الاثنين ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٩
بقلم حسين سرمك حسن

المبدع الكبير «محمود سعيد» في ثلاثيته الملحميّة

في عام 2008، حقّق المبدع العراقي الكبير "محمود سعيد" إنجازاً سرديّاً عراقياً وعربياً وعالمياً فذّاً حيث اختار موقع (شؤونالمكتبة – library thing)

وهيمجموعةمنالمتطوّعينمنبثّينفيجميعأنحاءالعالميقوّمونكلمايُكتبباللغةالإنجليزيةأومايُترجمإليها (192) رواية كأفضل ما أُنتج في مجال الرواية خلال قرن كامل. وحصلت رواية محمود سعيد "أنا الذي رأى" على أربع نجوم من خمسة، لتكون إحدى أفضل إثنين وخمسين رواية في العالم. وهذا الإنجاز هو وسام يوضع على صدر الفن السردي العراقي.

وفي عام 2008 أيضاً، حقّق محمود سعيد إنجازا روائيا آخر يُضاف إلى رصيده السردي من ناحية، وإلى مسيرة الفن الروائي العراقي من ناحية أخرى، وذلك عندما أصدر "ثلاثية شيكاغو"، وهو عمل ذو نفس ملحمي، يتكون من ثلاثة أجزاء هي:

1- حافة التيه

2- أسدورا

3- زيطة وسعدان

هذه الثلاثية هي التي اخترتها لكتابي عن الفن السردي لمحمود سعيد على الرُغم من أن صلتي النقدية بمنجز محمود قد بدأت قبل ذاك بسنوات بدراسة عن روايته "زنقة بن بركة"، والسبب هو أن موضوع هذه الثلاثية أكثر إلحاحا في صلته بمتغيرات الحياة الراهنة مع علمي أن موضوعات الفن المتميز حيّة لا تموت ولا يُستنفد دورها في مرحلة معينة. فقد كُتبت ملحمة جلجامش – على سبيل المثال - من قبل شاعر عراقي سومري "مجهول" منذ أكثر من أربعة آلاف وخمس مئة سنة، وهي حيّة تتناقلها الأجيال بعد اكتشافها لأول مرة عام 1853 م. ومازلنا نتمتع وننشغل بألف ليلة وليلة وروايات دستويفسكي وفلوبير وستندال ومسرحيات سوفوكل وشكسبير وغيرها برغم مرور مئات السنين عليها. لكن الحياة الراهنة محليّا (عراقيا وعربيا) من ناحية، وعالميا من ناحية أخرى، تتطلب جهدا محايثا وموازيا من قبل المبدع الذي تحاول أغلب التيارات الغربية الحداثية وما بعد الحداثية، أن تخلع صلته بهموم مجتمعه خصوصا وآلام الإنسان المقهور في كل مكان عموما.

لقد تمسك محمود سعيد – ومنذ أعماله الأولى – بهموم ومحن الإنسان العراقي المسحوق وانتصر لها حتى وهو يرصد إنكساراته الموجعة، مؤكدا أن على الفنان أن لا يتعالى على هموم الإنسان، وأن يكون – من دون أن يغفل الإشتراطات الفنية واللغوية والجمالية طبعا – في خندق هذا الإنسان في أيّ زمان وفي أيّ مكان وتحت أقسى الظروف. وكيف لا ينتصر لإنسان أرضه، وهو الذي كان شعار حياته – ومنذ مرحلة مبكرة في نشاطه الإبداعي - ومايزال الإنتصار للإنسان المقهور في وجه الطغيان والإذلال والإنسحاق، والذي عبّر عنه بقوله:

(أنا مستعد للوقوف مع أي مظلوم حتى ينال حقه، ولو كان الظالم أخي. إنني أومن بحق كل الناس بالعيش والحياة الكريمة، مهما كانت معتقداتهم وانتماءاتهم الوطنية والقومية، ولذا فلن ترى شخصاً متعصباً محترماً في رواياتي) (2).

ولو لاحقنا النتاج الروائي الغربي فسوف نلاحظ أن موضوعات الغالبية المطلقة من الروايات هي موضوعات فانتازية وأسطورية وبوليسية وغرائبية يكتبها أغلب الكتّاب وعينهم على هوليود. وآخر ما يتم التفكير فيه هو أن للإنسان هموما اجتماعية ونفسية واقتصادية وطبقية. والمصيبة أن بعض الكتّاب العرب قد "فهموا" اللعبة، فبدأوا في مسعاهم للحصول على ترجمة أعمالهم والإنتشار في الغرب – وهو مسعى مشروع بالتأكيد – يكتبون النصوص الروائية التي تتحدث عن الجنس والإنحرافات والقهر الطائفي والديني في مجتمعاتهم تماشيا مع الموضوعات المركزية التي تروّج لها الآلة النقدية الغربية الهائلة وهي الجنس (الشاذ منه خصوصا كالعلاقات المحارمية والجنسية المثلية) والعنف، ووصم المجتمعات العربية والإسلامية بالتخلف وقهر المرأة ومصادرة الحريّات، ونبش الجذور الطائفية والمذهبية عبر لعبة "الوثائق" والكنوز المطمورة والمتاهات على طريقة "شفرة دافنشي" الرواية "التوراتية" مثلا.. إلخ. وفي قلب المجتمع الذي يمثل الأنموذج المغوي والخارق لهذا التوجّه الهادر – وهو المجتمع الأمريكي – يقف محمود سعيد الساكن في شيكاغو منذ عقود صامدا ومصرا بعزم وثبات على إيمانه بأن الأدب يجب أن يُسخّر لملاحقة تحولات حياة الإنسان وخيباته وإحباطاته، وأن على الأديب مسؤولية كبرى في هذا العالم الجائر. وقد فرض عليه هذا الإيمان الراسخ ان يبقى على شطآن المدرسة الواقعية – طبعا ليست الواقعية الفجّة– التي هي واقعية حديثة بوصف دقيق. وارتباطا بالموقف من الواقعية وبآراء "ألن روب غرييه"، فقد عقّب الروائي "حنه مينه" في مؤتمر الروائيين العرب والفرنسيين الذي انعقد في باريس في عام 1988 على محاضرة الروائي " ألن روب غرييه" التي انحازت كما هو متوقع إلى رواية الأشياء بدلا من رواية الواقع حيث قال: ( إنني أحترم السيّد آلان روب غرييه وأقرؤه. لكني وجدت في كلامه شيئا من التناقض لعله يكون ناتجا عن الترجمة. فهو مرة يقف ضد الإلتزام ، ومرة يقول إنه لا يرفض الإلتزام. وهو يقول أيضا إن من شأن الأدب أن يطرح أسئلته على العالم. وهذا صحيح. فأي عمل أدبي وأي رواية لا يطرحان التساؤلات لا تكون لهما أية قيمة فنية. لقد حمل السيد آلان روب غرييه على الواقعية وقال إن هناك كتّاب واقع وليس كتّاب واقعية. وأنا أقول الواقعية شيء كبير في حياة الرواية. ليس في الزمن القديم فقط وإنما في الوقت الحاضر أيضا. لكن لدي هنا ملاحظة: لقد سُئل بابلو نيرودا مرة: لماذا لا تكتب عن الزهور؟ فأجاب: أنظروا إلى الدماء في شوارع الشيلي. ونحن الذين نعيش قضايا ساخنة ولاهبة لا نستطيع إلا أن نكتب عنها. نحن لا نستطيع إلا أن نقول للذين يريدون أن نكتب عن ترف الفن: انظروا الدماء في شوارع الأراضي العربية المحتلة في فلسطين. إن هذه المواضيع تفرض ذاتها علينا، وهي تحتاج إلى الواقعية الخلّاقة التي يمكن من خلالها أن تقول الرواية أشياء كثيرة ) (3).

ومحمود سعيد لم يستطع أن يغمض عينيه عن الدماء التي سُفكت، والتي ستُسفك – وقت كتابة الثلاثية – في وطنه بفعل عدوانات الولايات المتحدة الأميركية الوحشية على العراق، وبينها حصار العشر سنوات المجرم الجائر الذي اجتث مليون إنسان من شعبه.

وبعد الإحتلال الأمريكي المجرم للعراق، وتدميره، وتحقيق التعهد الأمريكي بإعادته إلى العصور الوسطى، ظهرت روايات تنحاز بشكل مخز وسافر لهذه الواقعة اللاقانونية واللاإنسانية، وفوق ذلك تزيّن للقارىء العراقي خصوصا صورة المجتمع الغربي في بلدي العدوان الرئيسيين:

الولايات المتحدة وبريطانيا، وحياة المهاجر المسترخية والموقرة وحسب قول أحد الكتاب العراقيين الذين يقيسون الوطنية بالوثائق والمعونات: بريطانيا منحتني الجواز والكرامة!! ناسيا أو متناسيا أن من لا يستطيع انتزاع كرامته في وطنه من برائن الذئاب، سيحتقره من يمنحه إياها من "جيبه" وسجلّاته في بلد غريب وهو مسترخ مع النوارس. وعلى طريقة أمهاتنا الأميّات اللاحداثيات في التعبير: ( الذي يطلع من داره، يقلّ مقداره).

لكن ثلاثية محمود سعيد، هذا العمل الضخم (أكثر من 680 صفحة)، تكشف بلا تردد وبلا لبس، طبيعة المجتمع الأميركي الفردوسي الذي منّى المهاجر العراقي نفسه به طويلا، كجحيم لا يُطاق، ومصدر ضغوط جسيمة يواجهها في محاولة التكيّف مع طبيعة الحياة فيه. فبرغم توفير الجواز و"الكرامة" إلا أن الكثير من المهاجرين العراقيين – في العيّنة التي عرضها محمود سعيد على الأقل – يواجهون ضياع "دلالات" ذواتهم، في مجتمع يقوم على أساس "فصل الدال عن المدلول" ولانهائية المعنى وصولا إلى ضياعه، ويسوّي بين الإنسان والمادة.

والثلاثية أيضا هي محاولة متفرّدة للغوص في أعماق نفسية المهاجر العراقي تحديدا، وما يعانيه من مصاعب، ويواجهه من تحولات بعضها يبدو مستحيلا لأنه يخالف الطبيعة البنيوية لشخصية هذا المهاجر. فهي لا تتردّد في الإمساك الحازم بمواضع الإختلالات العميقة في شخصية المهاجر والتي يأتي مُحمّلا بها من وطنه الأم فتُربك حياته في البلاد الجديدة. وهي – أي الثلاثية - كشفٌ لما يجري في مجتمعات هؤلاء المهاجرين من سلوكيات وصراعات وأفعال مُلتبسة ومُقلقة جعلتهم أنموذجا ينطبق عليه المثل العامي عن الكائن الذي "يضيّع المشيتين"، بكل ما يعنيه ذلك من ضياع وخيبة وصراعات. وعلى الرغم من أن المكان الذي اختاره محمود بنجاح هو "شيكاغو" الولاية الأميركية التي يعيش فيها منذ عقدين والتي عرف تفاصيلها كدليل مقتدر، إلا أن الثلاثية وخصوصا في جزءها الأخير هي بحث في معاناة المهاجر العربي إلى أي بلد غربي بشكل عام. فهو يدرك أن "الرحيل – اي رحيل – يعني قليلا من الموت".

وهناك سمات فنّية وجمالية باهرة على المستوى اللغوي والتصويري، وعلى مستويات اللعب على أوتار الضمائر الساردة وموضوعة الزمان والمكان ميّزت بناء هذا العمل بأجزائه الثلاثة التي جعلنا الروائي القدير نتعرّف على ملامحها في تحليلنا لوقائعها وسلوكيات شخصياتها وتعقيدات علاقاتها والتشابك المشوّش لعالمها الداخلي بالعالم الخارجي. تحيّ’ للمبدع الكبير "محمود سعيد".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى