الجمعة ٩ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم محمد سمير عبد السلام

الفن يحطم حدوده

قراءة في الأيام السعيدة لنعيم عطية

مازال الفن يطرح نفسه كمادة للتساؤل ، أي بإثارة الأفكار ، و التأويلات المختلفة حول كينونته ، فكيف يصير الفن فنيا ؟ ، أو بصياغة أخرى كيف يصير الموضوع جماليا ضمن تكوين يسائل الحدود الأولى للجمال ؟ و في السؤالين السابقين ما يولد ارتدادا دائريا للتفكير الفني باتجاه طبيعته الخارجة عن أي استقلال ذاتي ، أي يكون الارتداد إلى تكوين طيفي متسع من التفاعل بين اليومي ، و الكوني ، و الثقافي ، كعلامات جزئية مختلطة خارج الخطاب ، و من ثم فالتساؤل لا يولد إجابات ، بل تأويلات ممكنة لهذا التبدل الطيفي البديل عن نقطة البداية ، و هي التناول الفني للفن .

يولد سؤال التكوين – إذا – خروجا مستمرا من حدوده الخاصة ، أي تكوينا آخر يحمل سمات الفن ، و ما يستبقه ، أو يتجاوزه معا في علامة واحدة ، أو نص واحد .

و ضمن السياق الجديد يأتي الوعي الحامل للتساؤل كعلامة تمثيلية ، و متحولة ، و كذلك العمل الفني في حضوره الآخر ضمن السياق التفاعلي .

تطرح مجموعة " الأيام السعيدة " لنعيم عطية – الصادرة عن مختارات فصول بهيئة الكتاب المصرية – مثل هذه التساؤلات ، و تترك في القارئ الاحتمالات التأويلية حول الفن ، و اتساع حدوده الذي يشمل فكرة الزمن بحد ذاتها كسياق إبداعي يتجلى فيه الفن كأحد تأويلات الوجود اليومي ، أي يصير الزمن استعاريا في اختلاطه باكتساب الوعي للحركة السردية الأسطورية للصورة الفنية ، دون أن يعلن أنه مصدر منتج لعمل ذي استقلالية ما.
في نص ( زلط ) يتوحد البطل الهامشي / زلط ، بشاعرية الوجود الأرضي للزلط ، فيصير الإسم وجودا فنيا جديدا يحمل بداخله دلالتين :

الأولي : محو الحالة الهامشية لكل من البطل ، و عنصر الزلط ابتداء ، في التكوين التفاعلي الذي يبرز كسمة للتكوين ، أو النشأة الأولى ، فالشاعرية تلازم تكوينات الزلط اللعبية ، و من ثم يصير زمن البطل فنيا خارجا عن وضعه السابق لوجوده في المجتمع ، إذ إن وجوده في السياق الأرضي – الفني يمنحه تبديلا مستمرا في الهوية دون مرجعية محدودة . فالنقطة المتحولة المرتدة تصير وعيا خارج الذات ، أو فنا متجاوزا لاستقلال العمل الفني .

الثانية : تمثل حكاية اندماج زلط بالزلط سردا رمزيا ووجوديا يتجاوز أطر الحكائية بالانتشار الجمالي لأحداث الميلاد ، و الكتابة ، و الموت كأنها اكتسبت صورة سردية ذات طابع فني أولي فيها ، فقد مثلت زلطة دور البطل في سياق حكائي لموته المحتمل في النص كبديل مجازي يدخل الفن ضمن حكاية وجود الكائن ، و لا يرد الفن كلية إلى منتج واحد أصلي .

لم يولد زلط في المستشفي ، و لكن على الأرض ، و قد أحب كتابة الشعر ، و الاحتفاظ بالزلط الذي ولد منه أشكالا جمالية عديدة ، فضلا عن إحساسه برقصه على الشاطئ ، أو آلامه عندما يدوسه أحد .

غيوم الصدفة تفجر الهوية ، و تكشف التباسها بالتبديل اللانهائي المتضمن فيها ، أما إغواء اختلاط الفن بالأرض فهو عودة لاواعية إلى الأثر الفني في صورته البربرية المقاومة لعزلة البناء ، و من ثم كان الماء بديلا عن المعرض الذي يمكن أن يقام من تشكيلات الزلط ، لقد صار الكون حاملا لتاريخ الفن انطلاقا من التجاوز ، و إعادة التساؤل حول الفن ، و متجاوزا باتساع السياق ، و مستبقا لمدلول الجمال بالارتداد غير الواعي للأثر الأرضي المؤجل لحدث التساؤل برمته من خلال النص الذي حمل اسم زلط كوجود تعددي للاسم .

و في نص ( فن الاختفاء ) يصير التمثيل سؤالا حول الوجود ، و الهوية بالكشف عن الاختفاء الكامن فيهما ، و في التمثيل نفسه ، إذ يلتبس فيه بروز الهوية بالحجب ، و الاختفاء في النزعة التمثيلية كحضور بديل متجدد يتحدث بصوت الأنا بينما يخفيه في الأطياف المحتملة للصورة ، هل كان التمثيل حلما بالذات ، أم باختفائها ، أم بالاختفاء كحالة سردية لعدد غير محدود من الأصوات الأسطورية ، و الكونية المختلطة في الصوت المجرد من التحكم المتعالي في الحالة التمثيلية ؟ إنه إغواء التبديل الكامن في الوجود بوصفه فنا ، أو مجالا للاختفاء الذي يتشكل فيه الطيف الآخر في حركة مستمرة تقاوم الموت بالتباس الأثر .

يرصد السارد إشكالية وجود الأستاذ / الفنان الذي يرى أن التمثيل ينبع من أنفسنا كي لا نختنق ، و أنه ينبغي أن ينكر الممثل ذاته أثناء التمثيل حتى روى أحد تلاميذه أنه مثل دور حبة قمح ، فصور آلامها عندما يقترب منها الدجاج ، و أحيانا يتوحد بجثة ، أو غصن شجرة ، أو عصفور ليمحو بروز الهوية في الاختفاء الكامن في الأثر بوصفه فنا للحياة ، لا عملا مستقلا ، و يدل على ذلك إصرار السارد على الاختفاء الواقعي للأستاذ خارج حدود خشبة المسرح ، دون العثور على جثته ، و يأتي الغياب التمثيلي كبديل هنا عن حضوره ، أو انتحاره .

الأستاذ يمتد فيما يحجبه ، في الأطياف التي استحضرها ، فحفزت وجوده الآخر في الاختفاء دون أن يكون هو محورا لها ، بل صارت هي بروزا فنيا خارج الوعي بحدوث التمثيل ، لأنه يكمن في سرد الحياة .

أوصى الأستاذ – ذات مرة – أن يدفن في ملابس العراف تريزياس ، الذي كان يفضل أن يؤدي دوره ، و كأن الموت نبوءة بمستقبل جديد يختلط بأخيلة العراف ، و شخصيته الملتبسة بين الحجب ، و الظهور . تريزياس تمثيل للاختفاء ، و اختفاء يزدوج بنسيج التمثيل نفسه ، فقد أعيد تشكيله في السرد التأويلي للبطل عن طريق اختفاء الأستاذ رغم ظهوره في إحدى مدن الصعيد ، أو تداخله مع ميت آخر . لقد صار التمثيل هنا حجبا للاختفاء عندما تبلور الأخير في وعي التلاميذ كحقيقة .

و في نص ( الذي أحب التماثيل ) يتولد مدلول النحت عند الأستاذ من أخيلة الاستدارة ، و الامتلاء ، و قد علم البطل / تلميذه عشق استدارات الجسد الأنثوي من خلال التمثال ، الذي يستبق الواقع فيكشف احتجابه ، أو التباسه بالأخيلة المنتجة بواسطة الحضور التمثيلي للتمثال كحياة متجددة . و قد وصف امرأته بأنها تمثال لامع من الأبنوس .

يرى مارتن هيدجر أن وجود الأثر يكون في المجال الذي يفتتحه هو نفسه ، فصمود الأثر المعماري أمام العواصف يبرز العاصفة في شدتها ، و يجعل المكان اللامرئي للهواء مرئيا ( راجع / هيدجر / كتابات أساسية ج 1 / ت / إسماعيل المصدق / المجلس الأعلى للثقافة بمصر 2003 ص 92 و 93 ) .

هكذا برزت الزوجة كطيف محتمل حول انتصاب التمثال ، أي أنها حياته السردية التي يكمن فيها التمثال كممثل خفي .

لقد اختلط العشق بجذرية الحياة الممنوحة للتمثال في حضوره الثقافي منذ إيزيس ، و فينوس ، و أفروديتي حتى تمثال الأستاذ ، التمثال يدمر حدوده النحتية من داخل ظهورها الطاغي ، هل هو حلم بالتحول ؟ أم أنه يفتح فضاء للخيالات الدائرية للحياة في الأستاذ ثم بديله / التلميذ الذي يخترق قداسة المجال المحيط بالتمثال ، و يتزوج من امرأة الأستاذ عقب وفاته ليصير مكملا تمثيليا حيا للأطياف المنتجة حول التمثال .

و في نص ( جيلان ) يرصد السارد هذيان البطل / الناقد بفنانته المحبوبة / جيلان ، فهو يعرفها من خلال لوحاتها ، و توقيعها ، إنه يطاردها بوصفها نحتا تمثيليا من أخيلته ، إنه يهذي بالعمل الفني خارج نطاقه ، أي بوصفه وجودا ، و هوية حاملة لأطياف الأثر / اللوحة .

لم تكن اللوحة – إذا – مستقلة ضمن حدودها بل شكلت رؤى العالم عند الناقد ، و أحدثت انشطارا في جيلان الفنانة ، التي لم يصدق الناقد عندما رآها أنها صاحبة اللوحات ، فهرب منها إلى التجسد الآخر للفن الكامن في عمليات القراءة بوصفها لذة امتداد الفن في الطيف الآخر المستبدل للهوية الفاعلة من داخل السؤال المستمر عن الفاعل .

و في نص ( البومة دافئة الأحضان ) تختلط أخيلة التأويل بالسياق اليومي لتخرجه من معناه النمطي الأول ، فيصير مناهضا لتحققه الوجودي بصورة ضدية / إبداعية من خلال تكوين يبرز فيه التلقي كحدث فني متجدد في الأثر اليومي نفسه .

لقد دعي البطل / الفنان إلى حفل عشاء عادي ، فأصابه الملل من الرقصات ، و النغمات المألوفة ، و ضمن هذا السياق لم يجرؤ أن يذكر اسم بيتهوفن أمام زوجته التي أسكتته ، و لكنه في حركة لاواعية مضادة للنمط ، يعيد إنتاج عيني الراقصة الأخيرة من خلال خيالات لصورة البوم التي ذكرته بامرأة ترك لها لوحاته في الماضي ، و كانت قد ارتبطت في وعيه بأنوثة مقدسة حتى هتف في الظلمة : بلقيس ، بلقيس .

لقد امتد السرد بالعادي إلى مطاردة للفن في أثره التأويلى الكامن في نسيج العادي نفسه كأنه لم يكن موجودا بهيئته الأولى ، ففي مجال الأثر / الراقصة توجد امرأة ضخمة تحمل عيني بومة ، و من الظلمة يولد ذراعان مثل ثعبانين من لهب مقدس يستبدلان الذراعين العاديين .

النار قراءة للظلمة من داخل حركتها المحجوبة ، النار أثر للظلمة ، و للأثر نفسه في تجليه الفني و اليومي معا دون حدود .

النار تمحو الظلمة من داخل تمثيلات السرد التطهيرية لانفصال الواقعي عن الفني .

و في نص ( الإجابة ) ينصرف البطل / الفنان الخبير في الجمال إلى جزيرته ليلتقط الصور الفوتوعرافية ، و عندما سئل عن الجمال أجاب بأنه ليس في العالم قبح ، و المشكلة تكمن في أن شيئا قد وضع في غير مكانه .

لقد اتسعت دائرة الجمال إلى حدود التلقي الفوتوغرافي بوصفه أثرا دون فاعل مهيمن ، الجمال يتجاوز حدوده في الفوتوغرافيا كتمثيل جمالي مستمر للكوني ، أو اليومي في تشكيلاته البارزة دون تدخل ، و دون إطار .

إن الراصد لا يبحث عن الدرر الجمالية بوصفها مركزا ، بل يلتقط أطياف الدرر فيما هو خارج حدودها .

و يعد نص ( رسام الحشرات ) من أهم نصوص المجموعة ؛ لأنه يحول التفكير الأدائي / الوظيفي إلى حالة فنية من داخله ، كأنه ثورة مضادة داخلية في التفكير الوظيفي تفقده مشروعية وجوده كمركز في اللحظة الحضارية الراهنة .

لقد طلق الفنان ابنة عمه ليطلق العنان لنزواته الفنية ، و بعد فترة من العزلة يتزوج ثم يتورط في مشكلة زيادة الدخل مع كثرة عدد الأسرة ، فيعمل كرسام للحشرات بوزارة الزراعة . و يذكر السارد أنه من داخل السياق السابق تعاوده ربة الفن كأنها ولدت بدافع قوي غير واع من داخل حالة العمل الوظيفي .

لقد اختلط العمل الممثل للمأساة ببهجة الفن المولدة من خارجه ، ليصير العمل أداء و إغواء في الوقت نفسه ، أو كأنه تدمير صاخب للمعاناة من خلالها دونما نهاية واضحة لها .

أما نص ( الفراشات ) فهو إكمال تأويلي للسابق و قد برز فيه الانشقاق داخل الفنان الذي صار أثرا تمثيليا خرج من لوحاته ، بين حضوره كفاعل ، و غيابه في الاختفاء التمثيلي للعنصر الفني ، و اليومي في آن ، فرسام الحشرات صار فراشة يلتهمها الجراد . يقول السارد عن الفراشات : " راحت بعيونها البراقة مثل الخرز تتابع من وراء الزجاج ، جرادة تفترس على منضدة من خشب ، رسام الحشرات ، و قد انتشي بالمتعة العارية جسده المسجى عاريا ، و على شفتيه توترت ابتسامة بنفسجية " .

هل هي بهجة التدمير ؟ أم إغواء اللوحة التي انتصرت على التفكير الوظيفي فصارت كونا بديلا عن الفاعل من خلال تدميره السردي ؟

يذكر السارد أن العاملة قامت بتنظيف الأثر ، استعدادا لدخول رسام الحشرات . و أرى أن دخوله في المرة الثانية سيكون طيفيا حرا كأنه لم يوجد من قبل ، أو كأنه أثر متجدد لا نهائي .

محمد سمير عبد السلام
m-sameer@hotmail.com

قراءة في الأيام السعيدة لنعيم عطية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى