الثلاثاء ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم رابعة حمو

القدس يا مدينتي .. القدس يا حبيبتي...

يا أقصر الدروب بين السماء والأرض

لم يكن يعلم أجدادنا الكنعانيين عندما سموا مدينة القدس قبل خمسة ألاف سنة (بأور سالم) أي (مدينة السلام) بأن هذا الإسم سيكون اسما مجازياً لا وجود له على أرض الواقع. فهذه المدينة التي أثخنتها الجراح والحروب والقتل والتدمير والحصار على مدار الزمن لم تنعم بالسلام في كل عصورها، فتارة يأتيها الغزاة الذين اتخذوا من الدين سبباً ومن الصليب والمسيح رمزاً لهم على مدار عقود من الزمن، وتارة أخرى يأتيها الغزو باسم وعد إلهي أسطوري لشعب ظل تائهاً في بلاد الله الواسعة إلا أن وجد ضالته، فزورالتاريخ والحقائق مع تواطئ استعماري عالمي حتى لا تقوم للعرب أي قائمة، ليخلق لنفسه مكاناً في هذه البقعة المباركة رغم أن التاريخ يتكلم ويؤكد أنه شعب عابر لا وطن له "كالنّوَر" لاستحقاقه عقاب الله بأن يبقى شعباً هائماً على وجهه مسبياً بين الشعوب لا تقوم له كرامة ولا قائمة. فمن سبي إلا سبي هذا هو الشعب الذي اختاره الله وحق عليه لقب "الشعب المختار" لتكون نهايته على أرض القدس أرض الاسراء في بشرى لتشفي قلوب قوم مؤمنين في سورة الإسراء.

وبين هذه الحروب وتلك غدت القدس مسرحاً لمحتليين شوهت اسمها ورونقها وبهائها، بعد أن كانت نقطة اتصال السماء مع الارض ومهداً للديانات الموحدة، فأصبحت مركزا للعنصرية للذين احتكروا الله في كتبهم لأنفسهم، فاحتكروا القدس لأطماعهم الاستعمارية الحاقدة، فما يكاد يمر يوماً على القدس دون أن تحاك به مؤامرة ضدها أو ضد أهلها أو ضد مقادساتها الاسلامية والمسيحية على السواء. ولم تقف هذه الاطماع على الأرض والإنسان بل امتدت لتصل إلى الثقافة عنوان حضارة الامة وهويتها وتأصيل لوجودها وجذورها على هذه الأرض. وهذا ما رأيناه في احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، بل زادت حملات القلع والتدمير والطرد ضد أهلها، ومقدساتها، ودقت طبول التهويد الذي لم يأل جهداً في طرد المقدسين من أرض أجدادهم وتدمير منازلهم التي يعيشون فيها وورثوها عن أجدادهم.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل أخذت القدس حقها في الأهمية منذ اختيارها عاصمة الثقافة العربية للعام 2009؟

سؤال يحز بالنفس والعين تبصر وتشاهد ما يحصل للقدس وأهلها وأرضها ومقدساتها، وواقع الحال ينشر ضبابة سوداء تلف القدس ومحيطها، حيث رأينا ما حصل في هذه الاحتفالية التي كان من المقرر إطلاق كل فعالياتها في نفس الوقت وفي خمس مدن مختلفة هي: بيت لحم في الضفة الغربية ومدينة الناصرة في أراضي 48 إمعاناً في بيان ان القدس تمس كل الشعب الفلسطيني في كل فلسطين وأراضيها التاريخية، وفي غزة للتأكيد على وحدة الصف الفلسطيني وأهمية قضية القدس رغم الانقسام السياسي والانفصال الجغرافي، وكذلك في مخيمات اللجوء كمخيم الرشيدية في لبنان ومار الياس، للتذكير بقضية اللاجئيين الفلسطينيين وحق العودة التي تشكل مع قضية القدس جوهر الصراع بين الفلسطيني - الاسرائليي.

كما تجري الاحتفالات في بعض العواصم العربية... فزهرة المدائن وعروسها تعيش الآن في أخطر مرحلة من مراحل تهويدها، لذا كانت تستدعي الحاجة لاعلانها عاصمة الثقافة العربية لتأكيد على أهميتها في عيون الشعوب العربية وعيون أبنائها الذين ضحوا بالغالي ليحموها، وخير دليل أن كلّ انتفاضات فلسطين منذ انتفاضة البراق عام 1929، حتى انتفاضة الأقصى عام 2000 كلها قامت في سبيل هذه الحورية وتاجها المسجد الأقصى.

لكن القدس التي حظيت بتاريخ طويل ومجيد، أصبحت كل الوسائل مباحة، لاستهداف ليس فقط تاريخها، وإنما حاضرها ومستقبلها، بل وحتى ماضيها المدفون تحت أرضها، فمعاول الهدم لم تستهدف ثقافتها من لغة ودين وآثار وحضارة، بل إن قوات الاحتلال اتخذت قراراً بمواجهة الذين أعلنوا القدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009، وكسر ارادتهم بالاعتقال واصدار قرارات منع التجمعات والاحتفالات لأن هذا التوجه هو محاولة لإثبات السيادة الفلسطينية بصورة غير مباشرة على القدس حسب رأيهم. رغم أن السلطة الفلسطينية بالتحديد لم تنفك عن اجراء مباحثات سلام مع سلطات الاحتلال هذه التي ارتأت منع تنظيم تلك الفعاليات. ولهذا، يُصدر وزير الأمن الاسرائيلي أمراً في 20/3/2009 بالغاء المهرجان المزمع اقامته في اليوم التالي، للاعلان عن انطلاقة الاحتفالات بالقدس عاصمة الثقافة العربية في مدينتي القدس المحتلة والناصرة. وهكذا، جاءت الانطلاقة في القدس هامشية، وغير مهمة لحدث عظيم هو انطلاق القدس عاصمة الثقافة العربية للتأكيد مكانتها الدينية والروحية والثقافية والتاريخية. وبات من الطبيعي ضمن هذه الصورة أن ينخفض الجو الاحتفالي والثقافي الذي يعاني من الممارسات الاسرائيلية التي لا تنتهي ويتفنن في قهر الانسان المقدسي الذي يغيب عنه الدعم ليبقى صامداً ومتجذراً على أرضه وأرض أجداده.

وإلى جانب هذا أن القاعات المخصصة للاحتفالية أُغلقت في وجه المحتفلين ومنع الاحتلال التجمهر في الساحات، وتقييد وتضييق إن لم نقل طمس كل ما يمت له بصلة للقدس واحتفاليتها بالقوة، من منشآت تربوية وثقافية وسياحية، بل لشدة وقاحة هذا المحتل وقبحه واستهتاره، تزامنت احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية بهدم عشرات البيوت المقدسية وتهجير سكانها الذين تسلموا أمراً باخلاء منازلهم ليزيد مفارقة جديدة للواقع الفلسطيني المليئ بالمفارقات التراجيدية تطبيقاً لقول المثل الشعبي "أجت الحزينة تفرح ... ما لقتلهاش مطرح".

وفوق كل هذه الممارسات الاسرائيلية على الانسان والأرض المقدسية، كان على القدس أن تدفع، إضافة لمعاناتها من الاحتلال وأعراضه السرطانية المزمنة، معاناة الخلافات بين الفلسطينيين أنفسهم المنقسمين بين برنامجين سياسيين وايديولوجيتين تقفان عند طرفي نقيض: مبدأ المقاومة ...لاستعادة الحقوق المسلوبة وابقاء ماء الوجه، والتسوية والمفاوضات...لأجل المفاوضات وتضيع الوقت لنهب أكثر من الأراضي الفلسطينية. مما شوه وجه انطلاقة الاحتفالية وأبرز التنافر بين الفعاليات ومكان انطلاقتها وأهدافها وبرامجها. وبدل الخروج بوحدة فلسطينية منيعة تحمي القضية ورمزها مدينة القدس من التصفية تعمقت الخلافات حتى على احتفالية القدس، وبدل أن توحد القدس أبنائها المتخاصمين ... تفرقوا في مساجلات غوغائية، وانشغلوا عنها بزيارات واجتماعات مارثونية في هذه العاصمة أو تلك لرأب الصدع الفلسطيني الذي أضر بالقضية وضيع التاريخ النضالي وتضحيات أبنائه في الوطن والشتات، علاوة على الخلافات العربية التي أعادت الزمن بنا لخلافات قبائل داحس والغبراء، ومهاترات سوق عكاظ التي لم تساهم هي الأخرى في تعزيز صمود القدس واحياء ثقافتها، بمواجهة المؤسسات الصهيونية الموجودة في القدس التي تقدم الشيكات المفتوحة الحساب لأهل القدس لشراء منازلهم، أو تقدم ملاين الدولارات للمؤسسات الصهيونية لدعم مشاريع الاستيطان، بل وحتى أقيمت عدة قمم عربية لم يدرج ملف القدس أو موضوع اختيارها عاصمة للثقافة من بين ملفات هذه القمم كأضعف الإيمان.

في وضع كهذا أقل ما نسميه مآساوي، هناك مسؤولية تاريخية على كل الحكومات العربية التي أصبحت مراقباً أصماً أبكماً على يحدث. وإذ لا بد من دعم مادي ومعنوي لسكان القدس لمواجهة عمليات استيطان وتهويد مدعومة بمليارات الدولارات من أكثر التيارات اليهودية بؤسا وحقداً وظلامية وتطرفاً. إن أي استنفارمادي ومعنوي عربي سيترك أثراً إيجابياً مع الذي يناضلون في القدس بين سندانة الاحتلال والتواطؤ الغربي معه، ومطرقة الاستبداد في العالم العربي الذي يغيب المواطنة الصلبة القادرة على دعم كل أشكال المقاومة لفلسطين ولأهلها.

هذه الصورة الواقعية جزء يسير من (معركة القدس) عاصمة ثقافية للعرب التي لا يكفيها أن يكون العام 2009 فقط عنوانها لها، بل يليق بها أن تكون عاصمة للثقافة العربية كل عام لأن مدينة القدس هي معنى وجود قضية فلسطين إلى جانب قضية العودة، وهي لب الصراع وجوهره مع كل الغزاة منذ أول غزو حتى آخره، ومادامت القدس أسيرة وسجينة فلن يغمض للشعب الفلسطيني جفن ولن يستريح.

يا أقصر الدروب بين السماء والأرض

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى