الجمعة ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٨
اللذة الجمالية في بناء
بقلم عصام شرتح

القصيدة ومكوناتها عند وهيب عجمي

إن التطورات التي شهدتها القصيدة العمودية في التركيب جعلتها تستحوذ على ألقها وحضورها في ظل النزوع الطاغي إلى تيار الحداثة، إذ"تطورت بنية القصيدة العربية بعد التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي طرأت على المجتمع العربي منذ النصف الثاني من القرن العشرين؛ ومن هنا، بدأ التكوين البنائي في القصيدة الحديثة مركباً تتفاعل فيه المؤثرات الثقافية الخارجية والمكونات التراثية الداخلية؛ وهذا يحتاج إلى موهبة الشاعر الفذة ومقدرته العالية على تصميم قصيدته تصميماً فاعلاً يتجاوز مرحلة الاهتمام بتجويد بناء البيت الشعري إلى الاهتمام بتجويد بناء النص بوصفه بنية فنية متكاملة"(1).

وهذا يعني أن بناء القصيدة يحتاج إلى وعي جمالي في التشكيل النصي،هذا البناء يأتي دقيقاً وليس عشوائياً،بل يأتي كاشفاً عن لذة معرفية وجمالية في التشكيل."ولما كانت القصيدة بنية موسيقية متكاملة كان من الطبيعي أن يلتفت الشاعر في تشكيله لهذه البنية إلى العناصر التي تحقق الانسجام بين مفرداتها. فعملية التشكيل التي يقوم بها الشاعر في القصيدة عملية معقدة غاية التعقيد؛ لأنها تأخذ في الاعتبار الأول أن تكون القصيدة- مهما طالت- هي الوحدة الفنية التي تعمل في داخلها أشتات من المفردات والدقائق"(2).

إن هذا القول يدلنا على أن القصيدة تشكل لحمة متكاملة في بنائها النصي،ذلك"أن نظام التكوين اللغوي فيها يقوم على أساس الترتيب الفني للجمل والمقاطع والأجزاء، بحيث يكون كل جزء منغماً في ذاته. وفي الوقت نفسه يسهم في إيقاع الكل. أما التخييل الفني فهو القوة الديناميكية التي تحرك الشاعر وتصرفاته وعلاقاته بما يصوره من أشياء في ضوء البناء الكلي الشامل للنص الشعري. ومن هنا، فإن الروح الكلية التي تزجيها قوى الخيال تضفي على النص قوته وتماسكه البنائي من خلال سبك أجزاء البنيان الشعري سبكاً متجانساً يمنع النص عن الفيضان والتوهان في عالم الفوضى"(3).

فالشاعر المبدع يستثير القارئ بجمالية بناء قصائده لتبدو متجانسة،متماسكة في إيقاعها اللغوي والدلالي، لاسيما عندما تفيض القصيدة بدلالاتها الجديدة ومبتكراتها التشكيلية الخلاقة التي تشي بموهبة فذة ولذة جمالية في التشكيل النصي.

ومن يطلع على قصائد الشاعر اللبناني الفذ وهيب عجمي يدرك أن قصائده تجري بفاعلية جمالية في تشكيلها وإحساسها الجمالي،لأنها تنطوي على فهم عميق لمثيرات الشعرية ومواطن تحقيق اللذة الجمالية في ثناياها، فالموهبة الفذة والقدرة الجمالية على توليف الكلمات في أنساق شعرية متوازنة تشي بالعمق والفاعلية والإيحاء.

ولو دقق القارئ في فاعلية البناء الشعري في قصائد وهيب عجمي لخلص إلى أبرز المؤثرات التي تحقق هذه الفاعلية،ونذكر منها التقنيات التالية:

التنسيق:

إن التنسيق خاصية جمالية من خواص الشعرية المعاصرة في إثارتها وفاعليتها الشعرية، لاسيما إذا أدركنا أن النص الشعري البليغ هو النص القادر على مراودة القارئ بالشكل الأسلوبي الأمثل والرؤيا الحساسة؛ والتنسيق البنائي في تشكيل القصيدة والرقي بمؤشراتها الإبداعية. يقول عالم الجمال (إنجاردن):"إن بنية العمل الفني تنطوي على كثرة متنوعة من الكيفيات الجمالية، فكل طبقة من طبقات العمل الفني تنطوي على كيفياتها الجمالية الخاصة بها، بحيث تبدو كما لو كانت مستقلة بذاتها، ومن مجمل هذه الكيفيات الجمالية المتنوعة ينشأ كل جديد، هو ذلك التناغم أو التآلف، أو التنسيق بين عناصره الجمالية، وعلاوة على ذلك؛ فإن هذا التناغم بين الكيفيات الجمالية يعمل على تأسيس رابطة جديدة تربط بإحكام وثيق بين طبقات العمل الفني"(4).

وهذا يعني أن التنسيق يعد صفة في العمل الفني المتكامل، ذلك أن النص الشعري الإبداعي الحقيقي منظم بعلائق ورؤى وفواعل نشطة تدلل على تكامله وتناسقه فنياً.

يقول الناقد رجاء عيد في هذه التقنية:"إن الشكل هو النسق الذي يمتلك خلق جماليات تشكيلية مما كان مبدداً بواسطة ذلك"التنسيق"و"التشكيل"وبهما- وفيهما- يتوحد المحتوى والمحتوى، ولايكون ذلك في جنس أدبي بعينه،وإنما يشتمل الأجناس الأدبية جميعها ما دامت تتوافر لها قدرتها الجمالية من صوت وإيقاع،وحبكات وصراع وسواها؛ أي إن الرواية والمسرحية-كما الشعر- لها جميعها تلك الإمكانات الجمالية في إطار بنيتها داخل جنسها المعين"(5).

ومن يطلع على قصائد وهيب عجمي يدرك أن التنسيق من مؤثراتها الفنية البليغة الذي ينتقل من تنسق الكلمة إلى الجملة إلى البيت إلى المقطع إلى النص بأكمله،وهذا يعني استحواذ قصائد وهيب عجمي على أرقى درجات البلاغة في تأسيس قصائده لتحقق تكاملها الفني البليغ، كما في قوله:

"أنا الغنيُّ بأحبابي وصحبهم
ومعشرُ الحبِّ في دنياي يكفيني
أبكي على نزهتي إن لم أجد أحداً
من الرفاقِ بأوقاتي يسليني
فمن يخفف عني في الجفا ضجري
غيرُ الصديق وفي همي يواسيني
كل الطوائف عندي جمع طائفةٍ
وكلها في فؤادي منذ تكويني
فما تعصبتُ في ديني لطائفتي
فكلُّ ما أنزلَ الرحمن يهديني
هيا انفتح حاور الإنسانُ مستمعاً
وسدد الرأي خذ مني لتعطيني
ولا تعصبْ لرأي أنت قائله
إن التعصب ذبحٌ بالسكاكينِ
وفي التعصبِ نارٌ لا حدود لها
إذ تحرقُ الناسَ في حمى البراكين
والطائفيةُ كفرٌ باتَ يدركهُ
الذين عاشوا بأوكار الثعابينِ

يا أيها الناس عودوا للضميرِ ولا
تقاتلوا في حروبٍ كالمجانينِ
وديننا الحبُّ بين الناسِ منتشرٌ
وما التقاتل إلا للشياطين ِ
إن كان ديني يناديني لقتل أخي
فيا سماء اكفري بالقتل في الدين"(6).

بادئ ذي بدء، نشير إلى التنسيق- في قصائد وهيب عجمي- يتأسس على مثيرات التنسيق الفني الذي ينطلق من الفكرة إلى الأخرى بتوليف فني مؤسس على الحياكة الفنية التي تؤسس النسق بجمالية فاعلة محركة للأنساق الشعرية؛كما في التنسيق المتراكب التالي:
""أنا الغنيُّ بأحبابي وصحبهم ومعشرُ الحبِّ في دنياي يكفيني

أبكي على نزهتي إن لم أجد أحداً من الرفاقِ بأوقاتي يسليني

إن المتمعن في هذه الأسطر يلحظ فاعلية التنسيق بالانتقال من فكرة إلى أخرى،ومن صورة إلى صورة، لخلق الاستثارة الجمالية في الأسطر الشعرية؛ ذلك أن البناء النصي هنا يقوم على تماسك الفكرة،وتوجيهها بأسلوب بلاغي، أي أن الشاعر ينتقل من التماسك في الفكرة ليجسدها بالتماسك اللفظي المنسجم على مستوى الكلمات والجمل والأشطر الشعرية، لدرجة أن القارئ لايلحظ أي تنافر أو نشوز لحركة الدلالات وبناها الفاعلة.لأن الشاعر يحرك البنى الفاعلة بأسلوب رؤيوي شاعري مموسق.

وثمة بلاغة في تنسيق الأسطر الشعرية في قصائد وهيب عجمي،هذه البلاغة ترتكز على فاعلية البناء والحس الجمالي في توليف القصيدة برؤاها المكثفة وحراكها الشعوري الخلاق،كما في قوله:

"أعيروني البلاغةَ والسطورا
لأنسجَ من شراييني الشعورا
أخيطُ من المودة ثوبَ عشقٍ
أُ حمّلهُ الوداعة والعطورا
أُطرِّزهُ بوجداني المصفى
وأفرشُ أضلعي وطناً كبيرا
فألبسكمْ ورودَ الحلم ثوباً
وأطلقُ في خمائلهِ الطيورا
ولستُ بحاجةٍ إلا إليها
لأملأ من معانيها البحور ا
فتاةٌ لاتضاهيها حياةٌ أثارت
في مكامنها النسورا
أعيريني حنانكِ لاتخافي
من الشيطانِ فلتفرح كثيرا
فما الشيطانُ إلا من رمانا
بهجرٍ سارقاً منا السرورا
وما الرحمنُ إلا من سقانا
كؤوس الحبِّ في الدنيا غفورا"(7).

بادئ ذي بدء / نشير إلى أن ثمة رؤية تكاملية مؤثرة تخلق متعتها الجمالية؛ وهذه الرؤية تحقق إثارتها، فالشاعر عبر التنسيق الفني يحقق أقصى درجات الفاعلية في الرؤى والأفكار والأنساق الشعرية المتوازنة،وهذا يعني أن القيمة الجمالية التي تحققها بليغة في مدها ورؤاها، كما في الأنساق التالية:

"أعيريني حنانكِ لاتخافي
من الشيطانِ فلتفرح كثيرا
فما الشيطانُ إلا من رمانا

بهجرٍ سارقاً منا السرورا"

فالقارئ هنا- أثار الدهشة في النسق الشعري، ليبرز النسق كقيمة جمالية مباغتة، تحفز الرؤية وتخلق المتعة الجمالية.

وهذا ما ينعكس على الأبيات الشعرية الأخرى إثارة ولذة في تشكيل الأبيات وتحقيق متغيرها الجمالي.

وثمة تنسيق فني في قصائد وهيب عجمي يسمى التنسيق بالمعجم وهو أن يستخدم الشاعر مرتين أو ثلاث كلمات لها نفس الجذر، أو كلمات لها جذور دلالية معجمية متقاربة من بعضها البعض، يربط فيما بينها، وينسقها وفقاً لما يقتضيه السياق الشعري من جهة، وما يقتضيه المعجم من الدقة والاختيار من جهة ثانية، وأكثر ما نجد هذا التنسيق في القوافي النهائية التي تتضمنها القصيدة، كما في قوله:

"خذوني واغرسوني في ترابي
ولا تبقوا حنيني في اكتئاب
حنيني للطفولةِِّ حين تلهو
بطينٍ ترتوي منه ثيابي
لعرزالٍ بعينِ الليلِ يغفو
على إيقاعِ صرصارٍ بآبِ
حنيني للورود تفوحُ فجراً
وفي الطيونِ أسرارُ اجتذابي
حنيني للثمارِ على كرومٍ
معلقةٍ على سطحي وبابي
حنيني حيثُ دبسُ التينِ يغلي
بآنيةٍ فتعشقه الخوابي
وكوزُ الماءِ كم روى غليلي
ولم يترك مجالاً للعتابِ"(8).

لابد من الإشارة إلى أن التنسيق بالمعجم – في قصائد وهيب عجمي- يتأسس على تضافر البنى المعجمية في إبراز الانسجام والتفاعل والتناغم التقفوي، محققاً أقصى درجات الشعرية،كما في قوله:[ اكتئاب- اجتذابي]، و[بابي= الخوابي]و[عتابِ= ثيابي]؛ وهذا يعني تفاعل الأنساق الشعرية محققاً أقصى درجات الفاعلية والاستثارة والعمق، وهذا دليل ولع الشاعر وهيب العجمي في خلق الترابط المعجمي من خلال انسجام القوافي وانسجامها، ومن هنا"نلحظ أن اللغة- في النص- لاتكون مرجعيتها دلالتها المعجمية، أو استخداماتها الشائعة،والتي تشير إلى معنى، أو موضوع، أو مضمون خارجها، فلغة النص لها مرجعيتها في ذاتها... وعليه، فتحليل النص يتركز في معرفة أدبيته بواسطة العكوف على دراسة عناصره،ومكوناته وعلاقاته اللغوية، فأدبية النص تكمن في دواخله وتركيباته الأدائية وتشكيل وسائله التعبيرية"(9).

و الملاحظ أن الشاعر يختار قوافيه التالية بتنظيم معجمي فائق كما في الأنساق التقفوية التالية:[اكتئاب=اجتذابي]و[بآب= باب= ثيابي]و[ الخوابي= للعتاب]؛ لتأتي متآلفة منسجمة فيما بينها بروابط دلالية تارة،وروابط تركيبية نحوية محكمة تارة أخرى،وفق مقتضيات السياق الشعري من جهة، ومقتضيات المعجم وما يمثله من جهة ثانية، بمعنى أدق: لقد راعى الشاعر في اختيار دواله المعجمية تآلف حروفها من جهة،وانسجامها مع ما يليها من عناصر التركيب أو الصوغ الشعري من جهة ثانية، لهذا نلحظ أن وظيفة القافية لاتنحصر في الجانب الصوتي أو السيميائي، بل تتجاوزها إلى الدلالة، ولذلك ركز بعض الباحثين على ضرورة دراسة علاقة القافية بالمعنى من جهة،ومقتضيات المعجم والسياق الشعري من جهة ثانية، يقول جان كوهن"فالقافية تحدد في علاقتها بالمدلول، سواء أكانت هذه العلاقة موجبة أو سالبة فهي في جميع الأحوال علاقة داخلية، ومكونة لهذا المقوم. ويجب أن تدرس القافية داخل هذه العلاقة"(10).

وإذا عدنا إلى قصيدة وهيب عجمي السابقة نلاحظ أن القافية جاءت منسجمة ومحددة في روي الباء، ولايمكن عزلها عن دلالة النص، وهذا يقودنا إلى القول: إن الوحدات المعجمية التي تكون حروف القافية منسجمة ومتناسقة فيما بينها على صعيد الدلالة،والإيقاع،والرؤية؛ وهذا يعني أنها متناسقة ومنسجمة في تشكيل البنية الكلية للنص الشعري بأكمله.

واللافت أن التنسيق بالمعجم في قصائد وهيب عجمي يؤدي قيماً جمالية في النص بمفاعلة قارئه وجذبه إلى دائرة إبداعه؛ إذ يزيد التنسيق المعجمي من تلاحم النص، وتأمين تماسكه هذا من جهة،ومن جهة ثانية يفتح مجالاً أكثر انفتاحاً للمتلقي في ليشاركه في لعبة التوقع والتأويل؛ فالقارئ قد يشارك أحياناً في ملء فراغ البيت،بتوقعه الوحدات المعجمية في الشطر الأول،وهذا يزيد من ثم من فاعلية النصوص الشعرية، لأنها تجذب المتلقي إلى المشاركة في اكتشاف دلالاتها،وتوقع الوحدات المعجمية المؤطرة لبنيتها،وهذا ينمي من ثم من فاعلية التأثر والتأثير في قصائد وهيب عجمي، لتبدو أكثر إثارة وانفتاحاً للتأويل لجذب المتلقي والقارئ على السواء للمشاركة في إعادة بنائها من جديد

ولو تأملنا قصيدة (عد يا جمال) لوهيب عجمي المهداة إلى روح البطل المقاوم جمال عبد الناصر، لتأكد لنا شعرية التنسيق بالمعجم عبر تلاحم الوحدات المعجمية في القوافي وائتلافها مع الأسطر الشعرية بتمامها وفواعلها النصية المثيرة،وللتدليل على ذلك نأخذ الأبيات التالية:

"عدْ يا جمالُ إلى البلادِ فإنها
إلى أسدٍ لهُ أشبالُ
ولمصرَ عُدْ يا أيها البطلُ الذي
عطشى هزم الطغاةَ على يديهِ فزالوا
ولمصرَ عُدْ لترى سلاطينَ الدجى
فهم لمن ذبحَ
الشعوبَ نعالُ
قدْ طالَ هجركَ ما لمصرٍ كرامةٌ
من دون شخصكَ في البلادِ ضلالُ
عد يا جمالُ لمن تركت بلادنا
إذ ليس بين الحاكمينَ رجالُ
إلا مقاومةٌ لنا في رأسها
شهبٌ أضاءتْ دربنا ونوالُ
هذا الجنوبُ على خطاكَ مقاومٌ
ورصيدُهُ الأفعالُ لا الأقوالُ
الوعدُ والرعدُ الرهيبُ وخيبرٌ
أبناؤها وذراعها الزلزالُ
والأعظمُ الآتي انفجارٌ شاملٌ
فيهِ لمن سفكَ الدما استئصالُ"(11).

لابد من الإشارة بداية إلى أن التنسيق بالمعجم –في قصائد وهيب عجمي- يتمثل في انسجام الصيغ الصرفية في الكثير من المواقع البنائية في القافية، لتبرز كقيم صوتية متجانسة تخلق نغمها الشعري الآسر الذي ينساب مع حركة الأشطر وتناغمها وإيقاعها الصوتي المموسق، ولو دقق القارئ ملياً- في الأبيات السابقة- لوجد أن القافية تفرض نفسها على الفور، وترسخ من تلقاء ذاتها وفي ذاتها المعنى العميق الذي يُراد التعبير عنه، نظراً إلى الدقة والانسجام في اختيارها، على نحو ما نلحظه في القوافي التالية (استئصالُ- الزلزال- الأقوالُ نوالُ- رجالُ-نعالُ- ضلالُ- أشبالُ) كما نلحظ تنسيقاً معجمياً يتبدى في اختيار وحدات معجمية متوازنة صرفياً كما في قوله:(الوعد= الرعد) و(أشبال= رجال)و (الأقوال= الأفعال) إن هذا لائتلاف والتلاحم بين الوحدات المعجمية تارة، وبين القوافي وتموضعها في سياق الأبيات تارة أخرى، يتيح للسامع أن يستنبط وحدات الشطر المعجمية من السطر الآخر، فلا يجد القارئ أدنى صعوبة في فهم مسار النص، نظراً إلى تلاحم عناصره وتكامل وحداته المعجمية المترادفة التي تبين قيمة البطل الخالد جمال عبد الناصر، في تاريخ نضالنا العربي وهويتنا وأصالتنا العربية،فهو رمز من رموز الأبطال في وعيه وإحساسه ونبضه المقاوم، وهاهنا يلحظ القارئ أن معظم المفردات أو الوحدات المعجمية جاءت تقريعية تنديدية ثائرة على الواقع المتردي الذي آلت إليه أمتنا العربية في ظل ضعف الحكام وانعدام الأبطال الميامين وتقهقر واقعنا العربي بالذل والهوان،ولهذا جاءت الوحدات المعجمية تقريعية بأصوات انفجارية صارخة كما في الوحدات المعجمية التالية: (الوعد- الرعد- أسد – أشبال- انفجار- سفك- الزلزال-ضلال) كلها مفردات قوية دالة على الثورة والتمرد وتأجيج الهمم من أجل كشف الواقع المتردي،والعمل على تغييره.

وهذا دليل أن"الأداء الفني الجيد يمثل تجسيداً موضوعياً لقدرة صاحبه على تشكيل رؤيته الإبداعية الإبداعية؛ ووسيلته إلى ذلك بناء لغوي يتيح للمتلقي أيضاً أن يعيد تشكيل البناء بواسطة إعمال خياله ووجدانه، وهنا يستطيع القارئ أن يستشعر أبعاداً أخرى تلوح داخل التشكيل اللغوي نفسه"(12).

وثمة تنسيق فني في قصائد وهيب عجمي يتمثل في التنسيق القائم بالمثنويات الإضافية المتخالفة أو المتعارضة،ونقصد بهذا التنسيق، الانسجام القائم بين الكلمتين المضافتين بإسنادهما إلى جهتين مختلفتين دلالياً أو نحوياً؛ فالاختلاف هنا ليس مصدره معنى الكلمتين في ذاتهما، بل في محيطهما، أي في النسق الذي تردان فيه، بمعنى أن الاختلاف قد يكون اختلافاً صوتياً، أو إيقاعياً، أو صرفياً أو دلالياً.

واللافت أن التنسيق- في المثنويات الإضافية- في قصائد وهيب عجمي- يسهم في تنغيم الإيقاع بارتفاع حدته حيناً،وانخفاضه حيناً آخر،وهذا الاختلاف يُنغِّم الإيقاع ارتفاعاً أو انخفاضاً،تباطؤاً أو تسارعاً،تبعاً لشكل المضاف، والموقع الإسنادي الذي يشغله مع المضاف إليه، فقد تأتي بعض المثنويات الإضافية متسارعة، وقد تأتي أخرى متباطئة، تبعاً لموقعية المجاورة بين المضافين،ونوعية العلاقة القائمة بينهما من جهة، والبنية الصوتية المشكلة لكلا المضافين من جهة ثانية.

وأكثر مظاهر التنسيق بالمثنويات الإضافية المتخالفة جمالاً واتساقاً وإتقاناً تلك المثنويات التي تقع في الموقعية التقفوية مقارنة مع غيرها من المثنويات التي تقع في باقي أجزاء البيت،وغالباً ما يأتي المضاف الثاني معطوفاً على المضاف الأول محققاً قيمة جمالية في الرؤيا والفكرة التي يطرحها الشاعر كما في قوله:

"بكَ الأشعارُ تسمو والقوافي
فتبتهجُ الحروفُ على الشهابِ
حُجبتَ فداءَ أرضكَ في جنوبٍ
حجوبَ الفجرِ في ثوبِ الضبابِ
ضياءُ جبينِك الوهاجُ صبحٌ
يودعنا بأناتِ الهضابِ
تغيبُ الشمسُ عنا يا حبيبي
ليسطعَ نورُهَا بعدَ الغيابِ
ولونُ البحرُ في عينيكَ يصفو
ووجدُ العينِ في دمعِ الربابِ
بوردة ِ خدك الخجلى أريجٌ
تمنى لثمه زهرُ الروابي
وصيفاً كنتَ دفاقاً بخيرٍ
كرومُ الصَيف تعشقها الخوابي
سحابٌ أنت تسقي قلبَ أرضٍ
وروحُ الأرضِ من روحِ السحابِ
وأنتَ الشعرُ تحيا في خيالي
يدونك اليراعُ على كتابي
عزائي ياحبيبي فيك أني
غداً ألقاكَ في حضنِ الترابِ"(13).

لابد من الإشارة إلى أن المثنويات الإضافية-في قصائد وهيب عجمي- تلعب دوراً فنياً موقظاً للدلالة، لاسيما بوقوعها قافية للبيت،على نحو ما نلحظه في المثنويات المتعارضة التالية: (حجوب الفجر/ ثوب الضباب)، ناهيك عن المثنويات الإضافية التي تقع في موضع القافية،كما في المثنويات المنسابة التالية:[ ثوب الضباب= زهر الروابي= دمع الرباب- روح السحاب- حضن الكتاب]؛ واللافت على الصعيد الصوتي تشاكل المثنويات الإضافية بالإيقاع والصورة، مما يدفع بحركة التناغم الصوتي إلى الارتفاع حيناً،والانخفاض حيناً آخر،تبعاً لحركة الإضافة التي تسرع الإيقاع بالتاواشج الفني بين المضاف والمضاف إليه،واللحمة الجمالية الترابطية بالإسناد، لينسجم هذا التنسيق الصوتي مع الموقف الدلالي الذي ترسمه الأبيات، إذ إن الأبيات تشي بتنامي المشاعر العاطفية إزاء المرثي،وذكر مشاعره المفعمة بالصبابة والحنو إلى لقائه،فإذا لم يكن اللقاء في الدنيا ففي حضن التراب،وهذا دليل الحب والوفاء للمرثي وعظمته في نفسه، وهكذا جاء المعنى منسجماً مع الحركة الصوتية والإيقاعية للأبيات ناهيك عن التوازن والتعادل الصوتي الذي تحققه المثنويات الإضافية في نهاية الأبيات الشعرية،كما في هذه المضافات البليغة في تموضعها التقفوي على شاكلة قوله:[حضن التراب-روح السحاب- زهر الروابي- ثوب الضباب]؛وهكذا، يبدو لنا أن التنسيق بالمثنويات الإضافية مقوم شعري من مقومات الإثارة الجمالية،كونه يسهم في كشف حركة النص الداخلية ومدى تفاعل عناصره وأجزائه المكونة له.

وصفوة القول: إن تقنية التنسيق- في قصائد وهيب عجمي تضاعف من إيقاعها الجمالي،من خلال بلاغة الموسيقى الصوتية التي تتناغم مع المؤشرات الدلالية محققة قيمة جمالية في مواضع تمركزها في القصيدة لاسيما القوافي، مثيرة انسيابها الجمالي الآسر وبلاغتها المدهشة.

التماسك:

تعد خاصية التماسك من الخواص البليغة في إثارة الشعرية،فهي"تسهم في توليد عدد من القيم الجمالية المثيرة في بنية الخطاب الشعري عموماً؛ فأية قيمة جمالية- مهما كانت قيمته أو درجتها- لايمكن أن تتحقق بمعزل عن خاصية التماسك والتنظيم في الخطاب الشعري،وهذا يقودنا إلى القول: إن انفلات الروابط القائمة بين الأدوات اللغوية والتعابير الشعرية في الجمل يؤدي إلى تشتت رؤية النص،وتبعثر دلالاته، لهذا كان من الضروري لتوليد القيم الجمالية في النص أن يُحكِم الشاعر توازن نصه،وترابطه، وتماسكه،لينسجم النص مع رؤى الشاعر المعرفية،وأبعاده الفكرية ومستويات خبرته الجمالية،واستراتيجيته الدلالية في توجيه نصوصه الشعرية"(14).

ووفق هذا التصور، فإن القيم الجمالية التي تحققها تقنية التماسك تمتاز بتنوعها من نص إلى آخر، لكن ثمة معيارين يمكن الرجوع إليهما في إبراز فاعلية التماسك في القصيدة هما (التلاحم أو الترابط النحوي- والتلاحم أو الترابط المعجمي):

التلاحم أو الترابط النحوي:

لاشك في أن التلاحم أو الترابط النحوي من الفواعل النصية الكاشفة عن مدى تماسك النص،وتنامي شعريته، ونقصد ب (التلاحم أو الترابط النحوي): ترابط الجمل والمفردات ترابطاً علائقياً مباشراً على نحو لا نكاد نحس معه إزاء هذا الترابط بأي خلل أو نبو على صعيد التركيب، إذ إن الهدف اللساني المنشود من هذا الترابط خلق التلاحم العضوي بين جمل النص كافة، ابتداءً من الجملة الاستهلالية الأولى،وانتهاءً بالجملة الأخيرة؛ ولعل من أهم الأدوات التي تسهم في خلق هذا الترابط هي: الأسماء الموصولة،وأسماء الإشارة،والأسماء الشرطية، وأدواتها، والحروف العاطفة، ناهيك عن دور الأفعال المهم في توطيد فاعلية هذا التلاحم والتفاعل، إذ تعضد الأفعال أحداث النص وأوضاعه من جهة،ومفرداته وجمله من جهة ثانية.(15).
ومن يطلع على قصائد وهيب عجمي يدرك أن التلاحم والترابط النحوي من مغرياتها الجمالية،فهو ينوع في أشكال الترابط النحوي الذي يخدم الدلالات،ويحفز الشعرية، ولعل من أولى مظاهر التلاحم والترابط النحوي التناغم والانسجام بين أجزاء النص الشعري عند وهيب العجمي، بحيث تتحول الكلمة إلى دلالة تحرك المعنى وتقويه،وتمده بالتفاعل والتضافر والانسجام،وهذا يظهر أكثر ما يظهر من خلال الترابط الحاصل بين إيقاع جمله ومفرداته بصورة فنية بارعة تنم عن مقدرة شعرية عالية بعمق الكلمة وفاعليتها الشعرية على نحو ما نلحظه في قصيدة(وغدت رهينة كفك الأمطار) لوهيب عجمي،وفيها يقول:

"في بحر علمك تبحرُ الأفكار
ومدادُ وحيك هاطلٌ مدرارُ
يروي بذور القلب حين جفافها
فيدورُ ما بينَ الضلوعِ حوارُ
وإذا الدُّنى لأبي الحسينِ خمائلٌ
وعلى الخمائلِ تصدحُ الأشعار ُ
تلك الشموسُ الساطعاتً فروعها
وجنائنٌ أثمارها الأقمارُ
فاغرس بنا ما شئت من إشعاعها
فضياءُ وجهك للسنا معيارُ
وكأنما أنت الجهاتُ جميعها
أنى توجهتَ تحولتْ أنظارُ
ياسيد الكلمات عند بزوغها
ترنو إليك على رؤاكَ تُدارُ
وبها تمايلتِ المعاني مثلما
مالت على أعوادها الأزرارُ
فكأنها القرصُ الملاحقُ شمسَهُ
في كل وقتٍ حولها دوَّارُ
هذي قناديلُ الكلامِ تفتحتْ
وتنفستْ من جرحها الأوتارُ
مسحتْ دموعَ الفجرِ عن أوراقها
وإذا بليلِ المفرداتِ نهارُ
تنسابُ مثلَ جداولٍ رقراقةٍ
طيَّ الفؤادِ تضيئها الأنوارُ"(16).

لابد من الإشارة بداية إلى أن مظاهر التلاحم أو الترابط النحوي في قصائد وهيب عجمي تتأسس على التآلف والانسجام بين المفردات والجمل لإبراز ملمحها الجمالي، وهنا نلحظ التنسيق والترابط والانسجام بين المفردات من جهة، والجمل والتراكيب من جهة ثانية؛ ابتداءً من الجملة الأولى: (في بحر علمك تبحرُ الأفكار) وانتهاءً بالجملة الأخيرة التي وقفت عليها القصيدة؛ ففي قوله:(فضياء وجهك للسنا معيار) يتمظهر التنسيق والترابط والانسجام بين الدالات والألفاظ جميعها، إذ جاءت لفظة (ضياء) منسجمة جمالياً وفنياً مع لفظة (وجه) وهي متناسبة مع لفظة (معيار) وهو إسناد مجازي جمالي في آن، وكان وجه الممدوح بسناء ضيائه يشع على الكون سطوعاً وسحراً وجلالاً،وهذا يدلنا على أنه ثمة ترابط في الأبيات يشي بالبلاغة في التشكيل وإثارة في ربط الأنساق اللغوية لتبرز كقيم دالة محركة للأنساق الشعرية، وهذا يقودنا إلى القول: إن الشاعر المبدع هو القادر على تعديل نظام اللغة بغية توليد المعاني الجديدة أو إظهار الجوانب الخفية للمعاني القائمة؛ وذلك كله لا يكون إلا ثمرة اختيار لأفضل ما في حوزته من الألفاظ التي من شأنها أن تعبر عن مشاعره وأفكاره أفضل تعبير؛ وفي هذا تكمن القيمة الجمالية لقدرة الشاعر على التركيب.

ومن مظاهر الترابط والتلاحم النحوي - في قصائد وهيب العجمي- هذا الانسجام والتفاعل الحاصل بين المفردات والتراكيب تؤلفه الأنساق اللغوية المتوازنة، لتخلق متغيرها الجمالي، فالقيمة الجمالية للترابط النحوي تتحقق بتفاعل الأنساق، مما يؤدي إلى تماسك بعضها مع بعضها الآخر وفق متتاليات من الجمل المتوازنة فيما بينها، كما في قوله:

"عربيةٌ لغتي لسانُ قضيتي
آفاقُ حلمي، للفلاحِ نداهُ
حملتْ زهورَ مودتي أغصانها
فتعطرت بشذا الربيعِ رُباهُ
أودعتُها قلبي وعقلي والرؤى
وإذا فؤادي نابضٌ برؤاه
وغسلتُ أوجاعي بطهرِ مدادها
سالت بشرياني الحزينِ دماهُ
ياسائلي عن سرها هذا دمي
عبرَ السطورِ مورَّدٌ بجناهُ
من ظنها حبراً فقد جهلَ التي
منحتْ فؤادي أن يعيشَ مداهُ
ساكنتها قصرَ الروائعِ بعدما
أخذت يدي إلى الكتابِ يداهُ
غزلتها فازدادت فيها رفعةً
وبنيتُ مجداً مجدُها اعلاهُ
فاضتْ عليَّ بعطفها حتى غدت
نهراً جرى في أضلعي مجراهُ
ما أعظم الحرفَ الذي سُكِبت به
روحُ البلاغةِ فارتقى معناهُ
وما أروعَ الوترَ الذي عُزفتْ به
روحُ العبارةِ فاغتنى مغناهُ"(17)

لابد من الإشارة إلى أن الترابط النحوي بين المفردات والكلمات والجمل ليس ضرورة أن يكون سنيمترياً دقيقاً، وإنما ينبغي أن يخضع لقيمة شعرية جمالية في التشكيل، واللافت في قصائد وهيب عجمي أن الترابط النحوي لا يقتصر على الأسماء الموصولة والحروف العاطفة، والأسماء الشرطية وغيرها من الروابط، وإنما الترابط ينشأمن ارتباط الدلالات مع بعضها في جميع الأبيات لتشكل لحمة متكاملة من أول كلمة في معمار القصيدة إلى آخر كلمة في تشكيلها ولو دققنا في الأبيات الشعرية السابقة- لتبين لنا أن الترابط الماثل فيها يشكل علامة فارقة في تكامل دلالاتها، وهذا الترابط يسهم في تنسيق أحداث النص وتوازن أفكاره، فيبدو كل بيت شعري- في الأبيات السابقة- قائماً في ذاته من جهة أولى،ومتماسكاً أيضاً مع البيت الذي يليه من جهة ثانية؛ وهذا التناسق والتضافر والانسجام بين الأشطر من جهة، وبين الأبيات من جهة ثانية يؤدي وظيفة جمالية، بالإضافة إلى وظيفته الأساسية،وهي تنسيق الأفكار وترتيبها،مؤكداً في النهاية عظمة اللغة العربية على نفسه،وما تفيض به معانيها الخلابة المتجددة؛ وهكذا تبدو الأبيات منسوجة نسجاً فنياً بارعاً ينم عن فهم عميق للعلاقات والروابط النحوية،والقدرة على الصياغة الشعرية، فلا تحس- في أبياته- بأي تنافر أو خلل، أو نشوز على صعيد التركيب والاختيار،إذ تأتي الكلمة في موضعها المناسب لها تماماً، منسجمة شعرياً مع الكلمة التي تليها،وكأنها صبت صباً في قالب فني شاعري أصيل؛ وهذا التلاحم النحوي يعد أهم عنصر في توليد القيم الجمالية في شعره، وهو عنصر مهم في كل صياغة شعرية على الإطلاق.
وهذا دليل على أهمية الروابط النحوية في تماسك النص، وترابطه،وتسلسل أفكاره؛ فالنص الجيد-في المحصلة- هو سلسلة مترابطة من العلاقات والروابط النحوية المتفاعلة فيما بينها تفاعلاً لغوياً فنياً أصيلاً.

الترابط المعجمي:

يعد الترابط المعجمي من المؤشرات الدالة على حساسية الشاعر الجمالية في اختيار المفردات التي تخدم سياقات قصائده ومنعرجاتها الدلالية،ونقصد ب (الترابط المعجمي: الترابط القائم بين المفردات داخل النص الشعري ترابطاً سياقياً ومعجمياً؛ وهو نوعان: ربط مباشر داخل النص،وربط غير مباشر (إيحائي) داخل النص وخارجه؛ ونشير إلى ناحية مهمة في التلاحم أو الترابط المعجمي، ألا وهي أن القدرة الوظيفية لكل من المستويين النحوي والدلالي تستند إلى المعجم، أو تضع على عاتقه تحقيق متطلبات كبرى في مقدمتها وظيفة المحمول والمدلول في عملية الاختيار؛ فالشاعر يختار مفرداته في الصياغة الشعرية من بين عدد متراكم من المترادفات، يختار أكثرها دلالة وإيجازاً في التعبير عن تجربته وصياغتها صياغة شعرية لهذا فالدور الجمالي المنوط بالمعجم لايقل شأناً عن الدور المنوط بالنحو أو الدلالة، وهذا يعني أن للترابط المعجمي أهميته في التشكيل الشعري، ذلك"أن الوقوف على المعنى المعجمي للفظة هو الذي يلفت الانتباه إلى معانيها المجازية التي يضيفها الأدب"(18).

ومن يطلع على قصائد وهيب عجمي يلحظ أن الترابط المعجمي من فواعلها النصية المؤثرة في تحفيز الشعرية، فهو يختار الأنساق الشعرية المتوازنة التي تشي ببلاغة في موقعها النصي، فلا يلحظ القارئ نشوزاً في الدلالة وتشويهاً للمعنى، ونمثل للتلاحم والترابط المعجمي- في شعر وهيب عجمي- بالائتلاف والانسجام القائم بين المفردات في تراكيبه الشعرية التي تنم عن دقة بالغة في الاختيار، وبراعة مثلى في الصياغة، على نحو ما نلحظه في قوله:

"منديلُ أمي كم تراقص فرحةً
يومَ القطافِ ودندنتْ أوتارُ
زيتونةٌ قد أسدلتْ أغصانها
فتزاوجت بذيولها الأطيارُ
لكنها مالت على خد الثرى
تحنو على من في الثرى قد صاروا
مثلي على الأحبابِ ذابَ فؤادها
وحنينها للأهل ليس يُعارُ
من جرح عاطفتي سكبتُ قصائدي
بدم العواطفِ تُكتبُ الأشعارُ"(19).

لابد من الإشارة إلى أن الترابط المعجمي- في قصائد وهيب عجمي- يرتكز على فاعلية الرؤية الشعرية في توليف الأنساق وتركيب الجمل بكل ما تتضمنه من مظاهر الإثارة والدهشة الجمالية، وإن أول ما نلحظه في الأبيات الشعرية السابقة التناسق والانسجام القائم بين مفرداتها من خلال العلاقات السياقية حيناً والعلاقات المعجمية حيناً آخر، ناهيك عن إيقاع التنسيق والتآلف والانسجام الذي يولده الجناس في القوافي:[ الأشعار= الأطيار]و[ الأوتار= الأشعار]؛ كما ينبعث من العلاقات السياقية- أيضاً- إيقاع داخلي قوامه الانسجام الإيقاعي بين قوله:[ تراقص فرحة= دندنت أوتار]و[ تزاوجت بذيولها الأطيارُ= بدم العواطف تكتب الأشعار]؛ فالشاعر لايريد تحريك الإيقاع من الداخل فقط عن طريق الجناس والانسجام التركيبي فحسب، بل يريد تحريكه أيضاً من الخارج من خلال تآلف حروف الكلمات وامتزاج دلالتها المعجمية بالدلالة السياقية، مما يؤدي إلى خلق التماسك والتوازن النصي بين المستويين النحوي والمعجمي في آن معاً.

ولو دقق القارئ في المفردات التي تكونت منها القصيدة، لأدرك تناسبها من كم هائل من المفردات المترادفة،ودليلنا الاختيار الدقيق للفعل تزاوجت بدل الفعل (تلاحمت) حرصاً على الحرية في التعبير عن دلالة الصورة، فالتزاوج يمنح فرصة أعمق للحرية في الطيران،وهذا يناسب الحرية التي تمتاز بها الطيور بالطيران، فعالم الطيور عالم حر منفتح نتتناسب معه لفظة التزاوج وليس التلاحم، إبرازاً للدلالة وتأكيداً للمعنى البليغ الذي يرومه الشاعر في صورته الشعرية السابقة. وهذا يقودنا إلى القول: إن هذا التآلف والانسجام في اختيار اللفظة في موضعها المناسب من الصياغة يولد أهم قيمة جمالية ألا وهي التماسك والتوازن) ضمن الإطارين المعجمي والسياقي في آن معاً، مما يدفع القارئ أو المتلقي إلى التفاعل مع المشهد الصوفي الذي يرسم أجواءه الفعل (تزاوجت) في البيت الشعري التالي:

"زيتونةٌ قد أسدلتْ أغصانها
فتزاوجت بذيولها الأطيارُ"

وهاهنا تبرز الصورة بقيمتها الجمالية وحسن الاختيار وبلاغة المعنى الشعري في التجسيد،وهذا يدلنا على"أن أي عدم توازن أو خلل بين العناصر اللغوية والتصويرية والإيقاعية سيخفف من شعرية الخطاب وتفرده،إذ إن شعريته تنبع من تعانق التراكيب المميزة مع العناصر الأخرى؛ والمبدع الحاذق هو الذي يسخر إمكانيات اللغة، ويتلاعب بتراكيبها ؟،مما يمنح نصه خصوصية شعرية تجعله يتميز عن غيره من النصوص"(20).

وصفوة القول: إن الترابط المعجمي- في قصائد وهيب عجمي- يكسبها بلاغة فنية في التشكيل،ذلك أن الصور لا تأتي في قصائده متكلفة،وإنما تأتي ذات جاذبية وانسيابية تبرز في التوليف النحوي والمعجمي الملائم لإبراز شعريتها وألقها المتميز؛ وهذا يعني أن شعريته مخصوصة بعناية وبلاغة مركزة في التخليق الإبداعي المميز.

التفاعل:

يخطئ من يظن أن التفاعل خاصية بعيدة عن عالم الشعر، فالشعر لا أهمية له أن لم يحقق التفاعل على مستواه الباطني وتفاعله على المستوى الخارجي، وقد سبق أن أشرنا في دراسات سابقة إلى أن خاصية التفاعل خاصية مهمة في لغة الشعر، إذ"تعد من الخواص الشعرية المهمة التي تسهم- بشكل واضح- في إكساب العمل الشعري قيمته الجمالية؛ فلا يمكن للنص الشعري أن يحقق أية قيمة جمالية بمعزل عن رؤاه وتطلعاته وأيديولوجيته،وأبعاده الفكرية،ومؤشراته الدلالية، فالنص هو شحنة متفاعلة مؤلفة من كتلة من هذه العناصر مجتمعة فهي كل متكامل، تتفاعل الجزئيات فيما بينها، ابتداءً من أدنى مستوياتها (الحرف والكلمة) وانتهاء بأعلى مستوياتها: الجمل والتراكيب الشعرية الطويلة، وهذه الجزئيات على اختلاف علاقاتها وروابطها- ليست منفصلة بعضها عن بعض بكيفية جذرية، بل إن هناك تفاعلاً وارتباطاً بين الذات الشاعرة وبين الواقع المحيط، فكما أن الرؤية الشعرية- هي بالأساس- شرارة أيقظتها الأحداث والمشاهد في الواقع العياني المشاهد، فإن نقلها وصياغتها صياغة شعرية تتطلب من المنتج قدرة فنية عالية تكشف عن خبايا الذات وأسرارها وارتباطها بهذا العالم من قريب أو من بعيد."(21).

ونقصد بخاصية التفاعل: مجموعة من العوامل والقدرات والإمكانات والأيديولوجيات والظروف النصية الماورائية التي تتفاعل فيما بينها مشكلة بنية الخطاب الشعري.

وأبرز أشكال التفاعل في قصائد وهيب عجمي تتأسس على التفاعلات التالية:

التفاعل الذاتي:

ونقصد ب (التفاعل الذاتي) التفاعل بين ذات الشاعر وواقعه المحيط، وبقدر ما يتفاعل الشاعر مع الواقع، ويلتقط من أحداثه ووقائعه الشيء الكثير تتسع رؤيته الشعرية ويزداد تفاعله مع هذا الواقع على نحو إيجابي فعال.من يطلع على قصائد وهيب عجمي يدرك أن الشاعر يتفاعل مع واقعه المحيط بكل أحداثه ومتغيراته الوجودية، فهو يشتق من الواقع مادة فنية لقصائده، لتحمل من الرؤى و الدلالات الشيء الكثير.

ولعل ما يميز قصائد وهيب عجمي حيازتها على كم هائل من الأحاسيس والهموم والتطلعات القومية والثورية، فهو تغنى بهموم الذات وهموم الوطن وهموم الأمة وما تمر به من أحداث،ففي قصيدة (من الشمس هوت) للشاعر وهيب عجمي، يعبر الشاعر عن رثائه لأمه بأحاسيس عميقة تنم عن إحساس وجودي عميق،ورؤية تفيض بحساسيتها وصدقها، على شاكلة قوله:

"كلما سالت بعيني جنةً
ينتشي حين تناغي المبسما
فأرى ملء ربيعي جنةً
أنفضُ الأحزان عني مغرما
هو ذا اليومُ رمادٌ عاصفٌ
ذو شرارٍ في مآقينا احتمى
علميني فكتابي مبهمٌ
وأنا لا أستسيغُ المبهما
كم تمنيت بأن أبقى أنا
حيثُ أنت الآن كان الأرحما
وأعترف إن شئت أو لا تعترف
قد أتيت الموتَ طفلاً مرغما
جئت تبكي دفء أم عارياً
طامعاً في الأرضِ تجني الوهما
تجمعُ الألعابَ في محفظةٍ
ثم تمضي تاركاً فيها الدمى"(22).

لابد من الإشارة إلى أن التفاعل الذاتي – في قصائد وهيب عجمي- هو تفاعل يكشف عن مدى تأثر الشاعر بالواقع الاجتماعي والتفاعل معه إنسانياً ووجودياً، وهاهنا جسد الشاعر في الأبيات الشعرية السابقة قيمة إنسانية نبيلة هي تقديس تراب الأم،والحنو على ذكرياتها الماضية وما خلفه رحيلها من غصة وحرقة في القلب والروح، فبدت الأبيات صادقة معبرة في نفثاتها العاطفية عن هذه الحرقة،وهذا دليل تفاعل الشاعر مع الأحداث الواقعية التي يمر بها،وينقلها بحس جمالي وحساسية شعورية مفعمة بالصدق والعاطفة واحتدامها الداخلي.
واللافت أن التفاعل الذاتي لدى وهيب عجمي قد ينتقل من الذات إلى الآخر، فشعر وهيب لم يقتصر على معاناته الذاتية وتطلعاته الوجودية، بل تجاوز هذه الأمور إلى الحديث عن أوضاع أمتنا العربية، وماتعانيه من شتى أنواع الاستغلال والظلم والاحتلال،ولهذا رثى الشهداء الأبطال، وجعل من رثاء شخصياتهم المهمة نقطة تحول في تفاعله مع الأحداث الجارية والبحث عن متغيراتها الوجودية، كما في رثاء الشهيد أحمد ياسين التي يقول فيها:

"لا تسألِ الأزمان عن ميلاده
إذ للشهيد بكلِّ نصر مولدُ
أنتَ الذي رسمتْ لنا خطواتهُ
دربَ الحياةِ، لذا أتينا نشهدُ
أن الفدا من نزف جرحك يرتوي
والنارُ في الثوار،لا، لاتبردُ
من ذا يضمدُ في غيابك جرحنا
ولطالما كنتَ الجراحَ تُضمِدُ
ولئن سألتَ عن الترابِ فإنه
بدم الجهاد مخضَّبٌ متوردُ
كذبوا فما قتلوك، بل قتلوا همً
فدماؤُك الإعصارُ فينا يرعدُ
للضفتينِ بنهرك الجاري غدٌ
متأججٌ متجددُ متوعدُ
شعبٌ يقدم للكرامة روحَهُ
أوصافهُ الكرمُ الإبا والسؤددُ
لابد منتصرٌ على أعدائه
مهما استبدوا بالشعوب وعربدوا
أنا ما أتيتُ المجد أذرفُ دمعتي
بل قمتُ فخراً بالشهيد أمجدُ"(23).

هنا، تنصهر الذات الشاعرة في هموم الآخرين، فترثي الشخصيات العظيمة، كشخصية المجاهد أحمد ياسين،وتبرز عظمة الشهادة وقيمة الاستشهاد في سبيل نيل المكارم، وتحقيق الأمجاد المشرفة، وهنا، ينتقل الشاعر من بؤرة الذات إلى الآخر،مؤكد تلاحمه الشعوري مع قضايا أمته، ممجداً الشخصيات الاستشهادية العظيمة التي تركت أثرها البالغ في الوجدان الإنساني النضالي الحي.

وهذا دليل استعلاء النظرة الإنسانية الشاملة في قصائد وهيب عجمي، فهو يدعو إلى الفضيلة، وتكريس قيم البطولة والشهادة في النفوس،وتقديس الأرض، وتراب الوطن، فها هو في قصيدته (تحية النصر) يمجد الانتصارات والمقاومة اللبنانية قائلاً:

"يا حامل الأرض من للأرض غيركم جيشُ البلادِ وفيكَ الشعبُ منتظمُ
إرادةُ الحبِّ في لبنان انتصرت
بوحدةِ الكل رفرف أيها العلمُ
شرقتُ بالدمعِ لما عادَ لي وطني
حتى بكى فرحاً من بعديَ القلمُ
وسالَ حبري على قرطاسهِ نغماً
ليمسحَ الدمعَ في أعيادنا النغمُ
إنا اعتصمنا بحبل الله في بلدي
لما غدونا بحبل الجيش نعتصمُ
ونشهدُ اليومَ للتاريخ نعلمُهُ ٌ
لولاكَ يا جيشُ لم تثبت لنا قدمُ
كلُّ الطوائف في لبنان طائفة
كرمى لعينك جرحُ العينِ يلتئمُ
ياصانعَ العز والأمجاد ياشهباً
فيك العزيمةُ تغني نجمها الهممُ"(24).

هنا، يعبر الشاعر بإيقاع روحي عن إحساسه الوجودي الصادق، معلناً فرحه وتمجيده بالانتصارات العظيمة والمقاومة الناجحة التي حققت تطلعاته الثورية،وأحلامه البطولية من خلال صمود الجيش اللبناني معلناً ثباته وعظمته في ظل التحديات الراهنة،والأحداث العاصفة بأمتنا العربية.

وصفوة القول: إن التفاعل الذاتي – في قصائد وهيب عجمي- يدلل على عواطف الشاعر السامية في الحفاظ على الأصالة والعاطفة السامية لتحقق ما يبتغي الشاعر من مؤثرات خلاقة يرنو بها الشاعر آفاقاً من التأمل والتفاعل مع الواقع الوجودي، فالشعر من منظور وهيب عجمي ينبغي أن يكون صورة عن الواقع أو منعكساً من منعكسات الواقع وتطلعاته ورؤاه الوجودية المحتدمة بكل الرؤى والتطلعات الجديدة.

التفاعل الوجودي:

يعد التفاعل الوجودي- من المؤثرات التي تدلل على تفاعل الشاعر مع عالمه ووجوده إنسانياً أو تأملاً فكرياً يؤكد الذهنية المتفتحة التي يملكها الشاعر في محاكمة الأشياء وكشفها،أو تصوير الأشياء وإبراز محركها الجمالي الخلاق، فكم من الشعراء لايرتقون إلا بنظرتهم الفلسفية أو الوجودية أو الحس الجمالي في تحريك الأشياء والارتقاء بها وجودياً.

ومن يطلع- على قصائد وهيب عجمي – يدرك أن التفاعل الوجودي من محفزاتها الرؤيوية التي تؤكد تفاعل الشاعر مع الأحداث الجارية، كما في تعاطفه مع كل من يقدم مساعدة لبلده بيروت في إعماره، أو إصلاح دماره وخرابه،كما في مدحه دولة قطر الشقيقة على مساهمتها في إعمار ما هدمه العدو، كما في قوله:

"لكل غصنٍ نما في أرضه مطرُ
فصلٌ به الماءُ يهمي ثم يستترُ
لكن لنا مطرٌ كلُّ الفصولِ لهُ
يسقي البلادَ فيجري السيلُ والنهرُ
من غير برقٍ ولا عدٍ به هطلتْ
مواسمٌ الخير عاشت أمها قطرُ
هو الشتاءُ عيونُ الغيمِ تذرفهُ
وكم تحكم في املائه القدرُ
حيناً يعادي الربى حيناً يصافحها
وما استقر على أحوالهِ الزهرُ
وإنما فطرٌ عيثُ المدى هطلٌ
بكفها البحرُ في أعماقه الدررُ
أقمارُها في سماء الشرقِ سابحةٌ
والحبُّ كللها والصبرُ و السهرُ"(25).

هنا، يعبر الشاعر عن تقديره وتبجيله للمكارم العظيمة التي قدمتها دولة قطر الشقيقة لبلده (لبنان)، فهو يبجل القيم والأخلاق الكريمة التي امتازت بها قطر من إغاثة المنكوبين وتأمين المساعدة لهم، وهذا التفاعل الوجودي مع كل حيثيات الواقع يدلل على انهماك تجربة الشاعر بكل القيم الإنسانية النبيلة التي تجعل من نصه نصاً توجيهياً بقيمه وسماته الإنسانية الراقية.
ومن يطلع على قصائده في حب الأرض والوطن والتغني بالبنان،وطبيعته الخضراء يدرك تفاعل أحاسيسه ورؤاه مع كل ما يؤجج حماسه وانتماءه إلى العروبة،فهو شاعر ملتزم بقضايا أمته، ينافح عنها، يعشق تراب الوطن ويقدس قضاياه، فالشعر هوية انتماء ليس ترفا لفظياً، فهاهو في قصيدته (حبيبتي لبنان) يصدح بأجمل الألحان،مرتلاً أشواقه صوراً تفيض عذوبة وشاعرية وإيحاء، كما في قوله:

"خذوني واغرسوني في ترابي
ولا تبقوا حنيني في اكتئاب
أنا أحيا بموتي في بلادي
وإني هالكٌ في الاغترابِ
هوى لبنانَ عندي كلُّ بيتٍ
يشاطرني البكاءَ على ذهابي
فبيتي قامتي والأرضُ روحي
ويحيا فيها أبداً شبابي
حنيني للطفولةِ حين تلهو
بطينٍ ترتوي منه ثيابي
حنيني للورودِ تفوحُ فجراً
وفي الطيون أسرارُ اجتذابي
حنيني للثمارِ على كرومٍ
معلقةِ على سطحي وبابي
حنيني حيثُ دبسُ التينِ يغلي
بآنيةٍ فتعشقه الخوابي
وكوزُ الماءِ كم روّى غليلي
ولم يترك مجالاً للعتابِ
هنا وطني بحضن الله يربو
ولبنانُ المحبة في خطابي
هنا أرزٌ تشامخَ في الأعالي
دم التفاح في خدِّ الهضابِ
هوى لبنان عشش في ضلوعي
ويدفعني له طولُ الغيابِ
هوى لبنانَ دوَّى في عروقي
دوي الرعدِ في رئةِ السحابِ
هوى لبنانَ عندي كلُّ طيرٍ
يشاركني بأفراح الإياب
خذوني وسدوني في التراب
فهذي الأرضُ أرضي ياصحابي"(26).

إن القارئ هنا يلحظ عمق الأحاسيس الحبية إزاء بلده لبنان، فكل بيت من الأبيات السابقة يمثل نفثة شعورية حبية صادقة تفوح برائحة الود والحنين إلى الوطن والأهل والذكريات الماضية، وهذا التفاعل الشعوري مع كل مثيرات الواقع المحيط به يؤكد الأصالة والقيم التربوية الجمالية التي تربى عليها شاعرنا وهيب عجمي في التزامه بقضايا أمته،والدفاع عنها،والتغني بمظاهرها الجمالية وطبيعتها الخلابة، وهذا ما يؤكده قوله:"إن لبنان وطن الانتماء، أجسد به أشواقي وأكتب حبي نفثات صادقة تخرج من ربيع القلب،وما القصيدة عندي إلا للتغني بجمالياته وانتمائي لأصالته وعروبته، وقضاياه المصيرية"(27).

وصفوة القول: إن التفاعل الوجودي- في قصائد وهيب عجمي- يعكس الوعي الوجودي في التفاعل مع الأشياء، لاسيما في التفاعل مع الطبيعة وكل ما يحيط بالشاعر من قضايا وجودية تمس الوطن والأهل والأصدقاء،والأحبة، معبراً عن قيمه الإنسانية النبيلة،وتمسكه بهذه القيم بعاطفة صادقة تؤكد أصالته ومعدنه النقي.

التفاعل النصي:

لاشك في أن تقنية التفاعل النصي من المؤثرات الشعرية الخلاقة التي تميز القصائد الشعرية المبدعة ذات الحياكة الجمالية، والمعنى العميق، ونقصد ب (التفاعل النصي):

مجموعة من الجزئيات النصية التي تتفاعل فيما بينها على مستوى الحروف والمفردات والجمل، وما تتضمنه من مرجعيات كتابية وموروثات ثقافية،ومستويات كلام تسهم مجتمعة في تشكيل الفضاء الدلالي للخطاب الشعري،وتحديد المفيد من سماته الفكرية وخصائصه الجمالية وتشكيلاته اللغوية.

وتعد تقنية التفاعل النصي من التقنيات النصية المهمة في الكشف عن تفاعل الأنساق اللغوية فيما بينها محققة قيمة جمالية، ولأجل هذا تسهم تقنية التفاعل النصي في ترابط النص، وتأمين تماسكه من جهة، وتحريك إيقاعه الداخلي من جهة ثانية، عبر تقنية الموازاة الدلالية تارة، والمتضادات اللفظية تارة أخرى، وأكثر التفاعلات النصية إثارة تلك التفاعلات القائمة بين المتضادات؛ إذ إن كل ثنائية ضدية تتضمن شيئين متضادين متعاقبين يستقطبهما محور واحد،مما يؤدي إلى تفاعلهما على نحو مؤثر في السياق الواحد؛ ولعل سر أسلوب التفاعل بين المتضادات اللفظية يعود إلى الانتقال المفاجئ بالحركة التعبيرية من نقطة إلى أخرى تناقضها أو تتضاد معها، مما يؤدي إلى ازدياد حدة التوتر والحركة في البنية النصية، نتيجة لتفاعل المتضادين في السياق الشعري الواحد، على شاكلة قول الشاعر وهيب عجمي في هذه الأبيات:

"شدَّ الرحال إلى بغداد فتيان
عينَ الوفاءِ مصابيحَ الهدى كانوا
هم النجومُ إذا اشتدَّ الظلامُ همُ
على الرؤوسِ أكاليلٌ وتيجانُ
هم الجنانُ فاضتْ في مباهجها
فصولهم عنبٌ.. تينٌ ورمانُ
يا تارك القلب عد للقلب يا ولدي
صدري لهجركَ صحراءٌ ونيرانُ
روحي لبعدك أشلاء تبعثرها
ريح الفراق وأشواق ووجدان
أشعلتها بحجيم البعد ياكبدي
حتى اكتوت في أضلاع وأحضان
فسرتُ والسيلُ فتاكٌ بقافلتي
كأنما حل في البلدانِ طوفانُ
فصول همي صناديقٌ مزركشةٌ
فيها من الموت أشكالٌ وألوانُ
فصولُ همي توابيتٌ بها جسدي
صارت ضريحي أعانيها كما عانوا"(28).

لابد من الإشارة بداية إلى أن التفاعل النصي في قصائد وهيب عجمي يتأسس على تفاعل الكلمات في نسقها والجمل في دلالاتها وارتباطها على المستوى النصي العام، فالشاعر هنا، يعبر بقسوة عن أحاسيسه المأزومة بحس جمالي رفيع يرقى به مستويات من الإثارة، وهنا يعزز الشاعر مواقفه النضالية من خلال تمجيد الأبطال الذين ارتقوا آفاقاً من المجد والسؤدد،مؤكدا حسه الوطني وهمومه الوطنية والقومية، ولهذا تفاعلت الرؤى جميعها لتصب في بوتقة نصية واحدة.

وصفوة القول:

إن تقنية (التفاعل) من التقنيات المهمة في تحفيز الشعرية، ذلك أن تقنية (التفاعل) من أهم المحفزات التي جعلت لغة الشعر عند وهيب عجمي تمتاز بحراكها الجمالي، وهذا ينعكس أثرها على آفاق اللغة الشعرية التي تحفز الشعرية وتسمو بها إبداعياً؛ وهذا ما يثير في القارئ لذة مشهدية تباغت القارئ.

التكامل

تعد تقنية التكامل من التقنيات المهمة في تحفيز اللغة الشعرية التي تفجرها في النص،ونعني بالتكامل: الانسجام والترابط المحكم بين المفردات، والجمل،والتراكيب على المستويات التركيبية كافة، ابتداءً من أدنى مستويات الترابط والتركيب ممثلة بترابط الأدوات والمفردات، وانتهاءً بأعلى مستويات الترابط والتركيب ممثلة بترابط الجمل والتراكيب على مستوى الأشطر والأبيات كافة؛وبذلك، يصبح التكامل علامة تتجاوز الدلالة فيها المفردة والجملة والشطر، ويصير المقطع نظاماً لغوياً يحتضن تعدداً دلالياً لا متناهياً. ولعل من مثيرات التكامل في قصائد وهيب عجمي أنه يأتي ليبين الانسجام والتناغم النصي بين المقاطع، محققاً قيمة جمالية عليا في تشكيلها، لدرجة أن القارئ لا يلحظ نشوزاً بالدلالة، ولا انحرافاً واسعاً في درجات تراكيبه الشعرية، الأمر الذي يجعل قصائده مستساغة شعرياً؛ فلا يحس القارئ حيالها بأي نشوز أو تعقيد؛ فأبياته مترابطة محكمة النسج والصياغة والتشكيل الخلاق المبدع.

التكامل الجمالي على مستوى المفردات:

والمقصود ب (التكامل على مستوى المفردات): دراسة التكامل من ناحية انسجام المفردات،وتوازنها الإيقاعي المتناغم في النسق الشعري الذي يتضمنها، وعليه فإن دراسة التكامل بين المفردات تأخذ أهميتها من تفاعل المفردات مع بعضها البعض من جهة،ورصد تناغم المفردات في أطار الجمل وتوازن العبارات في النسق من جهة ثانية.

ولهذا يعد التكامل على مستوى المفردات في قصائد وهيب عجمي مهماً في الكشف عن بنية اللغة الشعرية، وطبيعة الترابطات الصوتية التي تؤثر في مجرى القصيدة الدلالي سلباً أم إيجاباً؛وبناء على هذا يمكن اعتبار التنسيقات المفرداتية ظاهرة مهمة في الكشف عن التكامل النصي البليغ الذي يحقق البلاغة والاستثارة والجمال.

ولابد من التنويه إلى أن دراسة ظاهرة التكامل على مستوى المفردات يتطلب من الناقد الوقوف على جملة من النماذج التركيبية التي تنتظم وفقها مكونات الأسلوب، بحيث يغدو الواجد منها كالمفتاح الذي لايتسنى للباحث الأسلوبي الولوج إلى مظان ا لنص إلا به. عليه مثلاً أن يدرس تواتر التراكيب،وتفاعل بعضها وارتباط بعضها ببعض وفق نظام بنائي أسلوبي مستحدث، ليستطيع استكشاف الأبعاد التكاملية للمركبات النحوية ومدى انحرافها عن المألوف، بفضل الجزء المستحدث من التراكيب التي يبدعها الشاعر لحظة المخاض الشعري، بفضل مهارته اللغوية،وحساسيته الشعرية.

ونمثل لهذا النمط من التكامل على مستوى المفردات بقصيدة (خيوط المودة) لوهيب عجمي،وفيها يقول:

"أعيروني البلاغة والسطورا
لأنسج من شراييني الشعورا
أخيطُُ من المودةِ ثوبَ عشقٍ
أحمّله الوداعة والعطورا
أطرِّزهُ بوجداني المصفى
وأفرشُ أضلعي وطناً كبيرا
فألبسكم ورودَ الحلمِ ثوباً
وأطلقُ في خمائله الطيورا
ولستُ بحاجةٍ إلا إليها
لأملأ من معانيها البحورا
فتاةٌ لاتضاهيها حياة
أثارت في مكامنها النسورا
فحلقت النجوم على مداها
وصار الكل يرمقها غيورا
وما برحت فتاة السحر حسناً
تنسقُ في جنائنها الزهورا"(29).

لابد من الإشارة بداية إلى أن التكامل الجمالي – في قصائد وهيب عجمي- يتأسس على تضافر الكلمات وتواشجها جمالياً وإيقاعياً مع الأنساق الأخرى،لإبراز ملمحها الجمالي، فلا قيمة للكلمة بمعزل عن سياقها الفني الذي وضعت فيه، وهاهنا نلحظ أن الكلمات في الأبيات الشعرية السابقة جاءت متواشجة مع سياقها بإيقاع صوتي ودلالي في آن معاً. كما في تضافر وتفاعل الكلمات التالية التي جاءت بؤرية في إشعاعها وجاذبيتها الفنية، كما في تناغم الكلمات التالية وانسجامها في نسق الصور بلاغياً؛ وهاهنا ارتقى الشاعر بالنسق الشعري آفاقا من الرؤى المحفزة للشعرية بكامل امتداداتها وإيحاءاتها النصية.كما في قوله:[ لأنسج من شراييني الشعورا - وأفرشُ أضلعي وطناً كبيرا- لأملأ من معانيها البحورا]،واللافت أن التكامل المفرداتي على المستوى النصي يحقق قيمة جمالية بليغة، في كل صورة من الصور، محققا قيمة جمالية في نسقها، كما في قوله: (وأفرشُ أضلعي وطناً كبيرا- أثارت في مكامنها النسورا)، وهذا دليل فنية كل كلمة في نسقها واستحواذها لجماليتها الخاصة، وهكذا يؤدي التكامل النصي دوراً مهماً في تحفيز القصيدة لإكسابها شعريتها الخاصة.

وصفوة القول: إن التكامل الجمالي على مستوى المفردات في قصائد وهيب عجمي يحقق بلاغته الفنية،نظراً لتضافر كل مفردة مع الأخرى وتناغمها في نسق إيحائي شاعري يترك بصمته في القارئ لحظة تلقي النص الشعري.

التكامل على مستوى الجمل:

ونقصد ب (التكامل على مستوى الجمل): تكامل الجمل الشعرية وعباراتها على المستوى النصي، محققة قيمة جمالية عليا، غاية في الانسجام والتماسك، وهذا يعني أن تكامل العبارات وتجانسها- على المستوى النحوي والصوتي- يلعب دورا مهما في عودة الوفاق بين المتلقي والشاعر وتواصلهما معا. وذلك يتحقق حينما يتميز الشاعر بقدرات عالية في صياغة ألفاظه وعباراته الشعرية،وإحداث نوع من التناغم بين الألفاظ داخل، فالجمل المتآلفة نحوياُ تفتح المجال واسعا أمام المتلقي لجذب انتباهه، إذ تعتمد في إيقاعها على الهندسة التركيبية النحوية، مما يؤدي إلى خلق تعادل نحوي بين الشطرين،محققة نوعا من التكامل والتناغم اللفظي بين الجمل على مستوى الأبيات الذي ينعكس- بدوره – على مستوى النص.

ويعد التكامل – على مستوى الجمل – بليغاً في قصائد وهيب عجمي الذي تتنوع فيها الجمل، وتتكامل محققة إثارة جمالية في تشكيلها،وتلاحمها الفني.

وقد استطاع وهيب عجمي أن يستثمر كل إمكاناته اللغوية في خلق هندسة لغوية تركيبية محكمة في جمله الشعرية من خلال تكامل الألفاظ وتفاعلها في نسقها الشعري، فالقيمة الجمالية للتكامل على مستوى الجمل تبدو في تفاعل الجمل وتضافرها لتحقق قيمة جمالية بليغة.

ففي قصيدة(زهرة الحلا) التي قيلت في رثاء زهرة محمد سرور، نلحظ أن إيقاعها الجمالي المرهف يرتكز على التكامل الجمالي على مستوى الجمل في إثارة النسق الشعري، كما في قول الشاعر وهيب عجمي في هذه الأبيات:

"يازهرة القلبِ الذي عصفت به
الأرياحُ محمولاً على يسراكِ
ما بالُ فجركِ قد غفا ولطالما
فتحت شرايين الضيا يمناكِ؟!
ما إن سكنتِ القبرَ حتى خلته
نجماً يتابعُ دورة الأفلاكِ
وبكت طيورُ الكرم تندبُ حظها
ولكم تمنتْ في الصباحِ لقاكِ
وكأنها علقتْ على دبقِ الردى
تلك الطيورُ أو ارتمتْ بشباكِ
أجسادنا طيَّ العذابِ كأنها
فوقَ المجامرِ بل على الأشواكِ
نهرٌ من النيرانِ يحرقنا معاً
نارٌ صباحكِ في دمي ومساكِ
يا كوكبَ الكرم الكئيب ألا ارجعي
ما كان حزنٌ دائمٌ لولاكِ
ذكراك في كل القلوبِ سحابةٌ
بيضاءُ تمطرُ شوقنا ذكراكِ
عيناكِ غابتْ عن ديارِ أحبةٍ
وبدارِ ربكِ أشرقتْ عيناكِ"(30).

لابد من الإشارة بداية إلى أن التكامل الجمالي على مستوى الجمل في قصائد وهيب عجمي يتحقق من خلال تكامل الجمل وتواليها وتضافرها في حيز محركها الجمالي، فالجملة لاقيمة لها معزولة عن سياقها، وإنما بتضافرها وتفاعلها ورؤاها النصية، والمثير حقاً أن الفاعلية الرؤيوية تتناغم ومحركات النسق الشعري من خلال تكامل الجمل وتوازنها النسقي، وهذا ما نلحظه في قوله:

ذكراك في كل القلوبِ سحابةٌ
بيضاءُ تمطرُ شوقنا ذكراكِ
عيناكِ غابتْ عن ديارِ أحبةٍ
وبدارِ ربكِ أشرقتْ عيناكِ"

إن القارئ هنا يلحظ انبناء الجمل وتكاملها في نصها مماينعكس على فاعلية الصورة وإثارتها جمالياً؛ فكل جملة تحقق صورة،وكل صورة تتضافر وتتكامل مع الجمل الأخرى محققة بلاغة في تماسكها وتضافرها في وصف صفات المرثية وقيمتها وأوصافها المثلى في القيم والمثل والأخلاق النبيلة.

وصفوة القول: أن التكامل الجمالي على مستوى الجمل في قصائد وهيب عجمي- يحقق قيمة جمالية ترتقي في النسق الشعري،وهذا ما يضمن شعريتها وتفاعلها النصي.

3- التكامل على المستوى الدلالي:

ونقصد ب (التكامل على المستوى الدلالي): تكامل الأبيات وتألفها دلالياً مع بعضها البعض، لتشكل نسيجاً فنياً متكاملاً من بداية النص إلى نهايته؛وهو تلاحم دلالي يربط بين الدلالات بخيط مشترك مشكلاً رؤية النص، وفق مقصدية الشاعر؛وباعتبار المعنى متطور أو متغير من نص إلى نص، فإن المعنى في المحصلة"هو مجموع الكليات المحتملة، والتصورات. وهو افتراضي، وكامن، ومتعدد،وجوهري. ولذلك،سعت القراءة الحداثي من اللذة البارتية إلى الصيحة الهيرمينوتيقية إلى استقراء هذا الكمون،والخوض في هذا الاحتمال، فكيف يخلق الخطاب الشعري موضوعاته؟ وكيف يتلقى القارئ بتوقعاته، احتمالات واردة،والتباسات غير مدركة، وخفايا منطوية توحي ولا تشير(29).

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماهي العوامل التي تسهم في تكامل النص على المستوى الدلالي؟ وهل يمكن اعتبار تعددية المعنى الشعري علامة تقود إلى التكامل أو الانفتاح النصي؟

لاشك في أن مسألة التكامل في المعنى على درجة كبيرة من الأهمية،لأنها تنبع- من وجهة نظرنا- من مقصدية المنتج أولاً، ومقصدية المؤول ثانياً، والذي يمكن اعتباره المنتج الثاني للنص،من خلال تلقيه وتأويله وفق معاييره وخبراته الإبداعية، والتكامل- استناداً إلى ذلك- لايمكن تحققه التحقق الأمثل إلا بتفاعل الرؤيتين (الرؤية الفنية المنتجة/ والرؤية الفنية الكاشفة) التي تقوم تقوم برصد حركة الدلالات وتفاعلها بحدقة مبدعة أكثر من كونها حدقة مؤولة.ولهذا فإن"العمل الأدبي يُدرك بوصفه سلسلة من البنى الثقافية المتراكمة،ليست وفقاً لتوقعات القارئ عن المعنى في أثناء القراءة،وإنما عن احتمالات وعي القارئ بالأفق المتحرك للثقافة، الذي يمكنه من تأويل العلاقة بين دور العنصر داخل الثقافة،وخصوصية ارتباطه بالسياق النصي الجديد، والأسئلة التي يود المبدع طرحها من خلال هذه العلاقة"(30).

وعلى الرغم من أن التكامل- على المستوى الدلالي- لا يرصد الرؤية المتكاملة للنص، وإنما بعض الرؤى الجزئية التي لايشكل تلاحمها وتألفها دليلاً على التكامل الكلي النصي،فإنه يبقى عنصراً مهماً في تكامل المحور الدلالي على المستوى النصي؛ فالتكامل المقطعي- على المستوى الدلالي- قد يكون نافذة مؤدية إلى التكامل النصي،وإن كان هذا النوع من التكامل لايشكل- بالضرورة- دليلاً على تكامل الرؤية النصية، وتوازن مؤشراتها على امتداد المحور الدلالي الذي يستغرق مقاطع القصيدة بأكملها.

ومن يطلع على قصائد وهيب نلحظ أن التكامل على المستوى الدلالي- يتعدى دلالة البيت الواحد، إلى دلالة المقطع، إلى دلالة النص، وفق سلسلة متكاملة مترابطة من العلاقات والروابط الدلالية المحكمة؛إذ تتضافر الأبيات جميعها- في تشكيل الرؤية المقطعية،ومن ثم تشكيل الرؤية النصية المؤطرة لجو القصيدة العام، مشكلة لحمة دلالية متكاملة لاتنفصم عراها الرؤيوية أو تنفصم، كما في قوله:

"والشمسُ في عينيكَ تلقي نظرةً وعلى البراءةِ في جبينكَ ترتمي
إن العصافيرَ التي أطلقتها
طارتْ تزقزقُ في بريقِ المبسمِ
وشعاعُ نجمكَ ما تزالُ زهورهُ
بيضاء تزهو في ربيعِ الموسمِ
يا كوكباً ملأ القلوبَ بحبهِ
ورمى فؤادي في أتونٍ مضرمِ
ما زال وجهك ياعليُّ مشعشعاً
والحسنُ فيكَ كخاتمٍ في المعصمِ
وربيعُ عمركَ في جنانكَ يغتني
وخريفُ عمري بالكآبة يرتمي
يامن قذفتَ النورَ في قلبي أجلْ
ومحوتَ من عينِ الصوابِ توهمي"(31).

لابد من الإشارة بداية إلى التكامل الدلالي- في قصائد وهيب عجمي- يتأسس على تضافر الرؤى والأفكار، فالشاعر هنا يوازي الدلالات والرؤى في وصف المرثي، ليعبر عن شحناته العاطفية ومواقفه الشعوري المفعم بالعاطفة إزاء المرثي وقيمته وعظمته، فالشاعر هنا كرس كل الجوانب الإيجابية ليرتقي بالنسق الشعري الخلاق الذي يشي بالتكامل والتضافر الدلالي الذي يثير الحدث والمشهد التام،ومن هنا، بدت الجمل الشعرية متكاملة دلالياً في إبراز محاسن المرثي، وتخليق الرؤيا الشعرية.وهذا يقودنا إلى القول: إن التكامل الدلالي يوحد صيرورة الدلالات ويكسبها إيقاعها الترابطي الخلاق.

التكامل على مستوى الصور وتفاعلها:

ونقصد التكامل على مستوى الصور وتفاعلها: تكامل الصور والأحداث والتشكيلات، في القصيدة مع بعضها البعض، فالصور تتضافر فيما بينها محققة قيمة جمالية عليا، وهذا يعني أن الصور تتضافر مع بعضها البعض لتحقق كينونة جمالية منسجمة متضافرة فيما بينها لتأتي ذات قيمة عليا.

وتعد تقنية التكامل على مستوى الصور وتفاعلها - في قصائد وهيب عجمي- من مغرياتها الجمالية التي تحقق بلاغتها الجمالية، فالقيمة الجمالية للتكامل في الصور في شعر وهيب عجمي يدل على عمق الفكرة الشعرية وتلاحمها لإبراز شعريتها وألقها الجمالي
ومن يطلع على قصائد وهيب عجمي الشعرية يدرك بلاغتها وإثارتها وتكامله على مستوى الصور، كما في قوله:

"ضياءُ جبينك الوهاج صبحٌ
يودعنا بأناتِ الهضابِ
تغيبُ الشمسُ عنا ياحبيبي
ليسطعَ نورها بعد الغيابِ
ولون البحرِ في عينيكَ يصفو
ووجدُ العينِ في دمعِ الرباب
ربيعاً كنت فواحاً بعطرٍ فصرتَ
بنا بأفئدةِ الصحابِ
بوردة خدك الخجلى أريجٌ
تمنى لثمه زهرُ الروابي"(32).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن التكامل الجمالي في قصائد وهيب عجمي- بين الصور من مؤثرات الشعرية الخلاقة التي تباغت القارئ في إيقاعها النصي، مما يجعلها ذات قيما عليا في الاستثارة والتأثير؛ لاسيما بتعدد الدلالات وإيقاعها النصي، وهاهنا يجرنا الشاعر وهيب عجمي إلى عناقيد متدلية من الصور المنسجمة والمتكاملة فيما بينها لتحفيز الشعرية وإبراز ناتجها الدلالي.

كما في فيض الصور المتتالية"

ربيعاً كنت فواحاً بعطرٍ فصرتَ بنا بأفئدةِ الصحابِ

بوردة خدك الخجلى أريجٌ
تمنى لثمه زهرُ الروابي"

إن الصور الشعرية هاهنا متكاملة فيما بينها في إضفاء ألقها الشاعري في السياق الرثائي البليغ، فكما أن لكل نص صوره ومكمن جاذبيته، فهاهنا يفاجئنا وهيب عجمي بالتكامل الجمالي على مستوى الصور لإبراز الألق الجمالي في الصورة والإيقاع.

أخيراً: نصل إلى نقطة جوهرية في شعر وهيب عجمي وهي أن شعر وهيب عجمي متكامل العناصر والأجزاء يلامس الأشياء من الداخل، ويفاعلها أكثر مما يلامسها من الخارج؛ بمعنى أدق: إنه يحرك النص بتقنيات أسلوبية جديدة غاية في الحداثة الشعرية، كالتفاعل والتضافر،والتوازي،والتضاد،والدراما التصويرية،والحدث الشعري القصصي المتنوع والمتراكم بأحداث شتى ودلالات عميقة.

وصفوة القول: إن تقنية التكامل من التقنيات الفنية المؤثرة في تحفيز الشعرية، في قصائد وهيب عجمي التي تتمركز على الحدث الشعري والرؤيا البليغة، وهذا ينعكس إيجاباً على حركتها النصية. ولهذا، فإن من يطلع على قصائد وهيب عجمي يدرك أن التكامل الفني يمثل بؤرة فاعليتها وإثارتها جمالياً.

خاتمة:

نخلص من دراستنا لمصادر اللذة الجمالية في بناء القصيدة ومكوناتها عند وهيب عجمي إلى النتائج التالية:

إن اللذة الجمالية – في قصائد وهيب عجمي- تتمحرق على كل ما يثير الشعرية، ويرفع أسهمها الجمالية، من خلال التقنيات الجمالية التي تولدها في النسق الشعري، فلا قيمة مرجعية لأية تقنية لا تخدم الدلالة وتعمق المعنى، فالمنتوج الجمالي لأية قصيدة بما تحققه من تقنيات على المستوى النصي، فالتفاعل والتماسك قيم جمالية ترتبط بالدلالة ومنتوجها الإيحائي مباشرة، وهذا يعني أنه ثمة بكارة في الصور الشعرية عند وهيب عجمي تتأسس على ما يناسب الحالة الشعرية باحتدامها، وألقها الجمالي، فالمعاني توالدية والرؤى مبتكرة في نسقها الشعري.

إن شعرية الأنساق التشكيلية – في قصائد وهيب عجمي- تمتاز بحراكها الجمالي على مستوى الدلالات ومحفزاتها ضمن النسق، فثمة لذة جمالية رائعة في انسجام الكلمات وتناسبها مع الحركة النفسية والدلالية للقصيدة عند وهيب العجمي الذي ينوع التقنيات والمؤثرات الجمالية لتسمو درجات من التكثيف والفاعلية والإيحاء.

إن تقنية التفاعل – من التقنيات الجمالية الخلاقة التي تمتاز بها قصائد وهيب عجمي، سواء تفاعل المفردات على المستوى الدلالي، أم تفاعل الرؤى الشعرية، لتحريك شعرية النسق، وإبراز خصوبته الجمالية، فشعرية الكلمات تأتي من تلاحمها وتماسكها ضمن القصيدة، وهذا يرتد جمالياً على فاعلية تلقيها.

إن الشاعر وهيب عجمي يستغل إمكانات اللغة إلى أقصى الدرجات لاسيما في تشكيل الصور،وإبراز ناتجها الدلالي، فلا قيمة للدلالات إن لم ترتبط بصورة أو قيمة من القيم الجمالية التي تعمق مردودها ضمن الإطار النصي.

إن التكامل الجمالي – في قصائد وهيب عجمي - يكمن في روح البناء الكلية من حيث الشفافية والعمق والتماسك الجمالي بين الأنساق، فثمة قيمة جمالية في الاندماج والتلاحم بين الأنساق الوصفية والمضافة، مما يرتد على إيقاع القصيدة بشكل عام، لاسيما في العلاقات الجدلية التي تعطي جمالياتها على الشكل النسقي التضافري الذي تشكله القصيدة.

إن الدهشة الجمالية – في قصائد وهيب عجمي- تتحقق بمنظومة التركيب الشعري،وبلاغة المسندات وجدلياتها الخلاقة، لدرجة أن الصورة تحمل في تضاعيفها أكثر من رؤية وأكثر من دلالة،وهذا الأمر يجعلها مغرية في تجلياتها ورؤاها الجمالية.

إن خصوصية التجربة الشعرية عند وهيب عجمي تمتاز باكتنازها بالرؤى والدلالات المراوغة التي تباغت القارئ في مسارها النصي، وهذا يعني أن الحياكة الجمالية في قصائد وهيب عجمي حياكة فنية يطغى عليها الفكر التأملي والإحساس الوجودي، وكشف الواقع بمؤثراته جميعها.
إن الحياكة الجمالية في قصائد وهيب عجمي- ترتكز على المخيلة الإبداعية، ومستوى استثارتها، الأمر الذي يؤدي إلى تكثيف الرؤى، وتحقيق متغيرها الجمالي.

تشتغل قصائد وهيب عجمي على كل ما يغري القارئ في النص من خلال بلاغة الرؤيا الشعرية وفاعلية الصورة،وسلاسة الانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن دلالة إلى أخرى، وهذا يعني أن القيم الجمالية متوالدة في قصائده باستمرار تبعاً لشعريتها وإيقاعها الجمالي.
إن الكفاءة الجمالية في قصائد وهيب عجمي تتأسس على الحراك التصويري،وتوليف الأفكار بحياكة جمالية مراوغة تشي بالعمق والفاعلية والإيحاء؛ ولهذا تأتي التقنيات النصية بليغة في قصائده التي تشي بالتضافر والانسجام والموسقة الداخلية والخارجية، فللفظة في قصائده إيقاع الخاص، وموسيقاها المنسجمة مع البث الإيحائي والشعور العميق.

يمتاح وهيب العجمي من معين معجمي قاموسي لاينضب وثقافة موروثية خصبة، ولهذا تبدو لقصائده قاموسها الشعري الغني بالمفردات المشتقة من الطبيعة الجبلية بما تتضمنه من دلالة على النبات والجبال، والأشجار والأزهار المتنوعة، ليبدع من خلالها أرقى الصور وأمتعها جمالياً، وهذا ما يجعلها ذات قيمة جمالية في التكثيف والفاعلية والإيحاء.

إن الكلمة الشعرية- في قصائد وهيب عجمي- تتأسس على مغريات الحدث الشعري، وفاعلية الصورة وموسقتها الضمنية، مما يجعل الكلمة تستحوذ على جماليتها الخلاقة ضمن نسقها الشعري المتآلف ومعناها الشاعري العميق، فللكلمة نبرتها الصوتية وإيقاعها الشاعري المموسق،وحياكتها النصية، وإيقاعاتها البليغة في استجرار الدلالات العميقة والمعاني البعيدة.
إن قيمة التقنية الجمالية في قصائد وهيب عجمي تعتمد على مدى تفعيلها للمعنى والرؤيا والدلالات، وربط الرؤى والأفكار بانسجام وفاعلية جمالية خلاقة

الحواشي:

ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراه مرقونة جامعة حلب،ص317.

إسماعيل،عز الدين،1981- التفسير النفسي للأدب،دار العودة، بيروت،ط4،ص63.

ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص317-318.

توفيق،سعيد،1992- الخبرة الجمالية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،ط1، بيروت، ص341.

عيد، رجاء،1993- القول الشعري (منظورات معاصرة) ص15-16.

عجمي،وهيب،2011- بحر اللهب،ص22- 23.

عجمي،وهيب،2011- خيوط المودة،ص40-41.

عجمي،وهيب،2011- أعيدوني إلى أمي، ص6-7.

عيد،رجاء،1992- القول الشعري (منظورات معاصرة)، ص15-16.

كوهن،جان،1986- بنية اللغة الشعرية،ص32

عجمي،وهيب،2011- أعيدوني إلى أمي،ص30-32.

عيد،رجاء،1992- القول الشعري (منظورات معاصرة)،ص140.

عجمي،وهيب،2011- بحر اللهب،ص81-83.

شرتح،عصام،2011- جمالية الخطاب الشعري عند بدوي الجبل، دار كنعان،دمشق،ص18.
المرجع نفسه،ص19.

عجمي،وهيب،2008- من الشمس هوت،ص54-55.

المصدر نفسه،ص64-66.

الشلي، منصف،2001- ومض الأعماق، مقالات في علم الجمال والنقد، وزارة الثقافة، دمشق، ص122. نقلاً من كتاب: جماليات اللفظة بين السياق ونظرية النقد، لعلي نجيب إبراهيم،ص35-36.

عجمي، وهيب،2008- من الشمس هوت،ص119-120.

الحسين، أحمد جاسم،2011- الشعرية (قراءة في تجربة ابن المعتز العباسي)،ص159.

شرتح،عصام،2011- جمالية الخطاب الشعري عند بدوي الجبل،ص28.

عجمي،وهيب،2008- من الشمس هوت،ص7-14.

المصدر نفسه،ص107-108,

عجمي،وهيب،2002- فتاة الضوء،ص17

عجمي،وهيب،2011- بحر اللهب،31-32.

عجمي،وهيب،2011- أعيدوني إلى أمي،ص6-9.

شرتح،عصام،2017- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك.

عجمي،وهيب،2008- من الشمس هوت،ص93-95.
عجمي، وهيب،2011-بحر اللهب، دار البنان، بيروت،ص39-40.

المصدر نفسه،ص111-113.

المصدر نفسه،،ص76-80.

المصدر نفسه، ص81-82.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى