الخميس ٤ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم جميل حمداوي

الماكر وتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب

توطئـــة:

أصدر الباحث المغربي الدكتور عبد العاطي الزياني كتابا قيما تحت عنوان:«الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب»، وذلك في أربعين صفحة من الحجم المتوسط، ضمن سلسلة مقاربات التي يشرف عليها الدكتور جمال بوطيب#. ويتأرجح الكتاب بين النظرية والتطبيق، وبين التعريف والتحليل، وبين التجنيس والتشريح. والآتي، أنه قد تناول مجموعة: «زخة...ويبتدىء الشتاء» للمبدع المغربي جمال بوطيب، وذلك بالتحليل الفني القائم على استنطاق العتبات المناصية، وتأويل دلالاتها الظاهرة والضمنية ، واستقراء مقاصدها ووظائفها القريبة والبعيدة، واستكناه مقوماتها الفنية والجمالية.

ومن المعلوم، أن كتاب: «الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب» لعبد العاطي الزياني يعد أول كتاب في القصة القصيرة جدا صدر في الحقل النقدي الثقافي المغربي عام 2009م، وذلك إلى جانب كتاب الدكتور جميل حمداوي: «القصة القصيرة جدا بالمغرب- قراءة في المتون» الذي صدر في السنة نفسها#.

إذاً، ماهي القضايا النقدية التي يزخر بها كتاب «الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب» لعبد العاطي الزياني؟ وماهي خصائصه النظرية والمنهجية والتطبيقية؟ هذا ما سنركز عليه في هذه الأسطر الموالية.

1- التجنيس الســـــردي:

ينطلق عبد العاطي الزياني في مؤلفه من قضية التجنيس والتفكير في المعايير التي بها تتميز الأجناس الأدبية عن بعضها البعض:" تبدو أجناس السرد التعبيرية مشتركة في خصائص البناء السردي واقتضاءاته، من قبيل اشتراط الفضاء، والفاعلين ، ومسارا متناميا من الأفعال، وقدرا وافرا من التوتر والتحول متواشجة بجدلية كائنات الحكاية ، وذلك مع أزمانها ومحيطها الاجتماعي.

وغني عن البيان أن اختلاف تلك الأجناس في علاقتها بممكنات السرد التشييدية حيث تطول أو تقصر قائمة مواد البناء السردي، هو ما ينعكس على نصوصها الإبداعية من حيث الحجم والصيغة والشكل. هكذا، تبدو الصلة بالاختزال والإيجاز والتكثيف من جهة، والاستطراد والتوالد والإسهاب والتفصيل من جهة أخرى، وهو محور التجنيس السردي وأساسه. من ثم، يمكن الحديث عن الرواية والرواية-النهر والقصة والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا."#

وإذا كانت الرواية نموذجا لجنس أدبي قائم على التراكم السردي، والتمطيط الوصفي، والإسهاب التفصيلي، وتشابك الأحداث، والاعتماد على تعدد المسارات الحدثية، وتعاقب البرامج السردية، وتنوع الصيغ والفضاءات والشخوص والرؤى السردية، وإذا كانت القصة القصيرة كذلك :" أميل ما تكون إلى الاستبطان المركز، والاستكشاف المكثف لملمح ما في لحظة ما، لشخص ما أو اثنين أحيانا أو ثلاثة نادرا ، في احتفال مؤكد بوحدة الذات بالعالم في تشابكهما النفسي والاجتماعي"#، فإن القصة القصيرة جدا تعتمد على الاختزال، والتكثيف، والاختصار، وبلاغة الحذف والإيجاز والإيحاء. بمعنى أن القصة القصيرة جدا:" إمكان سردي آخر يقيم بين الشعر والنثر، بين الحكاية واللقطة والمشهد والومضة، هو من جهة بعض الذي ذكرنا، لأنه يحاورها باقتدار لافت ، ومن ثم أمكنه تجنيس ذاته بالقصة القصيرة جدا، ومن جهة ثانية كل الذي ذكرنا لأنها جزء من الشعر والنثر والحكاية واللقطة والمشهد والومضة والإشراقة مادامت تحمل في محكيها نزوعا مؤكدا شخصية مخالفة لكل أنماط السرد، من خلال اعتماد منحى خاص في استثمار تنامي الحدث أو تشظية الفضاءات أو تجريدها ذهنيا لصالح حالة لا فكرة، والأحداث بربطها بصورة لابمسارات. وإذاً، إن القصة القصيرة جدا منحى سردي بالغ التركيز والاقتصاد ، دقيق الحدث ، متعاقب المفارقات، ومتراكم الإيحاءات، إذ لايسعف قصرها في طرق كل أبنيتها كي لا تحل النهاية بشكل مباغت، دون أن تحدث الأثر الجمالي المفارق أو لحظة التنوير بتعبير الإخوة المشارقة."#

وعلى العموم، فالقصة القصيرة جنس أدبي يقوم على بلاغة التكثيف والاقتصاد والانتقاء اللغوي.وفي هذا الصدد، يقول عبد العاطي الزياني:" إن يكن الأمر على ماذهبنا إليه، فلعل القصة القصيرة جدا- على مايبدو- عموما إبداع فني يخلو من الحواشي والاستطرادات والتراخي والتكرار الزائد عن الحاجة، دأبها الاكتشاف المدهش، وكدها رصدها مفارقة، ودفعها إلى اللحظة الحرجة، تستقي من الإثارات والإيماءات إمكانياتها في نصب أشراك جمالية أمام القارىء.

ومادامت القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا، فهي غصن في شجرة الأدب. ومن ثم، لابد أن تتسع مكتسباتها وتجاربها مغتنية- أفقيا وعموديا- في اتجاه مزيد من انتهاك السائد، ونبذ الاستطراد، وإلغاء الحشو لصالح الاقتصاد والتكثيف والترميز والشحن، ورفع سؤال الكتابة فوق كل الإلزامات – لتصبح ومضة تشع، تشرق محققة درجة قصوى من الشعرية في اللغة إلى حدود الالتباس في تجنيسها."#

وهكذا ، نلاحظ بأن عبد العاطي الزياني يعرف القصة القصيرة جدا، بالاعتماد على أركانها الداخلية، وشروطها الخارجية، وتقنياتها التي تحضر أو تغيب. ومن بين تلك المقومات والعناصر الضرورية والثانوية التي يشير إليها تعريفه التجنيسي للقصة القصيرة جدا: الإدهاش،والمفارقة، واللحظة الحرجة، والإثارة، والإماءة، والانفتاح ، والاتساع، والتناص، والاقتصاد، والتكثيف، والترميز، والشحنة، والإشعاع، والومضة،والإشراق، وشعرية اللغة، والتشظية، والتركيز، والتدقيق، والإيحاء، والقصر، والنهاية المباغتة ذات الوقع الجمالي. بيد أن الدارس عبد العاطي الزياني لا يميز بين الأركان والشروط ، بل يخلط بينها بشكل عشوائي ، دون تحديد أو تدقيق أو تبيان أو تفصيل. والآتي، أنه لم يسر على منهج الكثير من المنظرين والدارسين السابقين واللاحقين في مجال القصة القصيرة جدا، كأحمد جاسم الحسين#، ويوسف حطيني#، وهيثم بهنام بردى#، وجاسم خلف إلياس#، وعبد الدائم السلامي#، وجميل حمداوي#، وسعاد مسكين#...

هذا، ويستعرض عبد العاطي الزياني مجموعة من أقوال الكتاب وآرائهم ، فهناك من يرى بأن القصة القصيرة جدا تتحدد باستعمال الجمل القصيرة المكثفة التي تصور عالما دلاليا أرحب.وهناك من يرى بأن القصة القصيرة جدا تتأسس على التكثيف والمفاجأة غير المنتظرة، والتقاط الأحداث الهامشية اللامفكر فيها. بينما ترى آراء أخرى بأن القصة القصيرة جدا كما تستعين بالكثافة والقصر والإيجاز، تتكىء على الإشارات الفنية، والإيماءات اللغوية، وتراكم المفارقات، بدءا من العنوان إلى المؤثثات المشكلة لإبداعها ولتلقيها. وهناك من يقول بأن القصة القصيرة جدا نقض مزدوج لجنسين أدبيين طال حجمهما، فعمدت إلى تشظية إمكاناتهما، وإلغاء الزوائد والحواشي ، وهما القصة والشعر، وذلك باستخدام القصة القصيرة جدا للإيجاز، والتكثيف، والاستخدام الفائق للغة مبرقة دالة رمزية. بيد أن هناك من يرى بأن القصة القصيرة جدا قد استفادت كثيرا من معطيات الفنون البصرية كالتشكيل، والمسرح، والسينما، ومعالم عصر الصورة. ورب رأي آخر- يقول عبد العاطي الزياني- :" يرى أن عزلة الفرد، وتعقد المجرى الاجتماعي والنفسي في حياة الإنسانية اليوم، حين انهارت القيم، وتشتت القناعات، وغص العالم بالأدعياء، لم يكن لأديب- القاص بد من توسل الرمز والحلم والقناع واستبطان اللاشعور، وجعل القصة صدى للذات المتشظية الضائعة في شكل وجبة يتناولها/ يقرأها في وقوفه أمام مصعد المؤسسة التي يعمل فيها، أو في انتظار إحضار فنجان قهوة في مقهى عمومي."#

وهكذا، تقوم القصة القصيرة جدا على الإيجاز، والاختزال الطباعي، وتكبير النواة بالقراءة، والامتداد الدلالي، والاتساع العنواني، والارتكان إلى الدهشة ،وطرافة المحكي ، وبغتة النهاية، وتجسيد المفارقة الأبدية بين الحلم والواقع، وتعرية المنسي للمهمش اللامفكر فيه.#

2- تاريخ القصة القصيرة جدا:

ظهرت القصة القصيرة جدا بالغرب – حسب عبد العاطي الزياني-مع نتالي ساروت، صاحبة أول عمل يندرج ضمن القصة القصيرة جدا ألا وهو كتابها:" انفعالات". في حين، يعتبر الدارس زكريا تامر الأبرز عربيا. بيد أن هذا التأريخ مختصر ومبتسر ، فلم تظهر القصة القصيرة جدا في الحقيقة إلا في أمريكا اللاتينية منذ بدايات القرن العشرين، فإرنست همنغواي هو أول من أطلق مصطلح القصة القصيرة جدا عام 1925م، ويكتب جبران خليل جبران ما بين 1914و1920م مجموعة من القصص القصيرة جدا في مجموعتيه:" المجنون" و" التائه". أما الروائية الفرنسية نتالي ساروت، فلم تكتب في الحقيقة قصصا قصيرة جدا، بل كتبت نصا روائيا جديدا في شكل نصوص قصيرة في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، ولكن لما ترجمها المصري جلال العشري سنة1971م إلى اللغة العربية، سماها آنذاك بالقصص القصيرة جدا. ولايمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار زكريا تامر من أبرز كتابها؛ لأن زكريا تامر كان في كثير من الأحيان يسقط في القصة الشعرية أو القصة التأملية. لكن يعلم الكل بأن زكريا تامريعد من كبار كتاب القصة القصيرة بدون منازع. في حين، أن للقصة القصيرة جدا فرسانها المتميزون كذلك ، مثل: وليد إخلاصي،ونبيل جديد، ووليد معماري، وجميل حتمل، ونضال الصالح، وهيثم بهنام بردى، وعمران عزالدين أحمد، ومصطفى لغتيري، وعبد الله المتقي...

وفي هذا السياق، يقول عبد العاطي الزياني:" بكلمة لايبدو عزيزا تأكيد انتماء القصة القصيرة جدا إلى عمارة السرد العربي بالمغرب على غرار نماذجها في الغرب والشرق.فإذا كانت نتالي ساروت تكاد تعد الأب الروحي من خلال مجموعتها:" انفعالات" في الغرب. فزكريا تامر هو الأبرز عربيا من خلال نصوصه التي ظهرت باكرا بدءا من:صهيل الجواد الأبيض (1960م)، ودمشق الحرائق (1973م)، والنمور في اليوم العاشر (1978م).

كما يجب ألا ننسى أعلاما آخرين، مثل: انتصار بعلة، وإبراهيم خريط، ومحمد منصور، وجمانة طه، وفي السعودية هناك: المبدع فهد المصبح، وفي فلسطين نذكر: الكاتب فاروق مواسي، في تونس نذكر: إبراهيم درغوثي.أما في المغرب، فاللائحة عريضة، فهناك سعيد منتسب، وجمال بوطيب، وعبد الله المتقي، ومصطفى لغتيري، وعزالدين الماعزي، والمبدعة فاطمة بوزيان، وثمة أقلام كثيرة ضربت بالسهم الوافر في هذا المجال. أما نقدها فيبدو أن يوسف حطيني، وأحمد جاسم الحسين، وحسن المودن، وحسين علي محمد، وغيرهم من أبرز من كتبوا ونظروا لهذا الجنس في السياق العربي. لذلك، يبدو الاشتغال في هذا الحقل في بداياته، مايزال في حاجة ماسة للنقد والمتابعة والتأويل."#

وفعلا، مازال حقل القصة القصيرة جدا بكرا يحتاج إلى المدارسة العلمية، والبحث الدقيق، والفحص الرصين، والتمحيص الجاد، والتحقيق التاريخي الجيد، والتوثيق الببليوغرافي الشامل، والتحليل الأكاديمي المقنن إن تفكيكا وإن تركيبا.

3- سياق القصة القصيرة جدا:

يرى عبد العاطي الزياني بأن ثمة مجموعة من العوامل ساهمت في ظهور القصة القصيرة جدا، وتتمثل في الاستفادة من الموروث السردي العربي القديم، والتأثر بالغرب، والانفتاح الأجناسي، وتقدم التكنولوجيا المعاصرة، وانتشار الثورة الرقمية والمعلوماتية، والانتقال من عصر الكلمة إلى عصر الصورة.وفي هذا النطاق، يقول عبد العاطي الزياني :" على غرار الشعر الحديث" شعر التفعيلة" والرواية والمسرح، جاءتنا القصة- استجابة لسياق حضاري دقيق يرتبط بشكل كبير بظروف الاستعمار والفكاك منه- غير أن القصة القصيرة جدا هذه المرة وجدت تربة خصبة ومناخا مناسبا، يتمثل في التراكم السردي العربي والمحلي ، فضلا عن الانفتاح على ثقافة العصر السائدة المتمثلة في التشكيل والسينما والمسرح، كما أن السياق السوسيوثقافي، وتسارع التداول المعرفي، والشرط الحضاري الصعب، كان له دوره البارز في بزوغ أشكال وأجناس أدبية تلتقط الأوجاع والجراح التي مافتئت تلحق الذات ، ولم تفلح القصة القصيرة في ملاحقة كثافتها، ورصد خفائها الدقيق.لأن القصة القصيرة حين ظهرت، استطاعت باقتدار تتبع حركة أفعال الصغائر الاجتماعية والمأزق الذاتية. ومن ثم، يبدو السؤال الذي يفرض نفسه: أليس انتقال إبدالات الواقع من سمتها التكنولوجية إلى شاكلتها الإعلامية وطفراتها الرقمية المتواترة في كل أن يستدعي هزات مختلفة في مجال الحكي، خصوصا في تجلياتها الترميزية للواقع، و المتمثلة في ارتياد الحدود القصوى للممنوع الكامنة،وسقوط المرجعيات، وتماس الذات بمركزية الصورة، والكشوفات الخرافية للعلم بإعادة النظر في كل اليقينيات والبداهات. فتم اختزال اللغة والفن والحدث في صورة أو كلمة أو إشارة، مادام الواقع يقيم باستمرار في سياق الانزياح. ومن ثم، تكون القصة القصيرة جدا فنا جماليا المعادل الفني موضوعيا لهذا الزمن، بالنظر لمهارتها في الحذف والاختزال والحرف، وتحاشي المباشرة، وتجافي الاستطراد في زمن شح الوقت، وزمن الشبكة العالمية ، وزمن mmms sms "#

ومن هنا، يتضح لنا بأن ثمة عوامل ذاتية وموضوعية كانت وراء ظهورالقصة القصيرة جدا في عالمنا العربي ، ولاسيما أن للعوامل التقنية المعاصرة دورا كبيرا في تأسيس هذا الجنس الأدبي الجديد، وتجنيسه تأصيلا وتجريبا.

4- التخييل القصصي في: " زخة... ويبتدىء الشتاء":

لم يقتصر عبد العاطي الزياني على ماهو نظري فحسب، بل نجده ينتقل إلى المعطى التطبيقي الإجرائي، وذلك من أجل مقاربة المجموعة القصصية التي ألفها المبدع المغربي جمال بوطيب، وهي تحت عنوان:" زخة... ويبتدىء الشتاء"، وقد صدرت عام 2001م عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، وتحتوي ثماني وأربعين قصة قصيرة جدا، ويختلف حجمها بين الطول والقصر. وقد اعتبرعبد العاطي الزياني مبدعها جمال بوطيب:" سباقا لكتابة القصة القصيرة جدا، نظم جواهرها من أقاصي مترامية، عمادها المفارقة، وأساسها توالي المتناقضات، وعمقها: السخرية المبطنة من عناصر الحكاية وموادها."#

لكن الحقيقة التي ينبغي أن تقال بأن أول من كتب القصة القصيرة جدا في المغرب هو الحسين زروق صاحب مجموعتي:" الخيل والليل" التي صدرت سنة 1996م#، و" صريم" التي صدرت عام 2002م#.

هذا، وينطلق عبد العاطي في تعامله مع أضمومة جمال بوطيب من مقاربة مناصية تستقرىء العتبات المحيطة بالنص كالتعريف بالمؤلف وعمله،،ودراسة العنوان، وتأويل الصورة- اللوحة،واستخلاص دلالات الخطوط والأشكال، والتركيز على الإهداء والتقديم، كل ذلك اعتمادا على استكشاف البنية المناصية للعتبات في ضوء البنية والدلالة والمقصدية.

وبعد ذلك، ينتقل الدارس إلى استقراء مكونات المجموعة، واسكشاف خاصياتها الفنية، وتحديد سماتها الجمالية. ومن ثم، تعتمد المجموعة على بلاغة الإيماءات والإشارات. إذ :" تنأى المجموعة عن اللغو الزائد والتراخي اللغوي، ولأن قصصها قصيرة جدا، فقد توسلت في تشكيل جماليتها بالاتكاء على الإشارات والإيماءات ، ونقصد بالتقنيتين بناء القصة على التلويح بالدلالة متوارية، فيومىء المعنى من خلف أقنعة الكثافة والإيجاز، كما أن الذروة أو اللحظة التي يلامس القارىء أقصى الالتذاد الفني/الجمالي يجد نفسه موزعا بين إشارات إلى الرموز أو مفارقات العبارة أو المشهد..."#

ومن أهم القصص التي تمثل هذه البلاغة قصة:" وقاحة"، وقصة:"قرار".

ومن العناصر الأخرى التي تميز المجموعة تعاقب المفارقات، " فالقصة القصيرة جدا ظهرها قصير، وحيلها مكشوفة، وحكاياتها مطاردة بإلزامات الجنس الأدبي. ومن ثم ، فمقامها الحتمي بين ضفاف اللقطة والمشهد والومضة.هذا، ما يجعل قوامها الفني متبنينا على المفارقات في تواز متعاقب، فالمفارقة ورطة مثيرة تشكك في اليقينيات، وتعاكس المألوف."#

ومن أهم الأمثلة على المفارقة داخل المجموعة قصة:" في أسبوع"، و" قصة ياسين والوادي"، وقصة:" شعور"، وقصة" عري". والآتي، أن المفارقة تنبني داخل الأضمومة على الحذف والإضمار والتوتر.

أما عن الخاصية الثانية التي تميز المجموعة ، فتتمثل في تراكم الإيحاءات الناتجة عن كثرة التكثيف والتضمين. وفي هذا الصدد، يقول عبد العاطي الزياني:" قيام القصة القصيرة جدا على الاختزال جعلها حدثا متناميا كثيفا، وفكرة عميقة ذات نهاية مفاجئة وامضة، هذا الاقتصاد الدقيق لأركان السرد عموما ألزم القفلة برفع قائمة الإيحاء إلى أعلى مستوياته، فيبدأ السفر بعد نهاية الطريق، السفر في المعنى والسفر عبر الإيحاء ، حيث إن الطريف والمدهش في خطاب القصة القصيرة جدا اللفظي والدلالي لاينبغي أن يغيب عن أذهاننا مرامي السرد ، وغاياته الفكرية والاجتماعية والسياسية أحيانا واليومية، فدرجة تكثيفه تحمل إيحاءات هو ماعبرنا عنه بالتراكم أعلاه."#

ومن أهم القصص التي تمثل بلاغة الإيحاء قصة:" خردة"، وقصة:" اعتصام"...

كما ترتكز القصة القصيرة جدا في مجموعة جمال بوطيب على جدل التناقض. والمقصود بهذا أن:" نشوء القصة القصيرة جدا في زمن التداول الرقمي للمعرفة والشرط الحضاري الصعب، حيث العولمة بأنيابها الحديدية والذهبية، وقيودها ومآزقها المتمثلة في سقوط المرجعيات، وتعميم النمط الواحد وتكريسه، مما يجعل الإنسان عبارة عن ذوات متشظية ضائعة تافهة ملأى بالضياع والتعب، من بين أسباب بروز النقائض بكل مستوياتها، ورسوخها في الحياة، وفي السلوكات اليومية لإنسان هذا العصر. ولذلك، فقد أشارت هذه المجموعة في كثير من مداخلها إلى أن العصر يعيش في إطار صراعه مع الآخر المختلف الذي أوجدته صيرورة الحياة. ومن ثم، فالصراع والتدافع يتماثل وجوده في الواقع وفي السرد. ومن ثم، ستكون الشخصيات حاملة قيما مخالفة لغيرها."#

ومن الأمثلة على ذلك قصة:" بورتريه"، وقصة:" شماتة"، وقصة:" الأماني".

هذا، وقد ركز المبدع ريشته على استبطان أورام الواقع، " مادام الألم بمفهومه الاجتماعي والنفسي وتجلياته اليومية فرديا أو جماعيا، فالمجموعة اختارت الأدب القصصي لتكون أورام الواقع هدفا لمشرطها. عنينا: واقع القهر والقمع والنفاق الاجتماعي والعسف والطبقية والجوع والكبت والخواء والعطش للحب والعقم، واقع العجز والازدواجية والفقر والضياع."#

ومن ثم، فعلى الرغم من الكثافة الدلالية للمجموعة، فإنها تطرح أسئلة كبرى أبدية ، وتعرض أسئلة يومية متكررة ، تصر على الارتباط بقضايا الإنسان، وقضايا المرأة ، وقضايا الفئات المهمشة. ومن ثم، " فالإبداع الحقيقي هو الأثر الفني الذي لا تقعد به كثافة الدلالة ورحابتها عن وضع الإصبع على الجرح- جرح الواقع الدامي المفتوح على الهشاشة، حين يصبح الناس دمى وسلعا في أيدي الآخرين."#

كما تتناول المجموعة تيمات متنوعة، مثل: القهر، والفقر، والتهميش، والظلم، وشطط السلطة، وزيف الأعراف. ومن الأمثلة على ذلك قصة:" الأضاحي"،

زد على ذلك، تعمد المجموعة إلى أنسنة الحيوانات أو السخرية من واقع الحال. ويعني هذا - حسب عبد العاطي الزياني- أن:" القصة القصيرة جدا دفقة مكثفة تعبر عن لحظة شعورية أو واقعية أو متخيلة، هذه الدفقة بنت الرؤية المفعلة جماليا عن طريق الإيحاء والرمز والغموض، مادامت أبعاد الإبداع المعاصر لاتقف عند حد معين في توالد الدلالة، وإدهاش القارىء ، والنبش في مطاوي الخيال. ولذلك، تم اللجوء إلى عوالم الحيوان وغيرها لأنسنة حياتها من جهة، ولإفضاء أبعاد دلالية أعمق علاقات الناس بتمثيلها بالعلاقات السائدة بين الحيوانات، إمعانا في فضح الزيف المتسرطن في علاقات الإنسان بأخيه الإنسان. ولذلك، فاستعارة القيمة الذهنية النمطية، وإعادة تشكيلها وفق أبعاد مغايرة ومختلفة عما دأب الناس عليه في تلقيها وتأويلها كفيل بكشف عودة القهر والغدر والأنانية والجشع وسائر الأخلاق والعلاقات المنحطة، ويختلف عن مسعى كتاب" كليلة ودمنة" الذي يبدو أقرب للموعظة منه إلى القصة، إذ إن الحكايات الموضوعة على ألسنة الحيوانت تصور حكمة صريحة أو مضمرة، وهي حكمة تتميز بالأمر والنهي.

بخلاف ماذهب إليه جمال بوطيب، فتوظيف الحيوان عنده يخضع لبناء سردي يختلف تماما عن الأمر والنهي، بل للأمر علاقة بالمخاضين: الاجتماعي والسياسي تحديدا، فحولهما مارس تجريب أنسنتهما ليلعبا أدورا تحاكي الإنساني في صورته المهترئة حد الحافة."#

وعليه، لقد ضمن جمال بوطيب قصصه القصيرة جدا مجموعة من الرموز القائمة على التشخيص، والأنسنة، واستخدام الكائنات الحيوانية، وكل ذلك من أجل فضح الواقع الموضوعي على جميع المستويات والأصعدة، وتعريته تنديدا وتسفيها وتشويها. ومن النماذج القصصية التي تمثل هذا المنحى قصة:" جمعية"، وقصة" شماتة".

تركيب واستنتاج

وهكذا، نخلص إلى أن عبد العاطي الزياني من النقاد المغاربة الأوائل الذين خصصوا القصة القصيرة جدا بدراسة مستقلة للقصة ، إلى جانب جميل حمداوي#، وسعاد مسكين#. ومن ثم، ينطلق عبد العاطي الزياني في كتابه هذا من مقاربة فنية تعتمد على التجنيس والتأريخ، وتدافع على جنس القصة القصيرة جدا بنية ودلالة ووظيفة. و قد تجاوز الدارس الطابع النظري إلى الطابع التطبيقي، فتناول مجموعة جمال بوطيب:" زخة... ويبتدىء الشتاء" في ضوء تحليل فني تخييلي. ومن ثم، فقد استخلص الباحث بأن أضمومة المبدع تتميز بمجموعة من الملامح الفنية والجمالية والدلالية، وتتمثل في: بلاغة الإيماءات والإشارات، وتعاقب المفارقات، وتراكم الإيحاءات، وجدل التناقض، واستبطان أورام الواقع، وأنسنة الحيوانات أو السخرية من واقع الحال.

ولكن مايلاحظ على الدارس أنه لم يشر إلى منهجية خاصة لمقاربة القصة القصيرة جدا،بدلا من مقاربتها في ضوء مرجعيات ومنهجيات بعيدة عن خصوصيات هذا الجنس الأدبي الجديد. كما أن الكتاب يخلو من الإحالات على المصادر الأساسية التي كتبت في فن القصة القصيرة جدا ، وهي كتابات كل من: أحمد جاسم الحسين، ويوسف حطيني، وهيثم بهنام بردى، وجاسم خلف إلياس، وجميل حمداوي، وعبد الدائم السلامي، وسعاد مسكين، وغيرهم...

الهوامش:

- د.عبد العاطي الزياني: الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب، منشورات مقاربات، آسفي، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2009م.

2- د.جميل حمداوي: القصة القصيرة جدا بالمغرب- قراءة في المتون- ؛مؤسسة التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، آسفي،المغرب، الطبعة الأولى ، سنة 2009م، منشورات مقاربات.

3- د.عبد العاطي الزياني: الماكروتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب،ص:12.

4- د.عبد العاطي الزياني: نفس المرجع،ص:12.

5- د.عبد العاطي الزياني: نفس المرجع،ص:12.

6- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:13.

7- الدكتور أحمد جاسم الحسين: القصة القصيرة جدا، دار الفكر، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 1997م.

8- د.يوسف الحطيني: القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق، مطبعة اليازجي، دمشق، الطبعة الأولى سنة 2004م.

9- هيثم بهنام بردى: القصة القصيرة جدا في العراق، منشورات المديرية العامة لتربية نينوى،العراق،النشاط المدرسي، شعبة الشؤون الأدبية، الطبعة الأولى سنة 2010م.

10- جاسم خلف إلياس: شعرية القصة القصيرة جدا، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2010م.

11- عبد الدائم السلامي: شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا، منشورات اجراس، الطبعة الأولى سنة 2007م.

12- د.جميل حمداوي: (من أجل مقاربة جديدة لنقد القصة القصيرة جدا(المقاربة الميكروسردية))، موقع دروبDoroob، موقع رقمي،
www.Doroob.com/p=36535.16/08/09.11.35

13- د.سعاد مسكين: القصة القصيرة جدا في المغرب : تصورات ومقاربات، مطبعة التنوخي، الرباطن المغرب، الطبعة الأاولى سنة 2011م.

14- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:18.

15- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:18.

16- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:14.

17- د.عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:16.

18- د.عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:20.

19- الحسين زروق: الخيل والليل، مطبعة النور الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الاولى سنة 1996م، 75صفحة من الحجم القصير.

20- الحسين زروق: صريم، منشورات المشكاة، وجدة، المغرب، 2002م، 63صفحة من الحجم المتوسط.

21- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:22.

22- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:32-24.

23- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:26.

24- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:28.

25- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:30.

26- عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:32.

27- د.عبد العاطي الزياني: نفسه، ص:32-33.

28- د.جميل حمداوي: القصة القصيرة جدا بالمغرب- قراءة في المتون- ؛مؤسسة التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، آسفي،المغرب، الطبعة الأولى ، سنة 2009م، منشورات مقاربات.

29- د.سعاد مسكين: القصة القصيرة جدا في المغرب : تصورات ومقاربات، مطبعة التنوخي، الرباطن المغرب، الطبعة الأاولى سنة 2011م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى