الثلاثاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم ميمون حرش

الليل الذي تهادى إلينا..

أسمع صوت المؤذن يعلن قرب صلاة المغـرب، أقترب من مسجد الحــاج مصطــفى، أتحسس طريقي، ولا أكاد أجد مجالا للمرور.. الباعة المتجولون انتشروا في كل مكان، كل منهم أخذ موقعه، عارضا بضاعته..وأمام المسجد تختلط الأصوات بين ذاكر يروم تجارة مع الله وبين أصوات تشبه الزعيق تُــجَــمِّـل البضاعة لحمل المشتري على الشراء..هنا المشتري لن يعدم طلبه أو حاجته ، كل شيء موجود ، من أصغر شيء إلى ما لا يخطر لك على بال.. إنه سوق "مرجان" والسلام،وحين يأخذ المصلون أماكنهم في صفوف متراصة، وفي خشوع يتوحدون وراء الإمام، الباعة لا يغادرون أماكنهم،ولا يلتحقون بالمصلين..يقبعون حيث هم.. إنهم مسلمون بطريقتهم، لا يذرون البيع إثر المناداة على الصلاة، تجارتهم في الدنيا، ومن أجل الدنيا، وليس مع الله..يؤمنون ب: " إلى ماكان عْدُودُو ماكان عْبُودُو" أما ما عند الله خير وأبقى فتلك بالنسبة لهم مجرد خرافة ربما.

وإذا انتهت الصلاة تعالت الأصوات من كل صوب وحدب،و تزيد حدتها، وحين يخرج المصلون ، ويختلطون بالباعة، تخال الأمرَ يتعلق بيوم الحشر.

المسؤولون في مدينتي يتركون الحبل على الغارب معتبرين أن الأمر له صلة بماركة مغربية محضة إذ لا يمكن تغييرها البتة،المدن بدون فوضى مثل بيت لا باب خلفي لها، مغلق لا تدخله الشمس.

بعد صلاة المغرب تحلو الجلسة صحبة رفاق مع كوب شاي أو قهوة في مقاهي مدينتنا، المقاهي كثيرة، وتنبت كالطفيليات يوما بعد يوم،بعضُها ثــمــنُ كوب القهوة فيها مع إكرامية النادل هو مصروف اليوم لبعض الأسر في مدن أهلها يصلون الفجر، ويتكلمون لغة عربية..

في ركن منزو أجلس صحبة رفيق لي نرتشف قهوتنا المسائية ،هنا يروق لنا الجلوس، في ركن قصي من مقهى شعبية،إنه مكاننا المفضل،نحن من الرواد الذين لا يلبسون بذلات، ولا يكترثون لربطات أعناق،( تكفي القيود التي تربطنا في أزمنتنا الرديئة)، في البساطة نغرق لساعات في دردشة حول هموم الدنيا،وليس هموم الآخرة، )هذه لا مكان لها في مثل هذه المقاهي).

هذا المساء، وقد واتتني النكتة، أو المشاكسة قلت لصاحبي، وأنا أريد أن أجس نبضه، وربما نبضي :

المقاهي الأنيقة كثيرة، ما رأيك لو نغير المكان هذه الليلة، من باب التغيير على الأقل.
أنا من الذين يأخذون بنصيحة تشيكوف..

كان صاحبي من عشاق أنطون تشيكوف حد الهوس، أجبته:
وما دخل تشيكوف هذا بما طلبته..

نظر إلي،قطب حاجبيه دلالة عتاب، ثم قال:

حين طلب منه الشباب النصيحة أمرهم أن يسافروا في العـربة الأخيرة من القطار دائما، الحكمة أن الحياة هناك بدون ما كياج.

رفع سبابته، أشار بها كيفما اتفق في ردهات المقهى كأنه يقول لي( انظر )، سكتَ لحظة رمقني فيها بنظرة خاطفة لكن عميقة ثم واصل كلامه:

والمقاهي الشعبية من هذا الطراز، الناس فيها طبيعيون، لا مكان للرسميات فيها .

كان يدعوني بإشارة من يده فيما يشبه الأمر ويكرر طلبه كل مرة :"انظــر"..

نظرت حيث كان يشير، نقلت نظري أنا الذي يعاني من ضعف في البصر كأني أرى المقهى لأول مرة،لا ديكور، ولا مزهريات، ولا تلفزة تقبع فوق، كتنين ،كما في بقية المقاهي، ترى أين الحياة التي يتحدث عنها صاحبي، تراه يقصد هذا العالم من المتسولين،الذين يجعلهم المساء تعساء بشكل أفضل، وهم يقتحمون المكان في كل الزوايا حين ينتشلون الرواد من عالمهم الخاص، وهل الحياة، هذه الغانية التي لا تصفو إلا لمن يحسن افتراعها ممثلة في هذا الجيش من أطفال منتصف الليل المشردين والمتخلى عنهم ، أم الحياة التي يعنيها تشيكوف ممثلة في نساء يحملن أطفالا رُضَّعا يَجُــلـن في الشوارع ليلا كما نهارا متسولات بطرق حديثة، سحنات أكثرهن تشي ببقايا نساء منكسرات، ومخذولات غدر بهن الرجل أو الزمن أو كلاهما معا.. وقد تكون الحياة التي بدون ماكياج في زوايا أخرى هنا وهناك حيث يجلس أطفال في عمر الورد على الأرض وينشغلون بمسح أحذية المخمليين الذين يمشون في الأرض مرحا..

الحياة ربما أيضا ممثلة في ملامح كل منكسر، في ملامحي، و ملامح صاحبي، ما أكثر الذين يحملون في صدورهم هموما مثل حبات الرمل من كثرتها، هم سواسية كأسنان الحمار، يحلمون كثيرا، ينتظرون كثيرا، غيرهم تصفو لهم الحياة فتنداح لهم في أول محطة ومع ذلك يديرون لها ظهورهم في تحد سافر ،يطلبون منها وتلبي ، وحين يصلون الهدف تراهم يبتعدون، ونحن المساكين نظل نحلم وننتظر إلى غاية آخر محطة و" غودو" حظنا لا يأتي أبدا، يتجاوزنا، ويمد لنا لسانه ساخرا ، تعز علينا أنفسنا،ومع ذلك نقتحم هذه الحياة الغانية، ونواصل أحلامنا ،علنا يوما - في آخر محطة لا يهم- تُزف إلينا الحياة، حينها لن نخطب ودها إلا إذا كانت بدون ماكياج حسب تعبير صاحبي.

حين تعبت عيناي الواهنتان من النظر تذكرت آخر فيلم حركي حول مافيا إيطالية شاهدته في mbc2 ، تذكرت أن للمافيا أسلوبهم الشهير في طلب نوع الموت الذي يرغبه عدوهم، يخيرونهم بين موت أسود أو أحمر، ثم تساءلت :"ترانا، بالمقابل، في الخاتمة بعد أن نكون قد نضجنا كفاكهة الصيف هل يحق لنا أن نختار لون حياتنا، أو ما تبقى منها على الأقل ونحن نعيش آخر رمق منها،ثم كيف تكون الحياة بلون أخضر،ولم لا نريدها بكل الألوان شرط أن نعيشها بعمق ليس لأن لونها أبيض أو أحمر ،إنما لأنها حياتنا وحسب، ومن واجبها علينا أن نعيشها وكفى، بدون فلسفة.

والليل الذي تهادى إلينا يبعث إشارته بتأخر الوقت، في الخارج الأضواء خافتة، وشوارع مدينتي مثل العربة الأخيرة التي عناها تشيكوف، طبيعية تماما، لا إنارة، ولا هدوء يفرضه المساء، وحدهم الحشاشون، وعاشقو الليل من كل صنف يجوبون الشوارع المظلمة؛ كلما تهادى الليل خرج هؤلاء، إنهم يعلنون انتماءهم للأمكنة، يخلصون لها،يوفون نذرها الليلي حين يقبع كل صنف في مكانه، ملوك ليليون متوجون، نياشينهم هي السيجارة ، العربدة، السكر، العراك، الصراخ... يقضون الليل بأكمله يحيون طقوسهم في مدينة منسية ، ينام أهلها ملء جفونهم،عن حثالتها، ويسهر الليليون جراء زمن لم ينصفهم لا يختصمون، لكن يعربدون..

كان علينا - صاحبي وأنا- أن نقطع الشوارع ذاتها كل ليلة للعودة إلى بيوتنا، الساعات الأولى من الليل تمنح الأمكنة رهبة القبور، أما آخرها فتفتح القبور في انتظار مَوتى، كذلك الشوارع التي نقطعها،مجرد قبور موحشة.. نحن خارجها المعزون ،وداخلها نحن من أهل من خلفوا الدنيا وراءهم.

أمامنا لا نتحسس طريقنا، خبط عشواء كانت أقدامنا تطأ تربة من كثرة ما وطأناها باتت تعرف مقاس نعالنا، تطوينا مسافات الصمت،يضمنا الليل، نغرق في كلام مع النفس:

"لعل صاحبي يفكر الآن بتشيكوفه، ويتخيله يمشي حافي القدمين ، في هذا الليل البهيم المدلهم مستشعرا راحة داخلية لأن الإنارة الليلية تقصي الظلمة وتفض بكارة الليل، الإنارة تغتصب الليل، والليل جميل لأنه ليل.. بهذا حدثني صاحبي كثيرا..

الليل جميل، ولكن النهار أجمل، والإنارة حين تطوق خاصرة الليل في عناق حميمي،من حقنا أن نخلصها منه رغبة، لكن أن ُتترك ليالينا دون إنارة في زمن الكهرباء فهذا اغتصاب عن سابق إصرار وترصد..."

"الليل جميل، ولكن النهار أجمل حين ينير دواخلنا".

قلت ذلك بصوت مسموع، كنت أريد أن أشرك معي صاحبي في هواجسي، وصاحبي الذي ضمه الليل فاجأني بالرد كما لو كان يقرأ أفكاري :

"النهار جميل، لكن الليل أجمل شرط أن نقضي على خفافيشه.."

قلت وقد واتتني النكتة كما دائما :
هل هذا رأي تشيكوف أيضا؟..

ابتسم( نادرا ما يبتسم هذا الصاحب،لعله سيخر مني) وقال وقد وصلنا حيث يجب أن نفترق :
الخاتمة دائما، أسوأ ما في الوجود ..
صحت فيه :" اللهم أحسن عاقبتنا...

ابتسم مرة أخرى وأضاف وهي يربت على كتفي:
تصبح على خاتمة يا صاحبي..

افترقنا ظهرا لظهر لنلتقي غدا وجها لوجه، الليل في عيوننا، وفي القلوب وميض برق إذا فُجــر فينا،قد يتهادى فجر ليالينا يوما..ولو في الخاتمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى