أعثر

أن ابصر وجهي، وجهي لا يعرفني! أن يتشتت بصري في صور لا تشبه ما خزنت ذاكرتي
وأقارن، هذا يشبه ذاك وهذي تشبه تلك، مدية ذاكرة تطعنني حيث تشاء

والغربة سكين، أقامت في خاصرتي، صور، أصوات، طاسات سبيل، (عتيكَـ) للبيع، ديك يقلق نومي وقت الفجر، السوق المكتظ بأصوات الباعة (شلغم مايع)، (ريع كَلبك يا ولد) و(باكَلة لوز)
وعباءات احمرت تحت الشمس لعراقيات سمراوات يدلقن من (الشجوة) لبناً

أتسكع في أروقة القصر الملكي وأرفل في بحبوحة وجعي، وأرسم بالدمع المختنق بعيني خلف جدار الجفن وطناً

حتى لجنائز شارعنا المحمولة فوق الأكتاف و(عاقل ) يتقدمها وهي تغادر باب الجامع، أشتاق ُ
لصواني كعك العيد فوق رؤوس النسوة والأطفال

لرؤياي هلال يرسم آخر حرف من فرح، من يأتيني بجذعي نخل لا أكثر؟

أتأرجح بينهما وأبدد خوف الغربة بي.

الاغتراب

وفاء عبد الرزاق – لندن

كثيرة هي المرات التي كتبتُ فيها عن غربتي، هذه الحالة التي لا أستطيع الانفصال عنها لأنها تلازمني منذ سن المراهقة، حيث الاغتراب الاول.

لكن...

هذه الحالة تنهشني حتى في وضع السكوت المستسلـَم له، كاستسلامي لإعصار مثلاَ، النهش حين يكون في عود طري كعود مراهقة يكون بمثابة الموت، والموتُ صبراً.

هل حدث أن مرّ أحدكم بنهش الصبر؟

مؤكد هذا، لكن بالنسبة لي نهش لذيذ لانه يجعلني أكتب الفكرة الجديدة، وابتكر الكلمة الجديدة غير المتداولة في صياغة لغتي الابداعية، لذا ساظل أكتب لاقناع الغربة بأنني أصنع من فراغها الأكثر تشويهاً لأيامي وجوداً لاتعرفه هي، وعذرية لقصيدة أو قصة لا تشبه مومياءها "مومياء الغربة" وإذا كنت ومازلت أكتب تكثيفاً لوجودي الابداعي والانساني، فهو تحدٍ لفكرة الخوف من الاغتراب.

في النهاية أنا ممتنة لها، لأنها رغم تخريبها فهي الحافز لي نحو الجمال، وباعثة الحب لا السقوط في غواية الدمع والعويل.

فقط..

فقط لأنني دائماً ألمح بين دموعي صورة وطني التي تمدني بالحياة.

عدنان الصائغ – لندن

قد لا يعني المنفى ابتعاداً جغرافياً عن الوطن، إذ يمكن أن يعيش الإنسان أو الكاتب منفاه ويحس اغترابه وهو داخل وطنه.

إنها محنة المثقف الأزلية منذ ظهور وعي الإنسان ونشوء عصر الكتابة حتى عصرنا هذا وما سيأتي.. يلخصها دائماً هذا الاغتراب أي التقاطع بين آراء المثقف – الكاتب – الفنان، وبين واقعه الذي يتسع بمفهومه ليأخذ أشكالاً عديدة داخل النص وفي الحياة أيضاً.

ذلك أن الشكوى من الاغتراب في ظل القمع ستتغير لتأخذ الآن بعداً جديداً في ظل الاغتراب داخل المنفى ذاته. فقد ينجو المثقف المغترب من أنياب دكتاتور وطنه، لكن ثمة أنياب أخرى لم يكن يحسب لها حساباً ستمتد له، لتهرسه، وان كانت أخفّ وطأةً، تبدأ من لقمة العيش، وخبيصة التكتلات: الايديولوجية، والثقافية، والشللية، ولا تنتهي بالحنين أو بالكآبة. حين يصبح المنفى "أكثر الأقدار مدعاةً للكآبة" كما يصفه أدوارد سعيد، مروراً بواقع المنفى الذي يفرض سلطته وايديولوجياته ودكتاتورياته المرئية واللامرئية أحياناً.. وهكذا يعودُ للمثقفِ الاحساسُ المريرُ هذه المرة بأنه منفي داخل المنفى أيضاً.

واتركْ هذا وتعال إلى حسرة غيلان ابن الشاعر بدر شاكر السياب، وهو يفتتح الندوة العالمية لأحياء الذكرى الثلاثين لرحيل والده بكلمة موجعة تختصر معاناة شعراء الأرض كلهم وهو يخاطب المتجمهرين في المركز الثقافي العربي بباريس 20-21 كانون الثاني 1995 في رسالة وجهها من منفاه (ألقاها نيابة عنه الشاعر بلند الحيدري)، حيث لم يستطع الحضور إلى المهرجان، مثلما لم يستطع السفر إلى البصرة، لزيارة قبر أبيه، يقول:

"رسالتي أن يكون تذكركم لأبي، ذكرى أن لا نسمح لأنفسنا أن يضيع شاعر أو أديب أو أي صاحب رسالة خير وجمال كما ضاع أبي، وكما ضاع أمل دنقل وكما ضاع آخرون كثر… ضاعوا في منافي الداخل والخارج، على أسرة المرض، غرباء، أو وحيدين أو منسيين"
وانتقلْ من الاغتراب إلى الإرهاب الذي هو اغتراب آخر، وانتقلْ من التهميش إلى النفي، إلى الإذلال تجد أن القضية واحدة وأن اختلفتْ طرقها وتباينتْ مستوياتها.

وقد حمل جثمان السياب في يوم مطير أربعة من أصدقائه ليدفنوه في البصرة، وليجدوا أن الحكومة قد طردت أسرته من المنزل. بينما ظل صديقه بلند الحيدري – الذي قرأ كلمة غيلان بالنيابة عنه – مدثراً بصقيع لندن وضبابها بعد أن رفض النظام العراقي مجرد دفنه في وطنه.
وكان بيتنا أثناء إقامتي في العاصمة الأردنية عمان، جوار شارع يحمل اسم "بدر شاكر السياب"، يقاطعه شارع يحمل اسم "أحمد الصافي النجفي" الذي لم أجد في مدينتي النجف شارعاً أو ساحة تحمل أسمه أو إشارة إليه، على امتداد الوطن الذي غنى له ومات بعيداً عنه.

الاغتراب

د قصي الشيخ عسكر – لندن

مفهوم الاغتراب يختلف من وجهة نظري كلياً عما يراه الآخرون، سوف أتحدث عن ذلك المفهوم في هذه العجالة بصفتي - وفق رأي بعض النقاد العرب - رائدا للأدب المهجري المعاصر. أقول: إن الاغتراب وفق الرؤيا الروحية لايحمل معنى سلبياً قط، الغربة والغرب والاغتراب مشتقة من معنى واحد وقد وضحت في كتابي " الاغتراب في نهج البلاغة " أن الاغتراب يحمل معنى ايجابياً من حيث كونه مهجراً أو مرتبطاً بالمهجر. النبي محمد "ص" هاجر من مكة إلى المدينة فجسّد العظمة في بناء مجتمع جديد من خلال المهجر. الإمام علي "ع" هاجر من مكة إلى المدينة ثم إلى العراق ليحقق معنى عظيماً هو العدل. الحسين "ع" هاجر من المدينة إلى كربلاء ليخلق ثورة عظيمة. وهناك حديث شريف " طوبى للغرباء ".

المهجر يعنى التفاعل والاغتراب يعني الخلق والجانب الإيجابي في النفس الذي يمكن أن يحققه المغترب، ومن الأمثلة الحديثة نذكر شخصيات كثيرة حققت المفهوم الإيجابي للاغتراب، لينين كان لاجئاً افتتح القرن العشرين بأعظم ثورة اشتراكية، الإمام الخميني رحمه الله كان مهاجراً، أي مغترباً، اختتم القرن العشرين بأكبر ثورة روحية، ومابين الثورثين الكبيرتين هناك شخصيات وقادة مثل قادة الثورة الجزائرية وقادة الثورة الفلسطينية.

على أية حال يجب أن نفهم الاغتراب بصفته الإيجابية وروحه الرائعة المشرقة، الاغتراب الهجرة ليس بكاءً أو سلباً ونواحاً فقط.


مشاركة منتدى

  • الغربة هي اقبح شيئ في هذه الدنيا فيحدث عندما تغترب عن وطنك وترحل عنه فترحل الحياة.............
    اني الان اكتب تلك الكلمات وعيناي ممتلئة بالدموع لماذا..... لا ادري ولكن كل ما اعرفه .............
    هوانني اشتاق لرؤية وطني

    ممممممممممممممممعععععععععععع تتحيات المغتربة انوار الخرشة

  • من انا? أنا تلك الفتاة التي لا يمكن ان تنسى لحظة فراقها لوطنها.رغيف بلادي ولا حلو غربتي. كنت اجتمع مع اخوتي عليه ونحن نضحك, صوت قهقهتنا يسمعه الجيران. وحلو الغربة لا يسمع له حس ولا صوت. تركت وطني وانا سعيدة. سعادة تلك الفتاة التي اصبحت امرأة ليس لها خيار آخر.وهي الالتحاق بالنصف الآخر وهو زوجي التي شاءت الأقدار أن يكون من بين المهاجرين إلى ديار المهجر. فحنيني و شوقي له لم يترك لي فرصة في التفكير سوى أن أعيش معه. تركت وطني وانا مشتاقة لهويتي التي تاهت مني. غربة تسلب منك ابتسامة عذراء لا تشفي غليلك من قساوتها.أتذكر أصدقاء الدراسة. جيراننا. احبتنا.منهم من فارق الحياة وانا في الغربة. تصلني أخبارهم فلا أجد أمامي من يواسيني فيهم غير أولادي وزوجي . غربة تسرق منك دمعة حزن على فراق الأحبة .لهفة تجعلك تشتاق لمجلس مليء بالاحبة وكأس الشاي الأخضر الساخن ينسيك همها وقساوة مناخها. اشتقت إلى البحر إلى جبال الأطلس. إلى طرقات المدينة. وهجيج الناس إلى شمس تشع على جنبات منزلنا المتواضع. حنين ليس بعده حنين. توفيت أمي, وتوفي جدي , حزني عليهم كان اليما. لكن شوقي لاحبتي وأبي يشجعني على العودة إلى أصلي ومنبع روحي مهما طالت مدة غربتي وفراقي.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى