الأربعاء ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٨
بقلم الهادي عرجون

الغربة والموت في مجموعة «رماد الماء»

في البدء يمكن القول أنه كان هنالك جدل ساخن وطويل حول مواكبة الشعر العربي والأدب بصفة عامة لطموحات الأمّة وانسجامه مع معاناتها ومشكلاتها وتحدّياتها، أمّا الآن وبعد ما تعاقب على جسد الوطن العربي من هموم وهّزّات سياسية وحروب وغربة داخل الوطن لم يعد ذاك الجدال ساخنا مثلما كان بل أصبح لكل أديب وشاعر نظرته وتكاثرت الأقلام التي توظّف هموم الأمة وتحاكي معاناتها فقد تجلّت ظاهرة الحزن في الكتابة عند الشعراء العرب نظرا لإرتباطها بالنفسية العربية من واقع وأحداث وآلام متلاحقة تنخر جسد الوطن العربي بعد أن كان هم الوطن العربي هي فلسطين المحتلة وكثيرة هي الهموم التي طرحها الشاعر سالم الشرفي في ديوانه ”رماد الماء” الصادر عن منشورات بيت الشعر سنة 2014 والملفت للنظر هو الصوت الشعري الغاضب والصراخ في وجه الكون والظلم مع طغيان معجم الحزن على أوتار المجموعة الشعرية التي ضمت في طياتها 40 قصيدة حزينة أو وترا حزينا إنّ صح لنا التعبير فعندما يضيق الوطن بهمومه يكون البديل اتساع الكلمة وانفتاحها لتطلّ علينا بفاتحة النشيد وإن كان نشيدا حزينا .

فالخصائص الفنية للديوان تتجلّى في وحدة الموضوع وتنويعاته وتكامل بنائه العضوي والفنّي رغم وجود بعض القصائد المركبة التي تعكس الحالة الواقعية التي يعيشها الشاعر من غربة وحزن على ما آلت إليه أوضاع الأمّة وخرابها على جميع الأوجه كما في قوله في قصيدة عروج: (ص35)

نسل من التيه أغوتهم مطامعهم
والكل في لهف….. من ذا تصاحبه؟
الزارعون بأرض عاقر قطفوا
ملح الخراب وأفنتهم …..ذوائبه
والحاصدون ضجيج الصمت أرهقهم
سواط الغزاة إذا اشتدت مضاربه
كانت حصونا وهاأنتم مغانمها
وكان ملكا وهاأنتم نواهيه

فهو يحاصرنا بنمطية فرضتها الضرورة التاريخية للأحداث منذ بدء ما يسمى بالربيع العربي.

يعيدنا سالم الشرفي إلى التشكيلات الجمالية على طول المقاطع الشعرية في الديوان فيتجلى تضخم الأنا والهي (الوطن) وصراعهما تارة وتآلفهما تارة أخرى.

كما أن التكرار المتعمّد في الديوان والإيقاع السريع للألفاظ والكلمات مع كثافة الصور كما في قوله في قصيدةأعشاب لذاكرة الموتى ( ص19):

سنحتاج أعشابا لترسم نجمة
معلقة في الحلم ….تحمل سرها

التي تكررت فيها كلمة ”ستحتاج” كلازمة في الثمانية أبيات الأولى وهذا الرقم الموحى إلى الموت إذ في ختام البيت الثامن يقول:

ستحتاج قولي فانتبذ ظلل الرؤى
أرى جثّة في الكهف تنقض قبرها.

كما يتجلّى معجم الحزن والموت في الكثير من النصوص سوى من عنوانها كـ (حزن أبيض- خضراء لون دمي – عزلة طين- أعشاب لذاكرة الموتى – موت آخر – هل هناك أحياء – ظل المرايا – رماد الروح – شهق الطين – حرائق العزلة – جثة الماضي – موت آخر – الطيبون لا يعيشون طويلا – الجدار – رماد الماء- عزلة الأسماء) وغيرها من النصوص.

والتي تحرك في داخلنا تلك الاستجابات المختزلة والدلالات التي من شأنها أن تظللنا بسحابة سوداء قاتمة انعكست على صفحات الديوان فبدا معجم الحزن والموت طاغيين مع وجود فرصة لاستعادة النبض والتقاط الأنفاس كلما أغرقنا الشاعر في السوداوية حيث يقول في قصيدة جثة الماضي: (ص64)

لم أكن أصغي لعزف الريح
تحي
كنت أوهى من رماد الموت
حيث اصطدت كفي

ثم يقول في نفس النص ( ص 65 ):

كنت وحدي
أول الجرح مساء نائم
في الحرف والنجوى
وأحلم يكسر الأحزان بالفوضى

ثم يستدرك الشاعر ويستعيد نبضه وأنفاسه في آخر النص كأنه يبحث عن لحظة لاستعادة بريق الأمل حيث يقول:

لست وحدي يا رياحي
فأطلقي كل خيولي
واحملي أحجار صمتي
وازرعي في حقول العشق
شوقا أزليا

كما أن استعمال ضمير الأنا (تجردت – توهمت – فتحت – بسطت – مددت) في قصيدة البتول (ص70) و تماهيها من ضمير الغائب هي (تجلت – رمت – بدت – طغت – بكت – مشت) مع تواترها في نسق تصاعدي كل يبحث عن مكان في النص ليحصل التلافي و التلاقح بينهما ويستعيد الشاعر صوته وخطابه في آخر النص مع ضمير الأنا مرة أخرى (تعبث – كنت – أين – أطوي – عزفت – آذنت – أفرق – أضم).

ولكن الشاعر سالم الشرفي عندما يستعيد صوته وسيطرته على النصّ يعود إلى حزنه وآلامه يقول في مطلع نصموت آخر: (ص87)

سأصعد هذا الفراغ
بلا جسد
حاملا دهشتي
و رمادي
و حلما ضريرا
و ذاكرة في الغياب

لتكون الصورة أكثر مباشرة وأقدر على التعبير في حالته النفسية ووجدانه الخاص وهذا ما يتجلى أو ربما يمكن اعتباره ميزة في نصوص الشاعر سالم الشرفي كما في قصيدة حزن أبيض ( ص07)

حين أيقضني حلمي كان سمعي أبعد
أبصرت ذئبا تحت الوسادة
والليل يعوي
والفجر جثة ظبي ضرير
كنت أضعت الشمس
فلم أبصر ظلي حينها
حسنا…
سأعود موتي الذي كان حيا لأحيا

أو كأن الموت هو الحياة والحياة هي الموت عند شاعرنا فعندما نتعامل مع أنا الشعار في هذا الديوان لا نتعامل معها كونها أنا مفردة مفرغة من كل معانيها ودلالاتها وأنها تمثل الغربة والحزن والموت المسيطر على فؤاد الشاعر فالأنا لم تكن فردية ذاتية بقدر ما هي انعكاس لذات الشاعر وتضخمها له ما يبرره وما يدعو إليه فالشاعر يحاول أن يضعنا أمام حقيقة إحساسه بهذا الوطن في ذاته وانعكاس لما يمر به الوطن على نفسية ذات الشاعر فهو يعكس لنا حالة واقعية يجسدها تارة ويخفيها تارة أخرى في طيات النص.

فديوان ”رماد الماء” صورة لانتصار الذات و انعتاقها والصراع الداخلي الذي تحمله النصوص فالشاعر في نصوصه تتجلى لنا صلة الماضي بالمستقبل ويتواصل مع الوطن ليسابقه فبسبقه أحيانا ويقتله أحيانا أخرى كلما سكر الأنا واغتاله الحزن والموت وظللها بظل السواد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى